الأسماء
قصتي في مجلة: الأقلام العراقية العدد الثاني – السنة الثالثة والخمسون 2023
حدثَ أن اجتمعت حيوانات الغابة؛ مفترساتها وفرائسها، لأول مرّة في تاريخ الغابات على الإيقاع بالحمار وتدبير مقلب يجعله يصمت، ولا ينهق بعدها، فقد أقلق نهارهم قبل ليلهم بنهيقه الذي لا ينتهي، فلقد كان ينهق ما إن يستيقظ ويظلّ على هذا الحال طوال النهار، وعندما يأتي المساء كان ينهق في أحلامه. تفتّقت أدمغة الحيوانات عن خطّة جهنّميّة، لم يفكّر بها أحد من قبل، لأنّها تكسر التقاليد التي توافقت عليها الحيوانات منذ وجدت الغابة وخلقت فيها الحيوانات، بأنّه لا يجوز تحت أي طائل أن يخرج حيوان من اسمه إلى اسم حيوان آخر، فالأسد يظل أسدًا، أكان قويّا أم ضعيفًا، والضبع ضبع، أكان نذلًا أم شهمًا، فالأسماء أبدية ولا تغيّرها الصفات، أكانت مؤقتة أم دائمة. كانت الخطّة تنصّ على أن تنادي الحيوانات الحمار باسم الحصان، ولا يجب أن يخطئ أي حيوان بذلك وإلّا سيعاني النبذ والهجران من أبناء جنسه وحيوانات الغابة الأخرى. أمّا الحركة الأخيرة من الخطّة، فقد وضعت على عاتق الحصان.
لم تؤجّل الحيوانات عمل اليوم إلى الغد، وبدأوا بتطبيق المقلب العظيم من لحظة اتفاقهم. وفي صبيحة المؤامرة، مرّ الحمار قرب أحد الثيران، فصبّح عليه الثور: صباح الخير أيّها الحصان، لم يستعجب الحمار ونهق ضاحكًا، وظنّ أن الثور كعادته قد قال إحدى نكاته السمجة التي لم تكن تضحكه حقًا، بل ما كان يضحكه اقتناع الثور، بأنّه يلقي على مسمع الحيوانات نكات مضحكة. تكرّر إلقاء فكاهة الثور من كلّ حيوان كان الحمار يمرّ به، ففكّر الحمار بأن جميع الحيوانات قد أصابتها لوثة الثور بإلقاء النكت، فاستمر يقابل تحيات الحيوانات المتضمّنة اسمه الجديد بالنهيق الضاحك، حتى صادف الحصان، فناداه: صباح الخير يا أخي الحصان، وهنا لم ينهق الحمار ضاحكًا، بل اندهش، لكنّه لم يسمح لنفسه بالتمادي في الحيرة، فالأمر خطير، فما تفعله الحيوانات يعدّ خرقًا لمحظور الأسماء، فلم تعد القصة تشبه نكات الثور، فقال للحصان: أيّها الحصان، لا بدّ أنّ في الأمر سوء فهم كبير، فلا يعقل أن تصبحوا جميعكم كالثور تلقون فكاهات تافهة. أجابه الحصان قاطعًا على الحمار شكوكه: أبدًا يا عزيزي الحصان، فالأمر شديد الخطورة بأن ينادى حيوان باسم حيوان آخر، لكنّ خطأ كبيرًا حدث يوم ولادتك، لقد اعتبرتك السلحفاة العمياء؛ الداية التي ولدت جميع الحيوانات على يدها ومن ضمنهم أنت، بأنّك حمار، لكنّ الواقع غير ذلك، فأنت من فصيلة الأحصنة، لذلك قررت جميع الحيوانات تصحيح هذا الخطأ، لأنه نذير شؤم، وفأل سيئ على الغابة التي لا تنجو من حريق حتى يضطرم حريق آخر. لقد استشرنا الغراب العراف كيف نجد السبيل إلى حلّ مشكلة اسمك، فأرشدنا وقال: يجب أن نغيّر اسم الحمار إلى الحصان، وإلّا سيندلع حريق كبير يأكل أخضر ويابس الغابة.
