العشبُ اليابس – باسم سليمان

العدد 639 تشرين أول / أكتوبر 3023

لا شيء فيه يخيف! لا حيوانات متوحّشة، ولا أشباح، ولا قاتل مقنّع يطاردني، لكنّني ألفته، رغم أنّني لم أستطع يومًا استرجاعه بشكل كامل. أستيقظُ  من النّوم على ذاكرة قد احتفظت بجزئية صغيرة جدًا من ذلك الكابوس، تتعلّق بغراب يحاول أن يخطف قبعتي البيضاء عن رأسي، مع شعور بالعطش الشديد، الذي  يتجلّى بإحساس ملمسٍ خشنٍ لعشبٍ يابسٍ في حلقي، حتى أكاد أن أبصقَ بعض الأنصال الحادّة. لم يكن شعور العشب اليابس في حلقي فقط، بل على امتداد جسدي، الذي أصبحتُ أدركه محشوًا بالعشب اليابس. ما إن أفتح عيني، مغادرًا جحيم هذا الكابوس، حتى أهرع إلى شرب كمية كبيرة من الماء، مليّنًا سقف حلقي غير مكترث لشعور العشب اليابس في جسدي، ولو أوليته الاهتمام وفقًا لِما أحسّ، لَخمنتُ أنّ جسدي سيتكسّر، ما إنْ أضغط عليه. لقد حاولت كثيرًا في لحظات خلوتي أن أربط بين الكابوس وحدث ما، قد جرى لي في الماضي، لكن لم أجد ما يثير الاهتمام. وأمام عجزي، أصبحت أستعدّ له بزجاجات من الماء قرب سريري، حتى أستطيع أن أحظى بنوم هادئ، إلى أن يقطع غفوتي حضوره، فأغادر السرير، ولا أعود للسبات بعدها.

أعمل مراقبًا في مديرية المياه، وعادة ما أقوم بزيارات دورية للكشف عن سلامة الأنابيب التي تورّد المياه إلى الخزانات التي تسقي المدينة. قادتني إحدى زياراتي إلى الخطّ الشّمالي الذي يغذّي الضاحية الغربية من المدينة، فقد أُعلمتُ عن تسرّب الماء من أحد الأنابيب. ركنتُ سيارة البيك أب وتابعتُ الخطّ عبر حقل القمح. وفي منتصف المسافة بين غرفتي تفتيش للماء، وجدتُ التسرّب وقد شكّل بركة صغيرة، وما إن اقتربت منها، حتى طارت عدّة غربان كانت تشرب الماء. لم أعطِ الأمر أهميّة تُذكر، فهذا المشهد مألوف في الحقول. عملتُ على إصلاح التسرّب مع الإبقاء على نزر يسير يسمح بمدّ البركة الصغيرة بالماء؛ كي تشرب الغربان.

وقفتُ على حافة البركة التي تشكّلت بعرض متر وطول مترين! كانت الشمس أمامي، فلم أجد انعكاس صورتي في الماء، وإنّما انعكاسًا لفزاعة طيور، رفعتُ رأسي لأتأمّلها. كانت الفزاعة تهزّها الريح، وعلى كتفها الأيسر غراب يحاول نزع  قبعتها، في حين كسا جسدها المصنوع من القشّ بنطال جينز أزرق وقميص أبيض. ما شهدته؛ كان يشابه الجزئية الوحيدة، التي أتذكّرها من الكابوس! ماذا يعني ذلك؟ لا أعرف! لكن خيّل إليّ، أنّ ما ترتديه الفزاعة هي ثيابي التي سُرقت منذ حوالي السنة عن حبل الغسيل. هزئت من أفكاري التي عصفت بي وغادرت المكان.

مررت في طريق عودتي من العمل إلى السوبرماركت، اشتريت صندوقًا من المياه المعدنية وبعض الطعام وجريدة أتابعها باستمرار، وعدت إلى المنزل. عادة ما أغرق في النوم لمدّة ساعة بعد الطعام. هذه القيلولة أعتبرها تعويضًا عن قلّة نومي في الليل، وكالعادة تكرّر الكابوس، فهو لا يميّز بين رقاد الليل وقيلولة الظهيرة، يا لغبائه! وكالعادة عندما أستيقظ منه، أروي جفاف حلقي بزجاجة كاملة من المياه المعدنية. ومن ثم أبدأ بتصفّح الجريدة، فأهمل الأخبار السياسية وأركّز على الرياضية، وإن وجدتُ في الصفحة الثقافية ما يثير الاهتمام، أقوم بقراءته.

لمحت في أسفل الصفحة الثقافية، تحت قصيدة بعنوان: (الغراب) لوحة لفزّاعة طيور ينعكسُ ظلّها في ماء بركة صغيرة مع أنصال عشب بدا يابسًا يحيط بها. كان اسم الكاتبة يعود لفتاة أظنّ أنّني كنت أعرفها من أيام الدراسة الجامعية، تتكلّم في قصيدتها عن حبّ قديم، ظلّ حبيس صدرها، وفزّاعة نصبتها في حقل القمح كذكرى عن ذاك الحبّ الغائب! أيّة مصادفات هذه؟ عاودني العطش، فأفرغتُ السّائل الذي بلا لون، ولا رائحة، ولا طعم  في جوفي. ومع ذلك لم يفارقني جفاف حلقي، لكنّني ولأول مرّة خلال صحوي ينتابني شعور بوجود غرابٍ يقف على كتفي الأيسر يحاول نزع قبعة غير موجودة عن رأسي. تلمست رأسي، وبعدها نظرت إلى الأسفل، فوجدت ثلاث زجاجات من المياه المعدنية الباردة مرمية قرب الكرسيّ الهزّاز الذي أجلس عليه في استراحة الظهيرة، وقد سُكبت محتوياتها في أرض الغرفة، لتشكّل حولي بركة من المياه، بعرض متر وطول مترين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 31, 2023 06:57
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.