عالم قاسم حداد الشعري : كلمة الغلاف
في الدواوين الجديدة الصادرة في الثمانينيات بعد الخروج من السجن، تنقطع التجرية للعقد الماضي، على نحو متقطع متداخل مركب، فقد أخذت ما تسمى بـ(قصيدة النثر) المساحة الأكبر إن لم تكن الكلية، فيما تراجعت قصيدة التفعيلة التي ارتبطت بالوهج الأساسي للشاعر، خاصة مرحلة الغضب والثورة، والتي اتسمت بوعي حاد في المراحل الأولى فأما النار أو الرماد، أي رفض جدلية الأشياء، لينتقل الشاعر إلى وعي هادئ وعميق وهذه مثلته دواوين مرحلة السجن المدروسة سابقاً، بحيث غدت تلك هي الفترة الأخصب والأكثر حرارة، والصادرة عن توهج، في حين إن المرحلة التالية تتكون في ظل إشتغال عقلي تأملي عامة، تدفعها قدرة مستمرة على الكتابة، لكن تلك الحرارة المتوهجة تظهر بين عمل وآخر وتسيطر مسحة التأمل والهدوء.
وحتى لو أن قصيدة النثر بدأت من قلب الحب والقيامة فإن الديوانين تشكلا في ظلِ زمنيةِ المعاناة الساخنة، وفي ظل وعي بطولي بالحياة، والعلاقة مع الذات الجماعية، طليعة التغيير موجودة بعض التواجد، لكن بعض دواوين الثمانينيات وما بعدها تشكلت في حياة جديدة، تم الخروج فيها إلى الحياة العادية، وقد تغير البناءُ الاجتماعي الفقير بشدة إلى بناء تحققت فيه معدلات معيشة جيدة خاصة للفئات الوسطى والصغيرة التي تنامت مع تحول الجهاز البيروقراطي الحكومي إلى الحوت الأكبر الملتهم للدخل العام، وعبر تصعيد الفساد ودهس القوى التحديثية المعارضة وفتح الأبواب للجماعات المذهبية السياسية تشتغلُ بحرية، وقد توجه قاسم حداد من ظلمة ومعاناة السجن إلى الجهاز الإعلامي الحكومي، فمن النقيض إلى النقيض، من رسالة الثورة الآنية إلى العمل في الحكومة المراد سابقاً هدمها، وهذا التغير قاد إلى التحول من مناخ شعري تصادمي صراعي إلى موقف صراعي بعيد المدى يتسمُ بخلقِ تراكميةٍ ثقافية تنويرية وبالبعد عن كتابة الصراع الساخن السابقة، وكان موقف قاسم دقيقاً في تلك المرحلة الشمولية الكاسحة، فهو قد أُنهك من عالم السجن صحياً ونفسياً وتعبت عائلتهُ من العسف غير المبرر، لكنه كسب من السجن أفضل أعماله الشعرية وكون له رصيداً أدبياً لامعاً في الساحة العربية.
وبهذا فإنه في الخلق الأدبي لم يتهالك ساقطاً نافخاً في سلطة أضطهدته، ولم يتحول إلى إدانةِ جماعتهِ بل ركزَّ على الخلق الأدبي والثقافي سواء عبر العمل الثقافي الإداري من خلال عضويته في أسرة الأدباء والكتاب أو من خلال رئاسته لمجلة (كلمات) أو من حركته الثقافية العامة، وأساساً باشتغاله على تجربته الشعرية يواصل في رفدها بالجديد، وينتقل في مواقف عديدة من ثورة الشكل إلى التطور الداخلي المتعدد الأبعاد.
وهذا الموقف الصعب كان لا بد أن يركز على الشكل إلى اقصى انقطاعاته عن تحليل الصراع الطبقي شعرياً، إلى درجة (الثورة) التي تغدو شكلاً تعويضياً عن ثورة لم تتحقق على صعيد النضال الواقعي، وهي ثورة شكلانية لا تضر السلطة الشمولية بل على العكس تريحها، لأنها توجه الثقافة بعيداً عن عمليات الحفر في البناء الاجتماعي النخر.
وفي هذه الفترة الانتقالية لم يشغلهُ ما يجري من عمليات صراع بقدر ما يركز على أدواته الشكلية التي يتصور إن في التوغل فيها إلى اقصى مدى أمر يحقق العملية الثورية الأدبية.
وفي أحيانٍ عديدة يفلت من رقابة الشكل الصارمة وينساحُ في نقد دلالالي ساخن، ويبحث للشعر عن فتحات للهجوم، لكن المناخ التجريدي مسيطر، والعلاقة بجمر الصراع والثورة تباعدت، وهي العلاقة المؤسسة، فراح النثرُ الهادئ ينتشر باتساع والمخيلة تتوجه لحفريات ذاتية – جمالية.
كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة


