تحدياتُ العلمانية البحرينية


حين يرحل المناضلُ العجوزُ* ربما نؤجلُ البحثَ في تاريخه كله الآن، ونتذكرُ لحظةً مفصليةً مشتعلة من تاريخه، هي قراءته لهيمنة القوى الدينية المستغلة للإسلام لمسرح الحياة السياسية.
هذه القراءة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية لترى الانهيار من جهتين: من جهةِ عدم فهم النظرية الاشتراكية ومن جهة عدم فهم الإسلام. لأن تلك اللحظة عكستْ خموداً من جهة وطغياناً من جهة أخرى. هيمنة القوى الدينية على مسرح اليسار (واليمين الليبرالي كذلك) قد جرت وهو في حالةِ أنقاضٍ وضرباتٍ من كل الجهات.
ثلةٌ قليلةٌ وقفتْ ضد هذا في مسرح المحرق السياسي حيث الغرف الصغيرة للحوارات الساخنة، وفي حالة عدم القدرة على إنشاء روابط واسعة في حياة الناس نتيجة لتاريخ دام طويل.
لن يذكر تاريخُ الأشباحِ هؤلاء القلة، والعجوزُ الكهلُ كان من ضمن هؤلاء، الذين قبضوا على جمرةِ الشعب المتوهجة في أيديهم.
تصدوا بأفكارهِم لدخولِ القوى المذهبية السياسية مسرحَ اليسار وإحتلاله، كان لديهم تاريخٌ طويلٌ من التضحيات، عملوا لتشكيلِ شعبٍ موحد، وزرع أفكار ديمقراطية وطنية تميل للعاملين ولكلِ قوى النهضة، رفضوا تسييسَ السنة والشيعة وإعادة البحرينيين لما قبل تاريخ الهيئة ونسيان تضحيات عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان ورفاقِهم الكثيرين، أي العودة للوراء، وتحويل الشعب الصغير إلى معسكرين، كان كارثةً بكلِ المقاييس، مهما ارتدتْ العمليةُ من شعاراتٍ براقة.
ليس هذا دفاعاً عن الحكومة بل نقداً لعملها في سد الأبواب أمام القوى الديمقراطية في العقود الماضية.
الإشكاليةُ بطبيعةِ الحال أكبر من كافةِ الشعوب العربية الإسلامية المفتتة، غير القادرة على التوحد النهضوي مجدداً، بعد اللمحات الوطنية النهضوية الليبرالية التي جرت في سماواتها المتفرقة، المتباعدة، التي انفجرت مثل الشهب في تلك السماوات، الوفد في مصر، والتوحد الوطني في العراق، والهيئة في البحرين وغيرها في كل بلد عربي.
التماعاتٌ سريعةٌ لأن الأصواتَ الديمقراطيةَ شاحبةً وضعيفةً في المجتمعاتِ العربيةِ التي تكدستْ الأبنيةُ الإقطاعيةُ فوق صدورِها ألفَ سنة، وجاءَ الاستعمارُ ففتحَ بعضَ القنواتِ الصغيرةِ لمرورِ الضوء وتركَ جبالاً جاثمة.
كانت شبكاتُ الغوص في المحرق لم تستطعْ سوى أن تحول القبائل إلى (فرجان)، وهي كلمة عامية تعني الفريق، فكانت القبائل فرقاً عسكرية، تجثمُ على مكان ويكون لها، ورغم تحول عامتها إلى عاملين، فإن الجذورَ العسكريةَ والأنتماءَ القبلي التحالفي ظلتْ مستمرةً فيهم، ومع كل تبدلات في الإنتاج تكون لها تغييرات لا تصل إلى زوال تلك الأسس القبلية المذهبية التحالفية.
وقد ظهر سوقٌ فيها، عبر نمو تراكماتِ الفيضِ الاقتصادي لزمنِ الغوص، في البحر والدكاكين، وظل هامشياً على ضفافِ المدينة خاصة، وكعروقٍ صغيرةٍ في أنحاء جسمِها المتماسك، كأنه القبائل العسكرية المتخوفة من الخارج، والمترابطة، ولهذا ستكونُ محكومةً بهذا الهاجسِ العسكري (السني)، الذي يستقبلُ أعضاءَ المذاهب الأخرى كعاملين لديه، ليس لهم إستقلال سياسي، وهو بهذا متخوف من المذاهب الأخرى ويخاف من إختراقه، ولهذا يتراص داخلياً ويتعصب، وتكونُ للمدينة بهذا نشأةٌ جغرافيةٌ مأزومةٌ بين البحر والبرية، في تضادٍ مع القريةِ ذاتِ الهويةِ المذهبية المغايرة، والمدينةُ تضعُ أوزارَ الغوص تدريجياً وتلبسُ أشكالَ الحداثة، كالقرية لكن الأخيرة تقومُ بذلك على زمنيةٍ أطول، ويتنامى السكانُ المدنيون في أزمةٍ معيشية، فالغوص توفى، والنفط ليس سوى أجور زهيدة تُدفع لعاملين محظوظين تمكنوا من الالتحاق بالجبل، وهو التسمية الرمزية لشركة النفط.
لم تستطع التجارة التي اتخذت صفة الدكاكين التي رضعت من أثداء الغوص ببيع حباله وخشبه ومواده المختلفة، وامتدت للبضائع الجديدة الأخرى الاستهلاكية غير الثمينة غالباً، أن تخلق (طبقة) تجارية في المدينة، بل بضع عائلات تجارية أمتدت قليلاً في شراء الأراضي، والعمارات.
ولهذا فإن مستقبلَ الطبقة التجارية سيكون في المنامة التي كانت لها مساحاتُ فراغ أكبر، وقدرة على المناورة المكانية أوسع من المحرق، وتوسعاً في الوكالات، وكذلك عرفتْ جدلاً إجتماعياً أكبر من المحرق، فتداخلتْ في أحيائِها الطوائفُ والمهاجرون وأنتشرت فيها التجارة على نحو كبير، والسمة العروبية السنية الكبيرة في المحرق تجاوزتها المنامة بتعدديتها الإسلامية والقومية!
تشكلت الوحدةُ الوطنيةُ الأبرزُ، العمودُ الفقري للبحرنة، من هاتين المدينتين، بتمايزهما وبتداخلهما، وصراعهما زمناً ثم وحدتهما النضالية، التي ارتفعت عن المذهبية وبدأت تصيغ الوطنية البحرينية!
لم يكن بإمكان مدينة المحرق أن تكوّن طبقةً تجارية، أو ثقافةً حضرية ديمقراطية، رغم نشوء التعليم المبكر فيها، وظهور المجالس والمنتديات الثقافية والتعليمية، وكانت الرموزُ النادرةُ التي تعودُ للزمنِ التقليدي الثقافي كالشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وعبدالله الزائد وعبدالرحمن المعاودة تؤكد الماضي الثقافي المبهر للمدينة وكذلك عملية الانطفاء الثقافية وعدم قدرة هذه الرموز على إنتاجِ ثقافةٍ وطنيةٍ ترضعُ من التحديثِ لصعوبةِ المهمة وضخامة العراقيل.