صعق الحمار من كلام الحصان: أهذا يعني، أنّني كنت حصانًا طوال حياتي، فلماذا أنهق وأنت تصهل؟
ابتسم الحصان وقال: لقد أصبت كبد الحقيقة بقولك، لكن كما تعلم بأن الأسماء تمنح الحيوان مميزات خاصة، فاسم الأرنب يمنح الأرنب صفة الجبن. واسم الأفعى يمنح الأفعى صوت الفحيح. واسم الحمار يمنح الحمار صوت النهيق وهذا ما حدث معك، فلو كان اسمك حصانًا، لكنت تصهل ولا تنهق. هذه هي ببساطة معادلة الأسماء، فلكل حيوان من اسمه نصيب كما يقول المثل.
أمال الحمار رأسه وهزّه بقوة كعادته عندما يطرد الذباب الذي يزعجه وقال: إذن، لقد أصبحت منذ الآن حصانًا، كم سأحتاج من الوقت حتى أصهل بدلًا من أن أنهق؟
الحصان: لا تستعجل، ما هي إلا أيام قليلة وينتصر بها اسم الحصان على الصفات التي منحك إياه اسم الحمار، فيمحوها لتظهر بدلًا منها صفات الحصان وساعتها ستصهل كأفضل الأحصنة صوتًا.
تذكر الحصان نكات الثور السمجة، ورآها مضحكة جدًا بمقابل ما يحدث له الآن والتفت نحو الحصان قبل أن يغادر نحو مرعاه: سأشتاق للنهيق، لكنّني سأكون سعيدًا جدًا، بأن تكون تضحيتي بحياتي كحمار، السبب الذي سينقذ الغابة من الحريق الكبير.
ودّع الحصان الحصان الآخر وافترقا، أحدهما كان ماكرًا، فيما الآخر كان بريئًا جدًا. فكّر الحمار طويلًا وكلّم نفسه: أيعقل أن أكون حصانًا طوال عمري، ولم أدرك ذلك! تذكّر الحمار أنّه لم ينظر إلى صورته يومًا في الماء، فما إن يقترب ليشرب، حتّى ينخر على سطح الماء، فيتعكّر، فلا يرى انعكاس صورته؛ لذلك قرّر الذهاب إلى الساقية، والنظر إلى انعكاس صورته في الماء، وعندما اقترب حبس أنفاسه وحدَق. لم يكن قد رأى يومًا صورته في الماء مسبقًا، فوقع في عشق صورته وهمس لنفسه، سأجري منذ اليوم كأسرع حصان في العالم.
مضت أيام لم يسمع فيها نهيق الحمار، فاطمأنت الحيوانات إلى نجاح خطتها وشكرت الثور الذي أوحى لها بهذه الخطة العبقرية من خلال نكاته العبقرية.
تتالت عدّة أشهر، لم ير أحد فيها الحمار -عفوًا الحصان- فطُلب في مرعاه، فلم يجدوه. لقد حزنت الحيوانات على غياب الحمار وتمنّت لو كانت أكثر حكمة، فلا ريب أنّ الحمار قد فطن لخدعتهم، وشعر بأنّه غير مرغوب فيه في الغابة، فغادرها إلى مجهول الغابات الأخرى. والأسوأ أن يكون قد توجّه إلى إحدى الغابات الإسمنتية التي يسكنها الإنسان، فيتم استعباده هناك.
كانت قد مضت سنة كاملة بفصولها الأربعة إلى أن جاءت حمامة زاجلة تحمل أخبارًا عن الحمار، فقد كانت تمرّ بالغابة بين فينة وأخرى، حاملة رسالة بين عاشقين، يسكن أحدهما في الشمال والثاني في الجنوب. قالت الحمامة الزاجلة لأهل الغابة: أيّتها الحيوانات، لقد حقّق حمار غابتنا ما لم ينجزه أيّ حصان عاش فيها؛ لقد ربح في سباق الخيول في المدينة، وتوّج كأسرع حصان في البلاد، وهذا ما أهّله لينافس في سباقات الخيل عبر العالم. صمتتِ الحيوانات جميعها، وكأنّ على رؤوسها القبعات كخيالات المآتة، وبدأت بالنهيق، في حين كان الحمار يصهل في ميادين السباقات، محقّقًا الفوز تلو الفوز، مقلقًا نهار وليل الحكواتية.
من المجموعة القصصية: الفراشات البيضاء، التي ستصدر عن دار ميسلون قريبًا جدًا



باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
