العقل عند طه حسين

إن اقتراب طه حسين من الفكر الفلسفي نجده في الصفحات الأولى من كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) الذي يقدمُ فيه خطةً عامة لتغييرِ نظام التعليم في مصر، والجمعُ بين هذا الفكرِ النظري العام وقضيةِ التعليم تحديداً، هو قمةُ عمل النهضويين (العلمانيين)، الذين اقتصروا على البثِ الثقافي وليس العمل السياسي والاجتماعي المباشر، حيث صعّد طه حسين تدريجياً التنويرَ الأدبي ليغدو نضالاً سياسياً تبلور عند التعليم، وذلك بسبب تصور التنويريين المثالي عموماً بكونِ الثقافةِ هي أداةُ تغيير التخلف، لكن هذه الثقافة مصاغةٌ داخل آليات بنية الإقطاع المذهبي وليس لاجتثاث هذه البــُنية مما يؤدي بهذه الثقافة نفسها أن تكرس تلك البنية لا أن تهدمها كما كانوا يتصورون.
ولهذا فإن منطلقات عميدِ الأدب طه حسين شبهِ الفلسفية في مقدمة هذا الكتاب تتطابقُ وخطته لتغيير التعليم في مصر التي أعلنها في هذا الكتاب سنة 1938 ثم طبق أساسياتها حين صار وزيراً للتعليم في حكومة الوفد بعد ذلك.
وفي هذه المنطلقات فإن مسألة (العقل) تغدو بؤرةً مركزيةً في عمليةِ إنتاجِ المفاهيم وتطبيقها، ولهذا يقول :
(فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ وبعبارة موجزةٍ جلية أيهما أيسر على العقل المصري : أن يفهمَ الرجلَ الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجلَ الفرنسي أو الإنجليزي؟)، (31).
يعممُ طه حسين الوعيَّ المصري وتياراته في أزمنته المختلفة في تعبيرٍ متجوهر هو (العقل) مما يُعطي لهذا العقل خصائصَ عامةً مجردةً خارجَ الزمان والمكان. فالعقلُ المصري يغدو بهذا الوعي واحداً سواء كان في زمنِ التاريخ المصري القديم في زمن الفراعنة أم كان في زمن التبعية لليونان والرومان أو زمن الدخول في السيطرة العربية أو في زمنه الحديث، فكل هذه التشكيلات التاريخية والسيرورة الاجتماعية لا تغير من طبيعة العقل المصري الواقف فوق الوجود.
ولهذا فإن (العقلَ) المصري وهو يشتبكُ مع الغزاة والعقول الأخرى يظل محتفظاً بهويته الجوهرية حسب منطق طه حسين المثالي المفارق، وهذا العقلُ الذي يجعله حضارياً بشكلٍ ميتافزيقي منذ أن ظهر في الوجود، يصطدمُ مع التأثيرات الشرقية غير العقلانية مثلما غزا الفرسُ مصرَ رغم أنهم كانوا تعددين بخلافِ ما يعرضُ طه حسين هنا أي لم يفرضوا ديناً : (ومعنى هذا كله واضح جداً : وهو أن العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالاً ذا خطر، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي، وإنما عاش عيشة حرب وخصام) (32).
إذن إذا كان هذا العقلُ متجوهراً على نفسه وخارج الشرق وهو فيه، كيف يستمدُ مقوماتِهِ وكيف ينتجُ عقلانيتَه؟
يقول الدكتور طه حسين بأن بناءَ العقل يتمُ من خارجه عبر المحيط الجغرافي فيقول: (أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط)، (33).
ومن هنا فهو يجعلُ العقلَ المصري (أوربياً) قبل أن تظهر أوربا الرأسمالية الحديثة، لكن عبر نموذجها الأولي المتمثل في حضارة اليونان، التي قام العقلُ المصري نفسه بتغذيتها بالعلوم والفنون، ولكن هذه التغذيةَ الثقافية تظهرُ في شريطِ طه حسين التاريخي بلا سببيات وبشكلٍ مجردٍ، ولكنه وهو في هذا التجريد يستدركُ قائلاً بأنه من الحق (أن نعترف بأن مصر لم تنفردْ بالتأثير في حياة اليونان، ولا في تكوين الحضارة اليونانية والعقل اليوناني، وإنما شاركتها أممٌ أخرى، كان لها حظٌ موفورٌ من الحضارة والرقي..)، (34).
