المصباح
ــــــــــــــــــــــــ كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ
اطفئت الأنوار، عيناه تبحلقان في الظلام، زاغ العفريت وغرق القصر والملك في قاع البحر. سمع امه تشتم مصلحة الكهرباء والمصابيح والعالم كله. تأوهت وهي تنهض وتتجه الى جهة ما. قام وفتح النافذة فرأى الحارة كلها غارقة في الظلام والصمت. التفت إلى الطريق فوجدها مستلقية بين المنازل وقد تدثرت ببطانياتها السوداء الثقيلة واستعدت للنوم. طالع السماء فرآها تشعشع بالانوار، وقد اقام القمر مائدة ضوئية ودعى النجوم لحفلته.
يتناهى اليه صوت شيء يتكسر، وانفجرت الام في ضجة مدوية، ثم قذفت جسماً معدنياً في الحوش. سمع تأوهات الجسم المعدني وتذكر ان شخصية صاحب هذا الصوت ليست بغريبة عليه.
جاءت وهي تسير ببطء، فرأى كأنها تحاذر ان تدوس على قطع زجاج متناثرة، أو أجزاء عفريت خبيث متبعثرة.
وبدا انها ترفع الجسم المعدني المتكسر. وحين لمع قليلا، وحدق فيه القمر مشمئزاً، عرفه! وتألم كيف انها ازاحت أكداس الأغراض العتيقة وجرته من ذيله لتطيح به فوق الأرض وتبعث الصورة القديمة والأثر الحاد كشفرة الموسى وتخدشه بزجاجة وتحز فرحه بصدئه وظلامه!
قالت:
– يا الهي الرحيم، لقد عضني هذا الشيطان!
وأخذت تعرج، قفز الى الدواء والقطن. أمسك قدميها وأحس بالسائل الحار يندفع من احدى الاصابع .
– لِمَ وضعت المصباح هناك أيها المجنون الأحمق! ها قد خسرناه وجرحني، والأسوأ ان علينا ان نشتري مصباحاً آخر! هيا، ماذا تنتظر؟ هل تريد أن ينشف دمي!
وجد الاصبع المجروحة، نظفها بقطعة قماش ثم وضع قطعة القطن المبللة بالدواء ربطها بخيط دقيق.
– أجلسي الآن، ولا تقومي من مكانك. أحذري الإبر التي تركتها هنا…
انصاعت لقوله، وجلست وهي تتأوه وتشتم مصلحة الكهرباء والشياطين التي تتعمد الاساءة اليها وتعذبها.
فكر بالقصة التي تركها ماذا سيفعل الفتى بهذا العفريت العملاق الذي وقف بين يديه وصاح: «شبيك لبيك.. عبدك بين يديك!» وقف كأنه عمود من نار، وتألق وجهه تحت أضواء الشمس النيرة ومد ذراعيه الهائلتين، كأنه يستعد لحمل القصور والكنوز والبساتين والمراكب الثمينة.. إليه.
رآه منبطحا على الأرض، بقرت امعاؤه وتمزق وجهه الزجاجي المسود ولم تبق فيه نقطة من نور ولا ذبالة ولا رعشة من فرح.
احس بالأم تبحث عن ابرها وقطعة القماش التي كانت تخيطها. وغمغمت وهي تتلمس الأشياء، فبدت وكأنها امرأة فقدت بصرها فجأة.
عليِّ ان أكمل خياطة الثوب يا علاء. ان صاحبته امرأة غنية طويلة اللسان. ولقد تأخرت عليها اسبوعاً بأكمله، هل توجد شموع في اغراضك؟
ولم تنتظر جوابه وعادت الى المرأة الثرية. راحت تصف منزلها. ادخلته من الباب الواسع الرابض على الشارع الرئيسي وعبرت الحديقة الى الطابق الاول. أسمعته عزف الأطفال على البيانو، وصياح المدُرسة عليهم وسخرياتهم منها.. ثم الغرفة المليئة بأقفاص العصافير.. وتذكرت فجأة الشموع والمرأة الغنية ولسانها اللاذع اللاسع فصاحت:
– لم أنت جالس هكذا، تحدق في هذا الكتاب الأصفر لم لا تبحث عن الشموع؟ هل تريد ان تصبح اعمى لتزيد شائقي؟! هيا انهض وأشعل واحدة (وبألم).. عليَّ ان أكمل هذا الثوب النحس.
وانتظرت جوابه فقال:
– لقد انتهت الشموع. لا توجد حتى واحدة.
حاولت أن تقوم فتألمت ثم تماسكت بصبر وتناولت ثوباً معلقاً على الجدار دست يدها فيه. سمع رنين قطع نقدية. كانت تتلمسها بشدة وتطل في وجوهها.
– خذ الدينار واشتر مصباحاً قوياً، جديداً وانتبه جيداً حتى لا يلعب الحاج منصور على عقلك ويبتلع الدينار.
صاح: اعرف. اعرف. اعرف!
وبحلقت في وجهه، ورفعت يدها وحاولت أن تصفعه لكنه فرّ منها بسرعة فكادت تسقط وراحت تتأوه بألم، وتلعنه بشدة ، وتعدد المصائب التي امطرت على رأسها حين قدم هو الى العالم.
وقف عند الباب وأبصر السماء شفافة، كماء ازرق مضاء بملايين المصابيح. سمع الأم تقول انها لا تريد أي مصباح جديد، ستغط في نومها ولتأت المرأة الغنية وتطردها من منزلها، سوف تذهب الى المقبرة وتموت هناك، أو تذهب عند البحر وتغرق.
أحسَّ بكلماتها تدفع شيئاً حاراً نحو عينيه، وجاءته ضجة الموج كأصوات جنازة رجل فقير. تذكر أباه وتفجرت في صدره غصة حارقة وود لو يهرب الى اصدقائه عند الدكان، أو يندس في المصنع بين العمال..
لكنه تذكر أيضاً العفريت، والفتى البائس، والملك الظالم والمدينة الجائعة والمخازن محكمة الاقفال والجنود بسيوفهم اللامعة وشواربهم المصقولة، وعمود النار العملاق واليدين الطويلتين الهائلتين والبطون الخاوية والحقول الخضراء الممتدة.. وود لو يلمس، لو يرى، تلك المدينة، تلك المملكة، تشبع وتفرح.
اتجه إليها، بحث عن خدها وقبله. لمس الاخاديد التي حفرته، وطافت في خياله صور قبور اخوانه الصغار، وارتعش برائحة امه الغريبة. وذاق دمعها المر، فتصلبت قبضته ثم بحث عن يدها فلمس الورقة النقدية الميتة في الكهف الحار النابض..
2
فتح الباب وارتمى في الظلام. صاحت به مجدداً، فرجع قليلا ورآها تحمل معطفه الأزرق العتيق وكوفيته الحمراء.. ابتسم وتناول الثياب بلا جدل.
– اذهب بسرعة، ولا تتأخر. أحذر العجوز الحاج منصور فهو غشاش ومخادع. وقد يجدها فرصة الآن كي «يتضرب».. تغطَّ جيدا بالكوفية فلم اعطك اياها من اجل الزينة!
سار وهو يتأفف. أمتد الزقاق امامه كنسوة تغطين جيدا بعباءاتهن وغرقن في الصمت. رأى كلباً يعسعس قرب الزبالة. وانفجر صوت طفل يبكي. تصاعد من النافذة وفاض في الحي ودّ لو يطل عليه، وبما اضحكه بالحركات التي يجيدها، والتي جعل بها العمال يغرقون من الضحك، أو ربما هدهده بحكاية غريبة مسلية فتجعله مفتوح العينيين من الذهول، ثم ما يلبث ان تسلل النوم الى أجفانه فينام على وسادة الفرح والأحلام.
تأمل الزقاق وبيوته المتغضنة «تذكر خد أمه» وأبصر أضلاعه المحدبة وعيونه المطفأة وقذاراته التي تذروها الريح فتحمل الأوراق وتلعب بها في الطرقات والزوايا، فتخسر الحارة كلها وتربح الريح.. ودّ لو كان بيده أن يضغط على الزر فيشعل الأنوار ويقيم فرحاً بهيجاً، كما يفعل القمر في خيمته الزرقاء الشاسعة.
سيتناول المصباح من يد الحاج منصور، صاحب العينين الخبيثتين، الذي سيرمق المصباح العتيق بتشكك، وينطلق الى اقرب بقعة مظلمة. ربما أطل الحاج برأسه الأشيب، بل لعله سيدس قدميه الموهنتين في نعليه ويسير ورائه. لكنه لن يدب على الأرض بل سيخبئ المصباح بين طيات معطفه ويطير في الهواء!
في زاوية مظلمة آمنة، سيضعه على الأرض، ويفرك يديه حبوراً، ثم سيتلمسه بحنو ويبدأ في إيقاظ العفريت. سيصحو العملاق على صوت طرق عنيف على نافذته، سيلقي الدثار حانقاً، وينطلق فاتحاً باب غرفته المظلمة، ويخرج الى النور. سيرى أمامه شيئاً صغيراً لا يكاد يرى. سيفتح ذراعيه ويصيح: «لقد نهضت أخيراً يا سيدي فقل ما شئت!»، لاشك انه مزحوم بإعماله فربما يكون حارساً في مصنع، أو صاحب سفينة تمخر عباب الظلام.
الحيرة تداهمه، لا يعرف ماذا يختار، ثمة آمال كثيرة، وأحلام وفيرة، الأزقة، امه، امه الكئيبة الحبيبة، منزلهما، اصدقاؤه، العمال، المصنع، الظلام، النور، الفرح، الحزن، وينظر إليه العفريت باستغراب ويقول: «لقد أخرجتني في هذا البرد يا سيدي فقل ما تريده بسرعة حتى يمكنني تنفيذ رغباتك والعودة مجدداً الى فراشي الطيب. إنني تعب جداً!». يقول له: «اريد ان تكون امي سعيدة» أبتسم العفريت وقال: «هذا أمر بسيط» وأضاف هو «اريد بيتاً جديداً رائعاً »، تطلع إليه العفريت وكأنه يقول: ألهذه التوافه أيقظتني من نومي الهانئ ودعوتني في هذا البرد؟! قال بصوت ساخر مسموع «حسناً جداً، وماذا بعد؟» فكر بعمق، وتطلع الى الحارة بأسى، ورأى نوافذها العمياء وسمع بكاء الطفل يتحول الى بحث أظافر مجنونة عن ماء في التراب وأعشاب وجذور. هتف: «أجعل الحارة جنة!». حك العفريت رأسه مفكراً وقبل أن يقول شيئاً لمع ضوء نحيل أصفر كحربة مضيئة تنغرز في الماء تصطاد الأحياء.
صاح رجل بهيبة، وسلط الضوء الكريه في عينيه، فأزاح اسنانه الحادة بإصبعه، وحاول أن يبحث عن ملامح الرجل وهو ينحني مبتعداً عن الحربة.
صرخ الرجل:
– قف ايها الشقي وإلا اطلقت النار عليك!
تبين شرطياً قصيراً ممتلئاً يتقدم نحوه. تفحصه الشرطي باستغراب ثم اطلق ضؤه في امعاء الزقاق وصار يقلب بحربته الاوراق ويتفحصها.
– ماذا تفعل ايها الصبي هنا؟
رأي كم هو عجوز وتعب! لعله يريد ان يلقي بجذعه الواهن عند جدار أو على كرسي أو يستريح على مسند بين أطفاله الاشقياء.
– ان بيتنا هنا يا عمي. هل تريد شاياً يدفئك أم تريد مساعدة ما؟
– أشكرك يا بني. واصل طريقك واحذر المشاغبين والأوراق السيئة.
ابتعد وهو يبتسم بسخرية.
3
خرج من الزقاق فرأى الشارع الواسع والأضواء المتألقة والبيوت الكبيرة وسمع السيارات وأصوات سينما قريبة يبدو الشريط الاعلى من شاشتها وجاءه حفيف موسيقى راقصة من بيت كبير يجثم على الشارع فكأنه يسمع تأوهات البيانو تبعثها ايدي الصغار العابثة. وأحس بالنصل يرتعش على صدره ثم يحز جلده ويمضي بطيئاً بطيئاً الى القلب.
تذكر حين وقف بين طابور العمال وأبصر الأوراق تعد بدقة وتدس في الجيوب بين الفرح والتجهم. ودّ لو يرقص فرحاً ويسرع بالتقاط النقود ثم يجري سريعاً إلى أمه ويلقي الاوراق في حضنها، يبهرها بهذه الالوان الزاهية ثم يأخذ ورقة أو ورقتين وينطلق إلى المطاعم والسينما.
وراح يتقدم نحو النافذة، نحو النقود. واخيراً.. حدق في العامل والنقود والورقة الكبيرة المخططة وهتف الرجل: «وقع!» ولم يعرف شيئاً، واحتار بين الخطوط. ثم قال: «انني لا اعرف القراءة»، وحدق به الرجل مستغرباً وصاح: «أعامل صغير مثلك لا يعرف القراءة!» وسمع العمال يضحكون، ثم ربتوا على كتفه ساخرين، وفكر في وفاة والده وكيف جرته أمه الى المصنع بعد ايام قلائل، فغابت المدرسة والتلاميذ والفصول، والقي في هذا المكان الغريب، وتحاوطته اكداس السمك والثلاجات والزنود والرائحة الكريهة والزعيق والشتائم والأوامر، فنسيَّ أشياء كثيرة، تلاشت الرسوم والكلمات الجميلة لتظهر هنا، غريبة، مسجونة في خطوط وقضبان. اعطاه العامل النقود وأخذ ابهامه ووضعه في الحبر ثم على الورقة. ولم تزل التعليقات تتحاوطه، وتذكر منزلهم الكئيب والمدرسة البعيدة واباه الغارق في الماء وكيف جرته امه الى المصنع ودفعته الى الداخل وراحت تتضرع الى صاحبه، وذهل كيف ان البشر قساة الى هذا الحد، واخذ سائل حار يلهب عينيه وأراد أن يقذف بنفسه بعيداً، وتسلل من بين الواقفين وعبر الساحة وانهار تحت الجدار واخذ يبكي ويبكي حتى انتبه الى الجمع الذي احاط به، وكان لا يجرؤ على النظر إليهم، وأحسّ انه سبب ازعاجاً لهم بهذا العمل، ومسح أحدهم على رأسه وقال: «ليس هناك ما يدعو الى البكاء يا علاء. ستتعلم هنا، ستتعلم هنا كثيراً!»
4
بان دكان الحاج منصور وراء محلات الشواء. وتصاعدت الرائحة اللذيذة وأحس بلعابه يسيل، ولكنه تجاوز مناقل الشواء ودخانها المتصاعد المخدر، واقترب من العجوز الواهن الناعس، الذي أسند رأسه قرب راديوه الكبير العتيق وراح يسمع دندنة غير واضحة.
– أسعدت مساءاً يا حاج منصور .
رفع الحاج رأسه المتثاقل، وأخذ يتبين القادم بعينيه المتعبتين ثم رد التحية ببرود.
طالع سلع الدكان فرأى مجموعة قليلة من المصابيح تتدلى من السقف وقد علاها الغبار وتجمعت سلع اخرى على الرفوف: صحون، أباريق، كراريس، أقلام، كتب..!
– أريد يا حاج مصباحا جديداً قوياً.
نهض الحاج وراح يتمعن في المصابيح ثم اختار واحداً ذا شكل غريب ووضعه امام عينيه وقال:
– أنه متين ويصمد للسنين القادمة والقاتمة.
ابتسم وأحضر شيئاً من الكيروسين وصبه فيه.
– هذا يكفي للطريق.
اعطاه الدينار. ولم يساومه. وشعر بالإحراج، وتذكر سياط امه المنتظرة، ورمق الحاج بخجل، وطالع الكتب بأمل. وأخذ الحاج يبحث في درجة عن شيء ما وبدا كأنه قد نساه. وفجأة زقزقت النقود المعدنية الصغيرة في يده وناوله شيئاً منها. عدَّها بفرح وأضاء الفتيل فبهره النور الساطع. وتذكر أمه وكتابه والفتى والعفريت والملك والمدينة الجائعة والصغار والكبار فأدرك أن الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر.
وقف متردداً وحدق بانبهار في الكتاب الصغير وقرأ عنوانه بلمح البصر، طالعه العجوز مبتسماً، وناوله الكتاب وأخذ القطع الصغيرة. دس الكتاب في معطفه وتمتم شاكرا.
انطلق وعبر السيارات الواقفة والمشترين والشارع وتذكر في تلك اللحظة. انه نسى اللحم المشوي لكنه لم يهتم وأخذ يلهث وهو يحاذر المارة والرواد المتجهين الى السينما وفكر بأنه يجب أن يصل بأقصى سرعة إلى أمه الجالسة على الجمر.
