قبضة تــــــــــــــــــــــــراب

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

قصةٌ قصـــــــيرةٌ

كانت زرقة السماء مشوبة بنورٍ فضي شفاف . وثمة عصافير تتشاجر في دغلٍ مهجور . كان الطريقُ إلى المدرسة ترابياً ، متعرجاً ، بين مستنقعات آسنةٍ ، من بقايا المطر ، وأكوام أنقاض .

حملت الريحُ غناء بلبلٍ حزين . وبدا المرتفعُ بعيداً وقاسياً . وكأن الهضبة التي صعدها ركضاً استحالت إلى جبلٍ شاهق . رمق الحاجُ فاضل سورَ المدرسة المرتفع ، وأسلاكه الشائكة الصدئة .

سعلَ وتأوه ، وجلسَ على التراب ، ورمقَ الخضرةَ البعيدة الكالحة والمتوارية ، والسماء العميقة الزرقة ، بدت بيوتُ القريةِ المتراصة كمعسكر للاجئين .

اقتربت يدهُ من التراب ، تغلغلت أصابعهُ في مسامهِ . كان بارداً وناعماً وحنوناً .

توكأ على غصنٍ صلبٍ ونهض مرةً أخرى .

دخلَ المدرسة الهادئة ، كانت الجدران القديمة مليئة برسومٍ لم يرها من قبل ، وكانت التلميذاتُ محتشدات في الصفوف الصغيرة .

قادته الفراشة إلى مكتب المديرة . جلس على كرسي خارج الغرفة ، وهي بجانبه . سمع صوت آلة موسيقية في نهاية الممر ، ضجت التلميذاتُ بغناءٍ غريب . شعرَ برجفةٍ .

أدخلتهُ الفراشةُ على المديرة . أبصرَ ، في الغرفةِ المضيئةِ ، امرأة شابة ، كانت منحنية فوق ورقة كبيرة ، وتضعُ إشارات بقلم . كانت حاسرة الرأس ، جميلة الوجه .

تنحنح والقى التحية ، لم ترفع رأسها ، وسألت :

– ماذا تريد ؟

كان السؤالُ حاداً ومباغتاً .

لم يجبها . تطلعَ إلى الغرفة المليئة بالكؤوس والخرائط والصور والكتب وبعض الآلات الموسيقية .

سألت وهي ترفعُ رأسها :

– ماذا تريد ؟

ثم استدركتْ :

– تفضل ، تفضل !

واصلت وضعَ الخطوط فوق الورقة ، وبدا كأنها تنتظرُ طلبَ العجوز بإلحاح شديد .

– هل ثمة مشكلة ؟

– إذا كنتِ مشغولةً يمكنني أن أحضرَ مرةً أخرى ؟

قالها العجوزُ بهدوءٍ شديد أوقف صرير القلم . وكان يعلمُ إنه لا يستطيع أن يصعد الهضبة ثانية .

– ماذا لديك ؟ قل إنني أصغي إليك ؟ هل لديك بنات هنا ؟ هل عملت أحداهن مشكلة ؟

كان معها مخططٌ للمسرح الذي تعتزمُ إقامته . رغم إنسحاب تلميذات كثيرات ومدرسات ، إلا أنها أصرت على الاستمرار . والآن هذا العجوز أيضاً !

– إذا كنتِ مشغولة يمكنني أن . . أحضر مرة أخرى ؟

ابعدت المخطط باستياء . . وعقدت ذراعيها فوق صدرها . وقال بخفوت :

– إنني . . أصغي . . إليك !

– أنت المديرة الجديدة . . أليس كذلك ؟

– ماذا تريد ؟ ! ترى إنني مشغولة !

سعل بشدة وبدا كأن صدره يتمزق .

قال :

– ثمة ضجة ما في القرية . كنتُ في مجلس الحاج عمران وتحدثنا طويلاً عن المدرسة . كان هناك العديدُ من الشبان الغاضبين ، على هذا الغناء المتصاعد في المدرسة . . وهذه الآلات . كانوا يريدون الاندفاع إلى الصفوف وتحطيم كلَ شيءٍ . .

وراح يسعلُ ثانية . تطلعت إليه برعب ، وغضب ، ووضعت أصابعها على الهاتف . ماذا يجري هنا ؟ جاءت بحبٍ ، وعملت إلى المساء . تمضي إلى بيتها واهنة . وأبوها يتطلعُ إليها باستياء . مرة تأخرت حتى الليل ، فجاءتها حصاة !

يقول :

– لم أدعهم يصرخون . جئتُ إلى هنا . منذ سنوات طويلة لم أصعد إلى الهضبة . كنتُ اندفعُ فوقها وأنا شاب . . أركبُ الحمارَ . . ونجري معاً . . والحصى يتطايرُ . . تحتنا . . لم تكن الهضبة هكذا . . صارت جرداء . . جرداء . . ليس ثمة سوى . . الأدغال المهجورة . . والقططُ الشرسة . . كانت هذه الأرضُ . . أيتها المديرة . . خضراء . . مليئة بالأشجار والينابيع . .

الآن . . كل البساتين . . التي كانت . . غدت أرضاً . . قاحلة . . لم يبق سوى بضع بساتين صارت فللاً يسكنها غرباءُ . . لو كنتِ . . تقفين فوق . . سطح المدرسة . . لرأيتِ القرية . . بيوتاً كثيرة متزاحمة . . وتلك البساتين القليلة تحوطها من الشرق . . إلى الغرب . .

كان يتحدثُ بصوتٍ متقطع ، عميق ، وكانت يدهُ التي يضعها برفق ، على المكتب ، تبدو صلبة معروقة ، كأنها أرضٌ محروثة .