وهذا يعكس من الناحية الاجتماعية الغائرة عدم وجود حوار مؤسساتي بين الشيوخ والعامة، وبين المدينة والقرية، فقد انقسمتْ القبائلُ انقساما حادا، بين قمة وسفح، وتحول العامةُ إلى ما يشبه الرقيق في نظامِ الغوص، وسنجدُ هذه المرارةَ متفجرةً حادةً في شعر علي عبدالله خليفة، الذي ارتسمتْ في قصائدهِ عظامُ الغواصين الملتهبة وغرقُهم المستمرُ في الليلِ الاجتماعي، الذي تجسدَ بحراً لا يرحم وعلاقات اجتماعية استغلالية بشعة، غير إنسانية، وكذلك صَورتْ تلك الأشعارُ التي أُنتجتْ في المحرق طبيعةَ المثقف البحريني في المدينةِ كفردٍ ينتظرُ المخلص، القادم، فيراهُ في البطلِ الشعبي، وفي الإنسان العامي الذي ينزلُ للصراع في الشارع، ويرحل، ويتحول لديه إلى أسطورةٍ، ورمز، أو يراه كذلك في الرمز السياسي العربي القومي: ناصر.
إن تحول العامة إلى ما يشبه الرقيق في نظام الغوص خلقَ عامةً مسحوقة غير متعلمة، حادةَ المزاج، بسببِ هذا الانحصار المعيشي وهذه المدينة الضيقة المزدحمة التي هي أشبهُ بسجنٍ كبير، وتشرّب الشبابُ هذه الأزمةَ وهذه العواطف الحادة وهذا الصخبَ السياسي المتفجر في المقاهي الكثيرة المنتشرة، وقام الراديو بربطِها بأحداث العالم، ولهذا فإن تأييدها لأدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية غير مستغرب، فهي تبحثُ عن بطلٍ يقومُ بتوجيهِ ضرباتٍ حادة وقوية للاستعمار، أي أن يذلَ عدوَها البريطاني، مثل كل الشعوب الأخرى المكتوية بسيطرةِ الاستعمار ولا تملكُ قيادةً وطنيةً حصيفة، مثل غاندي في ذلك الوقت تماماً، الذي كان موضع سخرية من هذه الجماهير، وكان يجابهُ الامبراطوريةَ العجوز بعنزةٍ، وراح يشاركُ في الحربِ العالمية الثانية ضد الهتلرية البغيضة.
عبدالله الزائد الذي تعاون مع السلطة البريطانية كان حصيفاً بعض الشيء في فتح قنوات التعاون في مثل تلك اللحظة التاريخية المهمة، التي تجسدتْ ورقا صحفيا وأدبيا بحرينيا لعبَ دورا كبيراً أكبر من هذه اللحظة وأطلق بداية الكتابات البحرينية المختلفة في المقالة والقصة والنقد والشعر التي قامتْ بالدورِ التوحيدي الثقافي كمقدمةٍ للتوحيد السياسي. لكن الزائد لم يكمل مشواره بسبب ان قدراته الفكرية والنفسية لم تكن متماسكةً وقادرةً على الاستمرار والتجدد وخلقِ إنتاجٍ مستمرٍ متابعٍ لمدينةٍ “نهضوية”.
انحصارُ عبدالله الزائد وجفوةُ مدينتهِ له، مظهران لعجزٍ مشترك، فالمثقفُ الفردي النهضوي غيرُ باحثٍ عن أدواتٍ تحليليةٍ وتعبيرية مواكبةٍ لتطور المدينة، والمدينةُ المأزومةُ بعامةٍ مسحوقةٍ غيرِ صبور، تبحثُ عن إنقاذ سريع، يتحققُ في لحظات، حتى لو كان مدمراً، على هيئة هتلر، أو على هيئات آخرين يتابعون الصفعات الحادة للاستعمار البغيض فيما بعد ويسببون تحديات واختراقات وربما كوارث، وإذا كان هتلر بعيداً ليس عن المحرق فقط بل عن الخليج ككل، إلا من طائرة عابرة تلقي قنبلة فاشلة، فإن نماذجَهُ سوف تتالى مع أزمات دول الشرق المتصاعدة، وتقارب المحرق بقوة من الراديو ذي السلطة الكبيرة في الشوارع، ويمكن أن تُدار المدينة من الخارج عبره.
إن الأزمةَ المعيشية والهياجَ النفسي وفقدان آفاق التحول الموضوعي، ومحدودية العناصر المتعلمة والمثقفة، وهشاشة “طبقة” التجار، غير المتجذرة في حداثة وقوة اقتصادية، والجذور العسكرية القبلية للمدينة، حيث يُحل كلُ شيءٍ بالقوة وحدها، هي كلها تجعلُ عنصرَ البطلِ العفوي والعاطفي الحاد والمتوجه للموجات السياسية القوية الطافية في البحر الاجتماعي هو القوةُ الصانعةُ للأحداثِ اليومية في المدينة، إنهُ ينفعلُ بقوةٍ بها، وينقلها للجماهير “المتعطشة للنضال القومي”، أو للنضال التقدمي العمالي، أو للإسلام النقي. “حماسة” قوية لا تعطيه فترةً للدرس، فقواهُ العاطفيةُ مشتعلة، وهو ينزلُ بقوةٍ لأزقةِ المدينة صارخاً، ويجمعُ عدداً كبيراً، مفجراً كميةً كبيرة من المفرقعات الكلامية، ثم يلوذُ بالفرار في الدروب الضيقة الممتنعة عن القمع.
لقد تشكلت بيئةٌ طبيعيةٌ مماثلة للكثير من الأحياء الشعبية في المدن العربية، وإن كانت بشكل مصغر، لكننا نجدُ السببيات الاجتماعية نفسها التي أحدثت التحولات الكبيرة بقفزاتها وبانهياراتها.
وفي القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كان الوعي ينقسم بشكل ثنائي مذهبي حاد يعكس التضادات بين القبائل والريف، بين المدينة والقرية، ولم تتشكلْ جسورُ الاتصال، وتكوين الشعب البحريني، إلا عبر تلك الفترة وعبر روابط الاقتصاد الحديث، وتقوقعتْ المذاهبُ بشكلٍ حاد، ولم يكن بالإمكان إيجاد حركة سياسية وطنية عبر ذلك، وهذا ما سهل الوجود البريطاني، فكان الوعي المضاد هو الذي كونته الفئاتُ الوسطى بين هذين الوجودين الاجتماعيين، وهو الذي قاد لتكون الحركات السياسية الحديثة. ولكن المذاهب حتى فيما بعد ربما غدتْ مرنةً في بعض الأحكام الفقهية لكنها بقيت على الوجود الهيكلي المذهبي الذي تشكل في القرون السابقة.
ولم تزد المقاربةُ العلمانية البحرينية هنا على فكرة التسامح والشعار الإسلامي التوحيدي العام، والأخوة الوطنية المحدودة المتصاعدة.
إن المذاهب تحتفظ بخصائص تكونها الماضوي، ومن الصعب أن تعيدَ تشكيلِ نفسِها حتى على المستوى الإسلامي العام في بضعة عقود، ومن هنا تغدو الأفكارُ الوطنيةُ العلمانية دعوةً إلى تركِ خلاف المذاهب، وتكوين مجرى سياسي وطني مشترك تتطلبهُ الضروراتُ الخطرة في الحياة السياسية.
إن صدور توجه ديمقراطي علماني وطني لدى مجموعة صغيرة من مناضلي مدينة المحرق خاصة، كان شيئاً مذهلاً في خضم الانهيارات الفكرية والسياسية لليسار البحريني وهو يتعاملُ مع أزمةِ الرأسمالية الحكومية وعدم قدرتها على حلِ إشكاليات الاقتصاد والتطور الاجتماعي.
كان تغلغل الفكر اليساري داخل المدينة القومية ذات الجذور القبلية شيئاً صعباً، وبعكسِِ المنامة التي أحتضنت هذا الوعي ونشرته في القرى بسرعة.
علينا هنا أن نقرأ حيثيات مدينتين متقاربتين وصار لهما مساران سياسيان في بعض السنوات السابقة.
إن تمثل أدوات التحليل الموضوعية، ودراسة البُنى الاجتماعية وتناقضاتها وتطورها، ورؤية السياسة كشكلٍ من الموقفِ المقارب للأوضاع الحقيقية المحتمل تغييرها بأدواتٍ متواضعة، مثل المنشور والمظاهرة والخلية، هذه الأمور كانت مثار سخرية في خضمِ الهياجِ القومي، وهي أدواتٌ تحتاجُ إلى صبرٍ ودرس، وإلى عملٍ يومي لا يتوقف وصغير، وذي نتائج ضئيلة في الزمن الراهن، لكنه يتراكم وينمو ويشكلُ تغييراتٍ على المدى الطويل فهو يقاربُ العلومَ بينما ذاك يقاربُ السحر.
هذه الطريقة في العمل السياسي مغايرةٌ للأسلوبِ العربي القديم القادم من إجتماعاتِ الخيام وتجمعات المجالس، والذي يعتمد على القريحة والخاطرة مثل الشعر العامي، ويشكل الدكتاتور من جهةٍ ويشكلُ الخدمَ من جهةٍ أخرى، ومن هنا فهو لا يعتمد على التدقيق والتوثيق في فحصِ المشكلاتِ والرجوع للمصادر ولا يكَّون تنظيماتٍ مهمةً متجذرةً في الأرض، وحواريةً في بحثها الداخلي وفي حوارها مع الناس، ولا يخلقُ مناضلين ذوي كفاءات، بل يكونُ تنظيماتٍ هلاميةَ الأشكال، لا تعتمدُ على تنامٍ في القدرات العقلية والسياسية، ويكـّون شخصياتٍ متعاطفةً مع التيار اليوم وغداً مع غيره، وليس مناضلين أكفاء فيها حادبين على التطور الوطني الديمقراطي العلماني التوحيدي، ويضيفُ العملُ السري أعباءً على هذه العملية النضالية.
هذه الطريقة السياسية يصعبُ أن تخترقَ الجماعات الشعبيةَ الهائجة، فهذه ليس لديها قدرة على التمثُل الفكري وعلى الهضمِ السياسي العميق، فهي ترددُ المحفوظات في حالةٍ من الصراخِ والتبتل الديني. إنها في حالةِ تكهرب سياسية، وهي تغدو في أيةِ حالةِ تفكيرٍ عميقةٍ أو حوار تفقدُ الشحنةَ المُسَّربة إليها، وتعودُ للحالةِ السلبية، فالشحنةُ خارجيةٌ، شعاريةٌ، تـُقذفُ في سمعِها فتجثمُ هناك مطلقةً الحركة، مولدةً طاقةً يسيرةً فيها وعنيفة في الغالب لأنها لا تقوم على العقلانية. إنها دُمى إجتماعية ولم تصرْ بعد بشراً ذوي مواقف. اليوم لكَ وغداً عليك. (ألسنتهم معك وسيوفهم عليك) حسب خبرة التراث.
وعادة تعتمد الشحنة على المقدس الديني أو القومي. أو يجري تحويل أي شحنة سياسية إليهما. وبدون أن تصير السياسة مقدسة يفقد مثل هذا الجمهور طاقته. فهو يعيشُ عالم الرموز والعبادات المقدسة كل يوم وأن ينحو خارجها يحتاج إلى ظروف كبيرة.
لا يظهر من الجمهور المتكهرب بهذه الحالة السياسية أي إنتاج عميق في الثقافة أو الاقتصاد، وحالما يفقد الشحنة الوطنية أو التقدمية يعودُ لوجودهِ المذهبي العتيق. وقد تمرُ سنواتٌ طويلةٌ من هذا النضال السياسي الملتهب الممزوج بالعصير المقدس، وفي حالات مروعة هائلة من الحدة، ثم بعد ذلك يتحول هذا الجمهور إلى شيء آخر. إلى سكون فاجع. قال أحمد شوقي (إن الجمهور عقله في أُذنيه)، ولكن الجمهور هو صانعُ التاريخ في شروطٍ موضوعية وذاتية معينة. وقد بكى عبدالرحمن الباكر بعد إعتقاله ومحاكمته في قرية البديع قائلاً: أين الشعب؟!
ويمكننا مراجعة كتاب الأستاذ محمد السيد عن يومياته في المحرق في ظل أزمة الخمسينيات والصراع القومي العربي، فسنجد مثل هذه الحالات وهو يروي كيف تجري المظاهرات فيها بنفس الشعاراتِ كلَ يوم على مدى شهور طويلة تنتهي بالحرائق.
هذا هو الوجودُ العربيُّ الاجتماعي عادةً الذي يشكلُ السكان، ويحركُهم في الأزمات السياسية، وهو يعتمدُ على تنظيماتٍ هلامية، تجتمعُ بصورٍ ليس فيها تراكمات سياسية وتراتبية مدروسة تنتجُ معرفةً بالواقع وبتنفيذِ البرامج وبأحوالِ الواقع والناس وبقراءة تحولات العالم.
فمثل هذه المعارضة تشكلُ حالاتٍ من ردودِ الفعل تجاه سياسة رسمية معينة، تسمعُها وتهاجمُها، محاولةً تغيير الواقع السلبي وخدمة الناس. وهذه الطريقة الانفعالية التي تجري بصورةِ فعل القدماء على مدى التاريخ المغلق السابق، أي بتشكيل التضادات الكلية، وبصورة الخندقين اللذين لا يتقابلان، بصورة الإله أو الشيطان، سواء كان (العدو) حكومة محلية أم قوة إقليمية محتلة كإسرائيل، أو عدواً إستعمارياً شيطانياً كالغرب، هنا تلاميذُ الإله، وهناك تلاميذُ الشيطان، هنا معسكرُ المؤمنين وهناك معسكرُ الكفار. وليس ثمة من حلٍ وسط ولا بد من الاستمرار في هذا الصراع الجياش العواطف!
كانت حركة العامة بعد الخمسينيات هي التي أوصلت البحرين للاستقلال ولحدوث التحولات في الاقتصاد والوعي.
في الخمسينيات مع إحتكار المحرق لقيادة العمل السياسي الشعبي، كان من الصعب إحداث الاستقلال. كان الارتباطُ واضحاً بالخارج، كان البلدُ ترتبط بإذاعة صوت العرب، وبرموز مصر، وكان هذا غير مقبول في عُرف السياسة البريطانية بأي شكل من الأشكال وقتذاك.
كانت بريطانيا لا تزال تهيمنُ على بقاع الخليج، ولا تتصور عملية الانسحاب من(شرق السويس)، وكانت تضربُ عُمان بالقنابل فلا يمكن أن تتخلى عن شبر من الأرض عبر الصراخ.
وشكلت المحرق بتلك القيادة نهجاً مضاداً كلياً للقيادة البريطانية، وحين اقتحمت قواها العسكرية المدينة، بعد حدوث(الفوضى) وحفاظاً على (السلام الاجتماعي)، فقد انتهت لغةُ الهياج القومية المطلقة، لكن لغة الهياج النسبية سوف تستمر إلى حين.