راح يطالع المصباح. كم هو جميل ومضيء! ولم يدر كيف تسللت الى ذهنه صورة المصباح القديم، وتساءل باستغراب: لم خبأه بل حطمه، تحت أكداس بقايا المنزل والإغراض المشوهة؟! وحاول ان يبعد الصورة التي نزلت عليه بكل ثقلها، وأراد أن يطردها بالنور الجديد لكنها ارتسمت بحدة على الشاشة.
توقف عزف البيانو وسكنت أصابع الأطفال العابثة. وصمت الشارع وصمت كل شيء.
وأنصت إلى أمه تدعوه للنهوض من مرقده. لم يستجب لها وكان الدفء لذيذاً. وعما قريب سيأتي أبوه فيختبئ في صدره ويشم رائحة البحر والسمك والصيادين، ولكن امه تسحب الدثار، وتصفعه بقوة على خده فيصحو ويعي ويرى المصباح في يدها كالحية. وتجره من يده، وتصيح بأن اباه اختفى، ورأى جمعاً من اهل الحارة يمضون معهماً، وغاص النوم في الأرض وأحس بأنه يرى كل الأشياء، فيعرف الهواء الهائج والسماء الغائمة وعيون الناس الباحثة على الشاطىء. وراحت تقلب الأشياء وتطرد الظلام و.. توقف الجمع عند الرجل المتمدد بين الماء والحجر. و.. قرَّبت الضوء من الجسم الممزق. ورأى وجه أبيه بشكل لم يسبق له مثيل. عيناه مطفأتان. وشفتاه ممزقتان. وأبعد وجهه وترنح فوق الماء. جسمه ممدد وقد أكل منه البحر ورماه. وانفجر بكاء واهتز المصباح وارتجفت الظلال. ترنح في الماء وأحس به بارداً، ثلجياً…
5
عندما دخل الزقاق رآه يضاء بمصباحه. شعر بالسعادة لأن أمه ستواصل عملها، والمدينة الجائعة سترى النور والملك سيتفحم في الأرض.
بغتة سمع صيحة الشرطي، ورأى رجلاً يجري نحوه. ولم يستطع ان يلمح وجهه لأنه ذاب في احدى فتحات الزقاق العديدة وبقي صدى خطواته يرن في جنبات نفسه. ولمح أوراقاً صغيرة تحبو بمحاذاة الجدران، ثم جاء الشرطي يسعل ويلهث. ولم يحتج لإشعال مصباحه هذه المرة. وأخذ يحدق في الطريق باستياء.
– لقد هرب مني هذا اللعين.
وطالعه بتفحص وكأنه عرفه. حك رأسه وهو يزيح قبعته قليلا.
– هل تريد مساعدة ما يا عمي؟
– نعم، نعم ايها الفتى الطيب. هلا جمعت معي هذه الأوراق الشيطانية.
أسرع لتلبية طلبه. وضع المصباح في وسط الطريق وراح يجمع الاوراق بسرعة.
– أنك تعرف القراءة جيداً يا عمي؟!
ضحك الشرطي وهو يقول:
– ابداً. أنني لا أفرق بين الأسود والأبيض.
انتزع الكتاب ووضع الوريقات مكانه. وجد الشرطي مستمراً في بحثه. انتزع الغلاف وفتق الأوراق وفلها بسرعة وواصل البحث وتذكر ان امه قد انزعجت ولا شك الآن، ودس الوريقات في جيوبه ووضع بعضها مع أوراق الكتاب. جلس الشرطي على عتبة احد الابواب وهو يتأفف ويشتم المشاغبين ومصلحة الكهرباء معاً.
أعطاه الأوراق فاستغرب كثرتها. ونهض بتثاقل وأخذ يشكره بامتنان ثم مضى وهو يتأوه.
رأى الزقاق يستعيد بعض النور الذي فقده، وأنصت الى الصمت الشامل فكأن البيوت اغرقتها الظلمة.
وكأنه يسمع نداء أمه وكأن غرفته الرائعة الوادعة تدعوه، ولكنه حين تحسس هسهسة الوريقات في معطفه رمق كل الجهات.. وراح يسربها عبر فتحات الأبواب والنوافذ..
26.11.1978
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 – الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء – لعبة الرمل– الأحجار – العرائس – الماء والدخان».


