الزهد وصلابة المقاومة !

لا يستطيع المرفهون والأغنياء الباذخون أن يقاوموا !
لا يستطيع المقاومة والنضال إلى درجة الاستشهاد سوى الفقراء و الأنبياء والنبلاء فكراً وروحاً !
ولهذا فإن منطقة المشرق التي عرفت الغنى الفاحش أو الفقر الشديد لم تستطع أن تشكل مناضلين مرفهين يعيشون في الفلل الفارهة والقصور!
فإما أن تكون مع الفقراء المساكين وإما أن تكون مع الأغنياء الاستغلاليين المتبطرين!
حاول الأسلاف السابقون أن يجمعوا بين النضال والغنى فلم يقدروا، لكون الحكام يخيرونهم بين الجوع واستقامة الموقف وبين أن يكونوا من الحاشية أصحاب القصائد العصماء المداحة الناصعة بالوساخة. إما أن يكونوا من التنابلة وإما أن يكونوا من المطرودين من الجنة الفيحاء والمشمولين بالرعاية القاسية والفقر المدقع!
لم يكن ثمة خيار للفارابي الفيلسوف سوى أن يعيش بدرهمين في يومه ويؤلف أهم المؤلفات في العصور الوسطى الإسلامية !
في حين ان أي موظف كان يتسلم مئات الدنانير في شهره ويداهن ويمدح ويطبل ويسرق المال العام، ويعيش في بيت كبير ومعه خدم وجاريات وعدة زوجات وينشر كل هذه الكوارث كإرث لنا !
ومن هنا كان شعراء البلاط المداحين الكبار والمسفين ماتوا روحياً واخلاقياً وحين ماتوا فعلاً لم يكن الواحد منهم يساوي جزمة عتيقة!
جعلت الأنظمة المستبدة المثقفين أمام خيارين لا ثالث لهما، اما النظافة والفقر، وأما القذارة والغنى!
في خيار القذارة والغنى فإنه لا عقل مستقلا لك، ولا إنتاج ثقافيا حرا، ولا تطور إبداعيا تنطلق فيه لتحليل وعرض ما يخطر عليك، وأن تشكل برامج سياسية حرة، وتتحالف مع من تريد وتعادي من تريد، فأنت مربوط بخيارات فكرية وسياسية مسبقة، لك أصدقاؤك وأعداؤك المسبقون المحددون سلفاً !
لكن الزهد أتاح للمثقفين والفلاسفة والمناضلين تشكيل آرائهم بحرية وقوة، لأنهم لم يكونوا بحاجة لترضية عدة زوجات، ودفع أثمان فساتينهن وأدوات حلاقتهن وعطورهن، ولا دفع تكاليف بلطجة أبنائهن، كانت الزوجة الواحدة أو العيشة الرهبانية قادرة على أن تتحدى جبروت القصور وفسقها وفجورها !
على مدى آلاف السنين عاش المقاومون للأنظمة الدكتاتورية على حافة الجوع، وكان ذلك ليس بخيارهم، بل نتيجة لظروف قاسية وخيارين أحلاهما مرُ، فإما أن تعيش بكرامة ورأسك مرفوع وكلمتك حرة، وإما أن تعيش غنياً مرفهاً ورأسك في الوحل!
كان الزهد مطلوباً حتى حين تتوافر ظروف اقتصادية جيدة للناس جميعاً؛ ويغدو المناضل قادراً على الصعود إلى عيشة آدمية معقولة، لأن الأنطمة تطمح حينئذٍ في فساد المناضلين، واسترخائهم السياسي، وانعدام بصيرتهم للتحولات التي تعدها، والانقلابات التي تشكلها، لها دامت الثروة في أيديها والحكم المطلق من صناعتها !
ولم تعد الأمور كالعصور السابقة فالمناضل والرئيس المتوج قادران على العيش بصورة متشابهة، رغم أن الأول يعيش في بيت صغير أو شقة، والآخر يعيش في القصر الجمهوري!
لقد جعلت وسائل النقل والاتصال والترفيه المكانات شبه متساوية؛ فالعامل قادر الآن أن يسافر ويترفه بالحياة أكثر من رئيس مريض بالوساوس وأمراض السكر والضغط، وليس له سوى أن يستعرض أبهته الفارغة والسفراء والحرس الجمهوري!
ولكن الفقير يظل دائماً حذراً من تقلبات الزمن ومن هيئات التأمين الاجتماعية والأسعار والثورات والحروب، ولهذا فإن الزهد هو بوصلته لكي يظل قوياً في الحياة وليس صيداً سهلاً للتقلبات السياسية؛ وتنبع قوته من هذا الزهد والترفع وعدم الخسة الحيوانية ليظل إنساناً كبيراً بروحه أولاً وليس بالأشياء المحيطة به والخادعة!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 02, 2023 01:59
No comments have been added yet.