أخذت المنامة في البروز في القيادة السياسية، فالحركةُ الاقتصاديةُ راحتْ تتنامى في هذه المدينة التي أخذت تتوسعُ وتلتهمُ البساتين والخلاءَ والشواطئ، وصارت مركز الحركة الاجتماعية وظهرَ العمالُ كطبقةٍ واسعة فيها، وبعدما كانوا مادةً لحركةِ الهيئة نزلوا مدافعين عن وضعهم المعاشي، ودخلتْ مصطلحاتٌ جديدةٌ في الحياة الفكرية، بل منهجيةُ وعيٍّ مختلفة: كلمات مثل الامبريالية والطبقات، والانتاج، والبناء الاجتماعي، والسببيات والقوانين الاجتماعية، وماذا يعني الاستعمار اقتصادياً وغيرها، كان دخولها بمثابةِ منهجيةٍ جديدةٍ وتأملاً أكثر عمقاً من الخطاب السياسي السابق. وهو أمرٌ إنعكس على طبيعة المنظمات السياسية، وصغرها ونوعيتها المتماسكة المطلعة، وتنامي روابطها مع الناس كذلك.
الفروقُ كبيرةٌ بين مصطلحاتِ الجماعاتِ بين المدينتين وأساليب العمل السياسي.
كان تتويجُ الحركة التي نبتتْ في المحرق هو العنف الكاسح، هو الحرائق التي التهمت أبنيةً، وكان هذا تعبيراً عن المضمون الداخلي للحركة، فهي ليس لديها شيء إجتماعي تطرحه، شيءٌ يضيفُ للبلدِ نقلةً سياسية أعلى. إنها تظاهراتٌ حادة مستمرة تشعر بالفوران العاطفي كل يوم دون نقلة جديدة، وقد أصيبتْ الجماهيرُ بمسٍ سياسي، لا تقبل فيه أي مراجعة لشيء، حتى تقفز في لحظة الهياج العارمة إلى أكبر شيء من العنف وفرض إرادتها بالقوة النارية!
هناك دائماً الجندي المجهول للعنف، والذي سوف يكونُ بديلاً لمناقشةِ من المتسبب في الحرائق والتكسير والقتل؟ والأصابع المختلفة سوف تشيرُ لجهاتٍ متعددة، وبطبيعة الحال سوف تتداخل الإراداتُ السياسية لجهات، ويحدث التنصلُ منها جميعاً، وهي مشتركة في العنف جميعاً.
ومن هنا فالذين قاموا بالعنف والذين حرضوهم والذين خططوا بمهارة لأحداث ذلك وهم ينتظرون بقواتهم الدخول إلى المدن، والذين أرادوا الانتقام من مؤسسات أجنبية رأوا فيها صورة المحتل، كل هذه القوى لن تعترف بما فعلته، ويشترك في هذا (المتحضر) الأجنبي و(المتخلف) الوطني.
لن تُناقش تلك البذورُ السياسيةُ والشعارية التي زُرعت في أرضِ الكراهية المطلقة، في ذلك الأصطفاف العدائي الرهيب؛ بين الشعب الذي يُحقر ويفقر وقوى التسلط المطلقة في فرض الأحكام.
وبعد هذا يحلُ الهدوءُ ويتمُ طمس ذكرى الضحايا ويتوارى المجرمون وتبدأُ مسيرةٌ سياسية جديدة، تسدل الستار على الماضي ذي الأشباح المخيفة، لكن ذكريات العنف والحماس الأهوج سوف تتركُ بصماتِها غير المرئية في النفوس والعقول. البسطاء الذين تم جرهم في غمرة الانفعالات الحادة والذين لم يخسروا شيئاً كثيراً واختفوا وعادوا لبيوتهم سالمين، ستترك الأحداثُ أشياء كبيرة في نفوسهم، سوف ينظرون بأحتياط أكبر للمتعلمين الذين جروهم لمثل هذه الأحداث، سيشعرون بخيبةٍ هائلةٍ بأن كل ما فعلوه وتعرضوا له من عنف وضرب وخوف من العقاب وما ضحوه به من مال ووقت، لم يغير شيئاً في الواقع، الواقعُ الظاهرُ الذي يلمسونه، غير قادرين على التغلغل لما تحته، بل يرونهُ قد صار أسوأ، فهذه القوى العسكرية الأجنبية قد اقتحمت الدروب، واقتادت شباباً كثيرين للسجون، وحلَّ صمتٌ، وحلَّ يأس.
لهذا حين تبدأ المنامة بالنضال الوطني يكون ذلك بشكلٍ جديد، مغاير لما سبق!
ومن تلك الكتل الكبيرة غير المسيطر على إنفعالاتها وجياشانها العنيف تخرج جموعٌ مُنظَّمة، وتتشكلُ نضالاتٌ صغيرةٌ مدروسة، وتتوسع، ولا تحدث أضراراً في المباني حتى ولو بالتكسير الطفيف!
كانت هذه نقلة تمت في بضع سنوات، ولها سببياتها!
ومن حيث الأفكار تكون العلمانية البحرينية قد إنتقلت لخطوة أبعد، بل وقفزة، رغم أنها لم تؤسس نفسها جيداً ولم تدرس تاريخها بعمق، ولم تحلل المذاهب والواقع، بل توجهت للنضال القومي، والنضال الأممي التقدمي ، وهكذا في بضع سنوات قليلة تكون قد حلقت في الفضاء السياسي على هيئةِ نخب صغيرة. وتبقى الجماهيرُ العاديةُ مشاركةً في شعاراتِ كلِ مرحلةٍ حسب مقاربتها لحياتها الاقتصادية وما تقوم به تلك الشعارات من تغيير تلك الحياة ذات الفقر والبطالة وسوء السكن.
إن التحولات التي جرت للجمهور العريض في مدينتي المحرق والمنامة كانت متناقضة، الجمهور دخلَ في حالةِ يأسٍ شديدة بعد القضاء على حركة الهيئة، لم تعدْ المنشوراتُ الصاخبةُ تحركهُ، الإذاعاتُ التي لا تزال فوارةً بالجملِ الملتهبةِ ما تزالُ مسموعةً غير أنها تنزلُ على حديدٍ بارد.
تركتْ حركةُ الهيئةِ الناسَ بلا قيادة، لم تنشيءْ أي مجموعة بديلة، لم تؤسسْ فكراً منتشراً بين المتعلمين، لم تتركْ تراثاً أدبياً يخلقُ هويةً أو تياراً، بدتْ الحركة ونتائجها أشبه بانفجارٍ كبير لم يخلف أثراً، أو أرثاً. فالحركةُ الصاعقةُ المليئةُ بالخطبِ الرنانةِ والاجتماعات الحاشدة واللقاءات الحماسية، كانت تبدو للجموع بأنها خالدة، فيكفي منظر هذه الحشود التي تخرجُ من الحارات ومن القرى وتندفع لأمكنة الاجتماعات، والورق الصادر من القيادة الذي يدعو لكذا وكذا من القرارات والتي تـُلبى، يكفي هذا كله لاقتناع هذه الجماهير بأنها باقية بهذا الشكل للأبد.
لكن الجماهير اختفت فجأة! والسطورُ الملتهبةُ لم تعد تحرك أحداً!
كان ثمة أحساس واسع النطاق بأن ثمة أخطاءً كبيرةً حدثت، لكن أين؟ ومن الذي ارتكبها؟ كانت أسئلةً تدورُ في الفضاء بلا إجابة!
أذكرُ كتيباً صغيراً قرأته بعد سنواتٍ من كهف الحزن الشعبي هذا، بعنوان(المد والجزر في الحركة السياسية)، وهو مكتوبٌ بخط اليد ويتم نسخه وقراءته وتداوله، زثمة عقلٌ في هذا الكتيب يتساءلُ لماذا حدث ما حدث؟ لكنه لا يناقش تلك التجربة الخمسينية عبر تحليل ملموس لطبيعتها الاجتماعية ولأدواتها الفكرية والسياسية المخلتفة، بل من خلال تجريد عام.
يطرح الكتيبُ هذا التصور العام للحركات السياسية، وأن المجتمع مثل البحر فيه المد وفيه الجزر، والناس يحدث لها ما يحدث للبحر، تتمدد وتنكمش، وعلى المناضلين أن يكونوا في كل وقت، خاصة وقت الجزر حين يحدث اليأس، ويفقد الناسُ الحماسَ للسياسة!
ليس في الكتيب على ما أتذكرُ أية حيثيات سببية عميقة، ويتم دمج المجتمع بالطبيعة بشكلٍ ميكانيكي، فلا تُدرسُ بُنيةُ الواقع الراهنة، وما يجري فيها من أوضاعٍ اقتصاديةٍ وإجتماعية وتحولاتٍ، وعلاقة ذلك بمعاشِ الناس وأفكارهم.
لكن الكتيب عبّر عن رؤيةٍ جديدة بدأت تدخلُ الواقع الوطني.
أجل كانت ثمة بذور تنمو. فمن الحشود كان ثمة نشطاء شباب تبعوا تلك الأحداث وتحمسوا مثلها، وحين أختفتْ لم يعرفوا كيف يوظفون طاقاتهم. حين نقرأ ما كتبه الشاعر قاسم حداد في كتابه(ورشة الأمل) عن لحظات الهيئة وكيف أنغمرَ هو الفتى بالحشود متحمساً مذهولاً مما يحدث، ثم تتالت فتراتٌ من التخمر التي تحولت شعراً سياسياً حاداً ورغبة في إسقاط الواقع بذلك النفس المحرقي الصاخب، فندرك بأن صخب الفترة قد أمتد للجماعات الشبابية الصاعدة في ذلك الحين، على طريقتين؛ أستمرار خط الهيئة خاصة خطها العامي الحماسي والذي سوف يتنامى في الجماعاتِ القوميةِ والتجماعات التنظيمية الفضفاضة والمتصفة بغياب البرامجية الدقيقة، أي سوف يستمر خطُ الحماسِ المتأجج الذي يضعُ رغباتَهِ وحماسه محل الواقع. وتغدو أداته البارزة: العنف، ويعتبر نفسه جزءً من كيان عربي سواء تمظهر عند الخليج أو أتسع ليشمل الوطن العربي. وخطٌ آخر سوف يدرسُ الواقع بتحليليةٍ أكبر ويبرمج أعماله السياسية. ويربط نفسه بالبلد خاصة.
إن مسألة التحليلية وقراءة الواقع وسببياته مسألة مهمة، وهي تحتاجُ لأداةٍ فكرية، ولمصادر وحلقات درس وعمل، ولهذا فإن الشباب الذين تأملوا حركةَ الهيئة وارتبطوا ببعضِ أنشطتِها وبأعمالٍ إجتماعية ونضالية كانت من موجتِها، سوف يتوجهون للجمع بين البحث وتكوين مؤسسات تعليمية وثقافية على شكل أندية ليحركوا الجمهور بشكل آخر، غير الصخب السياسي، محاولين كسر اليأس الذي أطبق على النفوس سنين عديدة.
إن إستمرار التجمعات الفضفاضة، غير الداخلة في علاقة تحويلية يومية للجمهور البسيط في مواقع عمله وأحيائه، والتوجه الجديد بخلق بنية تنظيمية دقيقة مثقفة مُحّولة الواقع، وتستند على برنامج، هذه طبيعة المخاض الذي تولد من حركة الهيئة.
إن هذه الاتجاهات كانت في الحراك القومي وكذلك البذرة التقدمية معاً، فكلها تقريباً أجهها المركزُ المصري الناصري، للنضال الوطني، وهذا ما جعلها ضمناً من خط العلمانية المرتفعة فوق تمزق المذاهب وصراعها، فكانتْ وريثةُ الهيئة كذلك وحضورها الاجتماعي، وهو أمرٌ مثل جبهوية شعبية في ذلك الأفق الفكري الوطني المتصاعد. كانت نضالاً على المستوى القومي بدرجةٍ كبيرةٍ ونضالاً على المستوى المحلي، حتى بدون تباين ودرجة من الاستقلال بين القومي والوطني، وهذا ما سيؤدي إلى فصل للجانب الآخر، أي للجانب الوطني أكثر من الجانب القومي في المرحلة التالية.
لكن هيئة الاتحاد كانت من الناحية الفكرية لا تقدم سوى شعارات، وتجمعُ قوى الطائفتين في حراك سياسي مشترك، دون هيئة تنظيمية توحيدية فكرية، لعجزها عن قراءة المذاهب، ولعدم قدرتها على إيجاد إيديولوجية لأنها لم تكن بمستوى ذلك، ولم يعطها الوقت مثل هذه الإمكانية لصهر القوى الطليعية في فكر سياسي وطني.
في البرنامج السياسي الأول الذي ظهر في البلد نقرأ عبارات محددة:
(من أجل دولة ديمقراطية ذات سيادة مستقلة إستقلالاً حقيقياً وذلك بإلغاء الحماية ومعاداتها الاسترقاقية غير المتكافئة وذيولها المفروضة على شعبنا)،(تصفية القواعد العسكرية الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية)،(قيام حكومة وطنية ديمقراطية تعمل لصالح الشعب وتطهير الأجهزة الحكومية من العملاء)،(إقامة نظام وطني ديمقراطي بإقامة مؤسسات ديمقراطية تكفل الحريات لجموع الشعب وقيام برلمان وبلدية منتخبة)،(ووضع دستور يأخذ بعين الأعتبار الظروف الموضوعية لبلدنا)، (إنشاء جيش وطني)، (مساواة المرأة بالرجل في كافة الحقوق)، إنشاء جيش وطني، إقامة علاقات مع دول العالم الخ.
غدت هذه العبارات الآن عادية لكنها في سنة 1962 لم تكن بمثل هذه السهولة، ويهمنا هنا هذا التبلور الفكري في العبارات القصيرة المكثفة والذي أزال التطويل والحشو، في صيغة برامجية واضحة، وفي المضمون الداخلي جرت بلورة إختزالية، عبرت عن رؤى القوى السياسية العربية في ذلك الزمان التي تتسم رؤاها بالبتر والحسم، فتشكلُ نظاماً جديداً تصيغهُ هي لوحدها، وعبر صوتها المتفرد، خارج ظروف الزمان والمكان.
وفي العمق ثنائيات متضادة كلياً: وطنيون/عملاء، شرق متحرر/ إستعمار غربي، دكتاتورية راهنة/ ووطنية ديمقراطية وردية قادمة، إستبداد ذكوري راهن/ ومساواة تامة بين الجنسين الخ.
في هذه الأهداف التي صاغتها جبهة التحرير الوطني البحرانية وقتذاك، قفزة عن اللغة القومية الدينية السياسية السائدة، وبلورة للأهداف، وتحديد بناء وطني متكامل، لكن لا تخرج هذه اللغة كذلك عن مناخ الوعي القومي الديني، فتقوم بتحديد معسكرين مجردين، وأهدافَ مجردة كبيرة عامة، ليس بإمكان القوى السياسية الراهنة وقتذاك تحقيقها، لكنها سوف تدفعُ القوى نحو تحقيقها.
فإستقلالٌ تامٌ ناجزٌ وزوال الاستعمار وظهور نظام وطني ديمقراطي هكذا بالمطلق، تكمن وراءه قدرةٌ سحرية ولا شك، ويمكن تحققها بالشعب المارد، وبهذا فإن اللغة السياسية هذه رغم قطعها لمسار الانتفاخ العاطفي القومي الديني لم تخلُ هي الأخرى من ذلك.
إن الأدبيات القادمة من الخارج والتلاقح العربي التقدمي والاستفادة من تطور حركة اليسار العالمية، لها فوائدها في التحديد السياسي وبلورة الصياغة وتحديد الأولويات ولها أضرارها كذلك.
فلا يزال جو الحماس العاطفي والتصدي للغرب الاستعماري المجرد مسيطراً، وثمة معسكر عالمي يزيل الغرب، والحركة الوطنية جزءٌ من هذا المعسكر المتقدم لتنظيف القارات من رجس الاستعمار، بل أن الأنظمة الوطنية العربية موجودة ومتسعة وسوف تزيل أنظمة(العملاء).
تستلزم هذه الأهداف الكبيرة تضحيات جساماً على مر الأجيال، ولكنها على الأرض الملموسة تتطلب خطوات صغيرة بسيطة مثل القراءات وتكوين الخلايا والقيام بالدعاية السياسية، وهي أمورٌ تتجاوز طرق السابقين، سواء في الهلاميات التنظيمية للهيئة أم الأبنية الفضفاضة للقوميين، وكلما تقدم التنظيم في تجذره على الأرض واصل العمل لتطبيق ذلك البرنامج الحاسم.
وهذا ما يؤدي إلى صعودهِ على بقية التنظيمات التي تفتقدُ مثل هذه الطريقة السياسية وعمليات البحث في الواقع وجذب الجمهور العمالي خاصة، لأنه بصدد تنظيم ذلك البرنامج الجذري الذي يخلق نظاماً وطنياً مطهراً من الرجس، وإختلاط المنهجية العلمية بالمنهجية الدينية، هو جزءٌ من النضال العام، حيث للجبهة عدة وجوه، وجه مادي مستورد من الأدبيات الشيوعية العالمية، ووجه ديني يحلق فوق الشعائر الحسينية النضالية.
ومن البداية فإن التغلغل في العمال سيغلب عليه طابع السكان في أي مرحلة، فمع التوازنات السكانية المذهبية، وأنتشار الأفكار القومية واليسارية، سيغدو الاتجاه العمالي وطنياً قوياُ، لكن هذا التوزان سيختفي ويتزايد حضور العمال من الطائفة الشيعية، وفما تتمظهر القيادة يشكل وطني غالباً، ويؤثراً ذلك في تلك الصدامية الحاسمة الباترة للنظام، فتتمظهر وراءها كذلك عداوة حاسمة في توافق بين القيادة عامة والوعي (الاشتراكي) ثم هذا الوعي في مرحلة أخرى.
وتؤثر الصراعات المذهبية السياسية على قوى اليسار(العلماني) فتتجه جماعة لناحية وتتجه أخرى لناحية، ويحدث إصطفاف طائفي متوارٍ في أغلب الأحيان.
بدأت جبهةُ التحرير بالنسبي، أي بالنضالِ الممكن، وبالدفاعِ عن مطالب العمال، وحقوق الشعب في الحرية والتقدم عامةً، وهو أمرٌ مفيدٌ ويؤدي لالتفاف الجمهور الذي يعاني ويطالب، ولكن البرنامج السياسي الذي قرأنا بعضَ لمحاتٍ منه يقودُ للمطلق، والارتباط بتصفية النظام وإستبداله بنظام آخر، والاندماج مع حركة المعسكر (الاشتراكي) الهادفة للقضاء على الاستعمار والرأسمالية قضاءً مبرماً.
بين النسبي الممكن والمطلق غير الممكن تاهتْ الخطواتُ السياسية للجبهة، بين النضال المطلبي المستمر والانقلاب السياسي، وهي إذ لم تعلن القضاء على الرأسمالية، لكن أدوات الوعي المتداولة من فكر الماركسية – اللينينية كلها تقود لهدف غير معلن وغائر ومستمر.
لا يستطيع العمالُ بشكلٍ عام إستيعاب الماركسية، لأنها فلسفة مركبة من عدة علوم، وقد يستوعبون شعاراتها السياسية في مناهضة الرأسمالية لكن عملية إستيعابها على نحو واسع من قبلهم، أمرٌ يتجاوز مداركهم وظروفهم الصعبة.
وقد يستوعبها أفرادٌ بشكلٍ عميقٍ فيكونون أقرب للمثقفين، وما راج في الشرق هي نسخٌ مشوهةٌ من الماركسية، قامت بتوزيعها الرأسمالياتُ الحكومية(الاشتراكية)، فلم تنتجْ وعياً منهجياً مستنداً على أدواتِ تحليل الماركسية، ولهذا لم تحقق خصباً بحثياً لدى التنظيمات التي تبنتها، فكان ذلك إرتباطاً بالمعسكر (الأشتراكي) ومسيرته في تشييد الرأسماليات القومية، وحين إنتهت الحرب الباردة، سقطتْ هذه النسخُ من الماركسية، أو عجزت عن الاستمرار، أو فقدتْ قدراتها على تمييز الديمقراطي العقلاني العلماني من الطائفي والمحافظ، فسادت عموماً عمليات الشعارات.
إن الارتباط بالمطلق(الأشتراكي) في تجربتنا المحلية جعل الطريق مفتوحاً للانكسار والترابط مع الجماعات الدينية ذات الأهداف الانقلابية فيما بعد. في حين كان قوى دينية أخرى ترتبط بالنظام وبالفئات الوسطى والصغيرة وقد تراجعَ حضورُ العمال لديها، وتتشكلت لديها معارضات نسبية في الأقل، ولم تتوجه للمعارضة المطلقة بشكل عام، وهي القائمة على الهويات المذهبية.
والارتباط بالنسبي غذا نمو الجبهة الديمقراطي ووسع تحالفاتها ونما القوى الاجتماعية المختلفة. في حين إن المطلق قربها من الضفة الأخرى.
تجسد النسبي عبر مشروعات سياسية ممكنة، في النضال المطلبي والنضال البرلماني الذي تفجر في بداية السبعينيات، ومع غيابهما انسدت الآفاق أمام التطور الداخلي الديمقراطي في الجماعة، ومع تضخم الرأسمالية الحكومية المحلية ورفضها للنقد والمراقبة، فإن آفاق المطلق تنامت وفاضت على الجميع.
ومن جهة فقد سقط الاتحاد السوفيتي ومن جهة أخرى ظهرت التجربةُ الدينيةُ الإيرانية مندفعة نحو شموليةٍ توسعية وأحتاجت إلى إشعال المنطقة حولها بالتوتر، لكي تنطلق في هيمنة قومية، جعلت من المذهبية جسراً لها.
هنا جرى مخاضُ اليسار المتصدع أكثر فأكثر، وكان لا بد للفئات الوسطى الصغيرة أن تتذبذب بقوة نحو الموجة الأقوى في المنطقة وفي البلد.
وساعدت ضرباتُ القمع لهذا اليسار من هذا التصدع الداخلي ومن المقاربة مع المذهبيين السياسيين، ولم تكن الأدواتُ السياسيةُ المشتركةُ سوى قناع للمذهبيين لكي يفرضوا سيطرتهم ويتحكموا في الصفوف الوطنية، فهم الذين يقودون والآخرون مجرد مؤيدين.
أكثر من ثلاثين سنة من التربية السياسية ومن نشر الأفكار ضاعت بسرعة شديدة، وغدا الانفجار الذي أعقب سقوط الهيئة انفجارات، حيث العنف الأهوج هو الوسيلة الوحيدة.
تنمية مواقف العمال وتصعيد الوعي الديمقراطي، ونشر التنوير هذه كلها تلاشت، بسبب هذا القهر الطويل، وذوبان فكرة لم تكن موجودة إلا كشعارات، أما سياسة الصدام الطويلة، فقد استعارها آخرون، والبديل المذهبي السياسي كان أكثر قدرة ولكن القدرة وقفت عند شق خريطة البلد وشق صفوف المواطنين لا هزيمة النظام.
من اليسار ومن جعل الطبقة العاملة صاحبة الصوت الأساسي في الحياة السياسية ينتهي ذلك إلى تصعيد دور المحافظين الدينيين في الحياة السياسية، بكل ما فتحوه من مشكلات سياسية عنيفة على البلد، وبكل ما يمثل ذلك من تراجع البرنامج الديمقراطي التحديثي للمجتمع.
إن مرتكزات الحداثة من عقلانية وعلمانية وديمقراطية ذابتْ مع صراع الفئات البرجوازية الصغيرة التي تسلمتْ القيادةَ من هيئةِ الاتحاد الوطني الأقرب للفئات الوسطى من كبار التجار وغيرهم، وعلى مدى عقود تسلمتْ تلك الفئاتُ البرجوازية الصغيرةُ مقاليدَ الحراكِ السياسي فتضاءلتْ مرتكزاتُ الحداثة في خاتمة المطاف، وخاصة العلمانية، وغدا للفئات البرجوازية الصغيرة ذبذبة مصلحية تجاهها، فجعلتْ من العلمانية ليس نظاماً سياسياً وبرنامجاً شاملاً على ضوئهِ تحددُ السابقَ واللاحقَ بل لحظةً تكتيكية، يمكن الاستفادة منها في جوانب ويمكن تجاهلها في جوانب أخرى حسب مصلحة الجماعة المعنية، ولكن خطورةَ هذا التجريب والتذبذب إنها ساهمت في بروز الثنائية الطائفية التي شقتْ المجتمعَ شقين كبيرين لم يعدْ من خلال الأدوات السياسية الراهنة إمكانية إصلاحهما.
إن محاولات دول الشرق لإجهاض وإزالة الرأسمالية تحت دعاوى مشروعات كثيرة، إنتهت بإظهار رأسماليات خاصة من باطن الدول، مع ما جرى في ذلك من فساد وهدم للديمقراطية والتنوير وإعلاء الأجرام.
ما سيحدثُ في دولنا خاصةً الكبيرة منها هو صعود القطاعات الرأسمالية الخاصة ومنافستها الحكومات في إحتكارهِا للسلطاتِ والثروات. إن نمو هذه القطاعات سوف يزعزعُ الطائفيةَ السياسية التي ظهرت ونُشرت مع هيمنة الرأسماليات الحكومية، إذا جرت بالتعاون مع قوى العلمانية والحداثة.
انتهى اليسار التقليدي إلى دعمِ قطاعاتٍ خاصة ملوثة بكل إستبداد الماضي، فظل صعود القطاعات الخاصة هو المخرج في كل الأحوال، في التجارب(الاشتراكية) وفي الراهن القادم من التجارب (الوطنية).
في كل دولنا الكبيرة تحاول هذه القطاعات الخروج من عنق الزجاجة، ولهذا فإن اليسار الديمقراطي يغدو مشروعه الراهن هو مساعدة هذه القطاعات الخاصة ونموها السياسي لتحجيم الاحتكار الحكومي للسلطات السياسية والاقتصادية والثقافية وإنهائه وتشكيل دول ديمقراطية علمانية.
إن حلم الاشتراكية يبقى لعصر قادم، وفي الراهن لا يزال اليسار يغذي بذورَ الحلم، بالدفاع عن الطبقات العاملة، ونشر الحداثة، ودرس المنطقة والتغلغل في جذورها.
ليس التعاون مع القطاعات الخاصة ودعمها هو شكلٌ مطلقٌ، ووحدةٌ صوانية، بل هو تعاونٌ وصراع، لأن القطاعات الخاصة تتوجه حسب مصالحها، ولا تعترف ببرامج سياسية وإيديولوجية من هذا الطرف أو ذاك، وتوجهُ الاقتصادَ بخياراتها، لكن الرأسماليات الحكومية تثقلُ عليها، وتحجمُ من تطورِها، ومسائلُ الاقتصاد محل نزاع، والخططُ الحكومية في الاقتصاد أكثرها بيروقراطي لا يخضع لدرس وطني عميق تحكمهُ البرلماناتُ المنتخبة والقوى الاجتماعية الأهلية.
ولهذا فإن العقود التالية سوف تشهد نمواً كبيراً في الإرادة السياسية للقطاعات الخاصة، ويظهر من بينها قادة سياسيون ذوي بُعد نظر، ومن هنا فإن التعاون الديمقراطي العميق أساسي، لأنه سوف يترك بصماته الكبيرة على التاريخ.
وحتى الجماعات الدينية خاصة القادة فيها والصفوف الأولى ستجدُ نفسَها مع نمو هذه القطاعاتِ الخاصة ومصالحها المشتركة، والأمر لا يجري في بلدنا وفي دول الخليج فحسب بل يجري في إيران ومصر وغيرهما من الدول المؤثرة في تشكيل النمط الاقتصادي العام، الذي عادة تقيمهُ الأممُ الإسلامية بأشكالٍ متفاوتةٍ تعكسُ طرق تطورها الخاصة.
ليس غريباً أن يبدأ اليسار حياته بالصراع لإزالة الرأسمالية و(ينتهي) بدعمها، لقد كان هو يفعل ذلك دون أن يدري، لكن الارتباط السياسي بالعاملين وتصور نشؤ دولة يحكمونها وإزالة الأستغلال للأبد، هذا مشروعٌ عالمي في الدول النامية لتصعيد الرأسماليات القومية والوطنية، ولهذا حين سقط (الحلم) فقد توازنه السياسي، لكن التشكيلة الرأسمالية مستمرة وكائنة في مشروعات (الإشتراكية) وما بعدها وما سوف ينقضُها حين تأتي الظروفُ التي لا نعلمُها حتى الآن، وهي لا تعني خدمة الرأسماليين فقط، بل إحداث تنمية واسعة، وتفعيل قوى الإرادات السياسية كي لا تكون هذه العمليات خدمةً لقوى عليا محدودة، وتقود المجتمعات لتنمية جيوبها، وتوزيع الخدمات على مناطقِها، وتصعيد طائفة ضد أخرى، ولا أن يتحول العمال إلى أنفار مستجلبين من الداخل والخارج مقذوفين في الأسواق بأرخص الأجور، وتنعدم الخطط الاقتصادية وتفرض مشروعات إقتصادية إحتيالية وتضيع الثروات الهائلة على بذخ وفوضى عمرانية وتلوث الخ.