ولأولِ مرة يجعلها صوتهُ تسترخي . . ويفلتُ القلمُ من أصابعها ، وتفكرُ لماذا يتكلم هكذا ويجيء إليّ وهو يكادُ يحتضرُ ؟ !

أحستْ الآن بقوةِ المكان . ليستْ هي في مدينتها الجامعية ، ولا في رحلة . وغريبٌ إنها لم تذهب أبداً إلى القرية ، ولم تصعدْ إلى سطح المدرسة ، حيث تجلسُ بضعُ مدرسات في غرفتهن .

لامس ظهرها جلدَ الكرسي . وأصغت باهتمام إلى ما يقوله العجوزُ :

– كنتُ هنا . . قبلك . . لدي كوخٌ . . لتحفيظ القرآن . . وكم ألهبتُ الأيدي . . والأرجلَ بعصاي . . اللاسعة ! وكم هاجمتُ . . الرجالَ . . والنساءَ . . بسياط كلماتي ! . . ثم سافرتُ . . إلى الدنيا . . ورأيتُ . . وشربتُ . . وغنيتُ . . وقامرت . . وتبتُ . .   وتزهدتُ . . وحاربتُ . . ورأيتُ أكداساً من البشر يُلقَــَون في الحفر . . وجئتُ . . ورحلت . . وتزوجتُ ثلاثَ مرات . . ونصف القرية أولادي . . وأحفادي . . كانت هذه البرية . . الجرداء . . كلها حدائق لنا . . والآن . . لا مكان . .يأويني . . غير مجلسٍ . . ممتلئ بالرجال . . دائماً . .

 توقف قليلاً . بدت المديرة تحسُ بالألم والقلق . عندما عـُينت في القرية ، أصابتها بهجة شديدة ، واندفعتْ بسيارتها عبر الشوارع المزدحمة والبساتين ، وصاحت : سأكونُ شعلة من الضوء والعلم ! والآن هذا الرجلُ الأشيب وكلماته المتجرجرة كأنها رصاصات توجه إلى حلمها . كيف ابدأ من قبل الصفر ؟

رمقها العجوزُ لحظة ، وواصل حديثه :

– البارحة . . هتف الشباب . . وصرخوا . . أرادوا . . أن يحملوا . . النارَ لحرق المدرسة ! . . هدأتهم . . في الليل . . لا نستطيع . . أن ننام . . موسيقى الغرباء . . تضجُ في . . الظلام والصمت . . البارحة . . بعد أن خرجتُ . .   من مجلس الحاج . . عمران . . سرتُ نحو بستاني القديم . آه أتذكر هذا . . المكانَ . . هذه أرضي وأرض أبي . . طالما حرثتُ وحفرتُ وسقيتُ . .    وتسلقتُ الأشجارَ . . في تلك البقعة . . التي صارت . . بركة . . الآن . . سقطت أمي . . نزل أبي من فوق النخلة . . على أثر صراخنا . . كنا وأخوتي . . نلهو في الجدول . . وإذا أمي تسقط . . وهي تحملُ . . صرةَ الأكل . . حملها أبي . . إلى الكوخ . . حيث ماتت هناك . . على أرض الكوخ كانوا . . يرقصون . . وكانت تنطلقُ . .  موسيقى زاعقة . . عنيفة . .  منذ زمنٍ بعيد . . حاولتُ أن . . أجمعَ . . نقوداً . . لشراءِ . . هذه الأرض . . ولكني . . لم . . أستطع . . سا. . فرتُ . . تغر. . بتُ لك . . ني . . كنتُ . . أودُ . . أن تكون . . هذه . . القريية . . جنة . .عملتهم . . حفظتتهم . . القرآن . . ولكن كأن . . شيئاً . . لم يكن . . هذا . . البستان . كان ملك . . أبي . . وعند .. ما . . طردوه ه ه ! تعلمتُ . . كلَ شيءٍ . . من أجل . . أن . . أجمعَ ثمنه . . ولكن . . ها هو . . العمرُ . . يمضي . . وليس . . لي . . مكان . . أنامُ . . فيه !

صمتَ برهة . . وجدتــَها طويلة . . إنه هادئ في حزنه ، ولكن عينيه الصغيرتين المحاطتين بأخاديد وظلماتٍ تتألقُ فيهما شرارة من فرح غامض .

تطلعتُ إلى العجوز مباشرة ، ورأتهُ يحدقُ فيها بودٍ غريب ، وسمعته يدندن .

كان يتذكر حينئذٍ مجلسه في ذلك الكازينو ، والمغني يصدح ، وكان الجبلُ شاهقاً ، والمدينة تحته مليئة بالأضواء ، وكأنها درٌ منثور . رفع الكأسَ في صحة الجبل والغيم والغناء الشجي ، وصفق وغنى ونزل ، والضبابُ يشعشعُ في الفجر البهي.

كأنه قال شيئاً ولم تسمعه ، وخاطب امرأة مبهمة . نهض ، حياها بخفوت ، ورأت اليد الأخرى قابضة على شيءٍ ما . سار في الممر ببطءٍ . كانت الفسحةُ قد بدأت ، وجسدُ المدرسة الحي يضجُ بالضحك والصراخ . أحاطت به ثلة من الصغيرات . رأت ، من النافذة ، كأن قبضته تسترخي فجأة ،  وتتساقطُ غيمة ، أو حفنة من تراب .

ـــــــــــــــــــ

4 – سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

❖ «القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان  – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 15, 2023 04:51
No comments have been added yet.