تقوية الإرادات السياسية لرجال الأعمال، وتصعيد أدوار العمال النقابية والسياسية، كقوى أساسية متعاونة لتطوير الأنظمة باتجاه الديمقراطية الحداثية العلمانية، تتطلب الانتقال من سياسة الانتفاخ والاستعراض، والكم التنظيمي الكبير غير الفاعل، ومن لغات الشعارات إلى البحث الجدي، وإلى إنشاء الدراسات للواقع الراهن، وتنمية العناصر النضالية البشرية العميقة، وخلق هذه التيارات الديمقراطية العلمانية الوطنية العقلانية بإرثها الإسلامي الإنساني، لخلق ذلك الانعطاف السياسي المحوري وأن لا تكون الدول هي المحتكرة للثروة.
لكن هل استطاعت تنظيمات اليسار أن تحافظ على الإيقاع المتوازن في الدعوة للاشتراكية أو في أعتبار نفسها بديلاً لأنظمة تابعة ومقيمة للنظام الوطني الديمقراطي الناجز ثم في ضياعها السياسي؟
وفي تبدل أسمائها فجأة ؟
ولماذا لم تتم عمليات التغيير في مؤتمرات يجري فيها البحثُ العميق في الإرث السابق، ومعرفة ما سوف يأتي وتـُدرس فيه وثائق التحول وأبعاده واحتمالاته؟
لقد وقعَ البلدُ في ثنائيةِ الطائفيةِ التي غدت هي صانعة النظام والسياسة. إن القطبين الطائفيين يجران الجميع نحو ما يتوارى داخلهما من مضامين غامضة، ويغدو بقية اللاعبين السياسيين ثانونيين.
إن تسليم القيادة للمذهبيين السياسيين بشكلٍ عملي كان تعبيراً عن تلاقي يمينين، فلا يمكن لليسار أن يسلمَ القيادةَ لليمين الديني، بغضِ النظر عن أخطاء الأخير.
اليمين الديني لا يستطيع أن يسايرَ العصر، فهو يبعثُ علاقات قديمة لا تتعايشُ مع العلاقات الجديدة وتحديات العصر ونموه. وما يفعلهُ هو العودةُ للوراء وهي عودةٌ مكلفةٌ رهيبةٌ ثقيلة من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
تنشأ بالضرورة وعبر هذا الصدام بين يمين محافظ مضاد للعصر وتطورات الحياة، علمانيةٌ عفويةٌ لدى الجمهور وخاصة الشباب، في رفض مثل هذه العودة للماضي التقليدي. ويتمسكُ الجمهورُ بدينهِ ولكن لا يقبلُ هذه النسخةَ الجامدةَ المشوهةَ من فهم الدين.
لكن العلمانية العفوية لا تستطيع أن تكونَ قوةً سياسيةً مؤثرة، وكذلك فإن الحياةَ الاجتماعية بظروفها وإحتمالاتها لا تعطيه علمانية سياسية قوية توحدُ شعبَهُ وتحلُ مشكلاته.
سواءً من قبل الفئات الغنية العليا أو من قبل جماعات البرجوازية الصغيرة المتحكمة في إنتاج السياسة.
إن اليسار الذي يسلم التاريخ السياسي لليمين الديني يكون هو قد إنهار من الداخل عن اليسار وعن العلمانية. لقد تآكلتْ أدواتُ تحليله وطرقُ نضاله.
ليس من محض الصدف هذه التحولات والتلاقي؛ التآكل في اليسار والتداخل مع اليمين الديني. اليسارُ العالميُّ الشرقي (المعسكر الاشتراكي)، كان في حالاتِ إحتضار، والبيروقراطياتُ الرأسمالية الحكومية كانت قد أبعدتْ العمالَ ومؤسساتهم، وذابتْ أصواتُ العمال، ولهذا رأينا الانهيارات التالية وصعودَ الحكوماتِ الرأسمالية بشكلٍ واضح، وهذا ما حدث في التنظيمات اليسارية العربية عموماً، فقد حدث التآكلُ والجمود في القيادات، وفقدتْ التنظيماتُ العمالَ الذين ضحوا وتعبوا وأنقطعت علاقاتهم بالتيارات، وتبدلت الحياة الاجتماعية في البلد ولم تعدْ المدنُ النهضوية هي التي تزخ أغلبية العمال، بل صار الريف، وأعطت هذه القواعد العمالية الريفية أجواءَ أخرى، وتداخلتْ مع الآراء السياسية المذهبية.
إن البنية الاجتماعية تبدلت، وأخذت الفئات الوسطى تلعب الأدوار الرئيسية في الحراك الاجتماعي السياسي، الذي نحا من المدن للريف، وتعملقت مؤسساتُ الرأسماليات الحكومية ووجهت البلد في مركزية شديدة التهمت أغلب المداخيل.
إن ثوابت التنظيمات اليسارية الفكرية من علمانية وعقلانية وديمقراطية تآكلت على مدى السنين السابقة، لغيابِ أسسها الموضوعية والذاتية، فاستخدام الدين سياسياً كان يجري بشكل عفوي ولمجاملة الجمهور في مناسباته الدينية، وبعضها يتحول إلى مشاركة إيديولوجية فيها، فُرؤيت التنظيمات الدينية كجزءٍ من ظاهرة طبيعية، لكنها كانت إمتداداً لصعود الرأسمالية الحكومية الإيرانية، بشكل الثورة القومية الفارسية خاصة، والتي جعلت الشعارات المذهبية أداتها في السيطرة الداخلية والإقليمية، فحلَّ تأثيرُ رأسمالية حكومية صاعدة محل رأسمالية حكومية ثورية شرقية آفلة، وضعفت المدنُ في مقابل صعود الأرياف، وتقزمتْ العلمانية كإتجاهاتٍ سياسية قوية، تنادي بفصلِ الدين عن الحكم، وعن السياسة.
وكانت التنظيماتُ السنية كذلك إمتداداً لرأسماليات حكومية مناطقية محافظة، وتركزت في المدن، وتغلغلت في الفئات الوسطى وبعض العامة، خاصة المتواجدين في المؤسسات العامة.
وكل يوم تُقرأ هذه الأزمة:(معاناة حادة من شرخ طائفي يقسم المجتمع التجاري إلى قسمين رئيسيين، لا يمكن القفز فوقه أو تحاشي إفرازاته السلبية. هذا الانقسام العمودي للمجتمع البحريني، الذي أحدثته تطورات تاريخية – ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها – ينبغي لمن يريد أن يحدد دور هذا القطاع أن يتوقف عنده، عوضاً عن القفز فوقه أو دفن رأسه في الرمال تحاشياَ لرؤيته. هذا الجرح الطائفي النازف بغزارة، والمنهك لإمكانات هذا القطاع، يضع كل الخلافات الثانوية القائمة ضمن كل طائفة على حدة، في الصفوف الخلفية عند تحديد معالم التناقضات في ساحة العمل السياسي البحرينية، عبيدلي العبيدلي، الوسط، 13أكتوبر، 2009.
(فالمشكلة التي تعانيها المملكة هي التخندق الطائفي وم

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 05, 2023 15:05
No comments have been added yet.