إن العقلَ الحضاري إذن هو من نصيبِ جماعاتٍ تعيشُ على ضفافِ البحر الأبيض المتوسط، وكأن في هذا البحر خصائصَ سحريةً تعطيه قدرةَ جعل الشعوب العائشة على ضفافه أن يكونَ لها عقلٌ وحضارة، وليس أن هذه الحضارات نتاج أساليب الإنتاج المتقدمة والمتباينة فيما بينها، ولهذا فإن طه حسين لا يعرضُ أسبابَ الديمقراطية اليونانية وانتفاء هذه الديمقراطية من أساليب الحكم الشرقية (الحضارية)، ولا مظاهر كون الثقافة اليونانية متعددة من مادية ودينية في حين كان الشرق دينياً شمولياً، ولهذا فإن ميزات هذا العقل المصري أو الشرقي الحضاري عامةً، الشمولي الديني يُطَّابقُ بالعقلِ اليوناني المتعدد الأفكار، وهو أمرٌ يقودُ إلى إخفاءِ التباين العميق بين الثقافة في ظل أنظمة العبودية العامة كما في مصر والعراق والشام، التي سادتها الأديانُ الحكوميةُ المستبدة، وبين اليونان التي عرفت الاتجاهات الفلسفيةَ المادية المتنوعة ثم الاتجاهات المثاليةَ المتعددة بعد ذلك، بسبب تعدديةِ المدن والسلطات وظهور برجوازية حرة.
وخلافاً لرأي طه حسين البحري فإن ظهورَ العقل الديمقراطي في اليونان نتاجُ تطور الصناعات والتجارة الحرة غير المحكومة بإدارة الدولة، وهي الظروف التي أتاحت التعليم الحر والثقافة الحرة، بعكس ما فعلته المنشآتُ التعليمية الكهنوتية المصرية والعراقية والشامية الخ، ولهذا فإن الموادَ الثقافيةَ المشرقية المقدمة إلى اليونان المفيدة والمؤدية للتطور لم تؤخذ في زنازينها الحكومية الغيبية المشرقية، بل أُدرجت في أبنيةِ مدنٍ يونانية مختلفةِ الاتجاهات، وفي المدن الديمقراطية أدى ذلك إلى فلسفات مادية ومثالية موضوعية كفلسفتي ديمقراطيس وأرسطو، وفي مدن استبدادية وعبر نمو الاستبداد في المجتمع اليوناني عامةً أدى ذلك إلى ظهور فلسفات مثالية دينية معادية للعقل الخ..
إن فصلَ طه حسين العقلَ المصري عن منطقتهِ العربية – الإسلامية – المسيحية الشرقية وتعليقه في فضاءٍ جغرافي لا تاريخي، أي وضعَهُ داخلَ إطار ما أسماه (أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم) ص 14، يستهدفُ غايات تحويلية شمولية تحديثية، أي بمعنى إن عمليةَ الفصلِ هذه التي تــُشكَّل بمنهجيةٍ لا تاريخية تجريدية، تسحبُ مصرَ من سيرورةِ تكونها الاجتماعية التاريخية الموضوعية الحقيقية، وتعلقها في وعي مُسقطٍ على التاريخ وهو وعيٌ شموليٌ إداري حكومي، وليس بمنهجية ديمقراطية شعبية، فتقومُ هذه المنهجيةُ بفصلها عن تكونها الحقيقي، وتوجدُ لها رابطةً موهومة، هي رابطةٌ إيديولوجية مُسقطة من مثقفٍ تنويري يستهدفُ غايةً جيدة لكن بشروطِ وعي غير علمية.
ومن هنا يهاجمُ الشكلَ العادي الموضوعي المبسَّط من الوعي العام مصراً على قطعهِ لمصرَ عن نسيجِها العربي الإسلامي المسيحي الشرقي: (فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي)، ( ولكني لم أستطع قط، ولن أستطيع في يومٍ من الأيام، أن أفهمَ هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب.) (35).
إن طه حسين وهو يستهدفُ غايةً نبيلةً وهي ربطُ مصر بأوربا النهضوية الحديثة يستخدمُ منهجاً إيديولوجياً يحطمُ فيه أسسَ التاريخ ويشكلُ تاريخه الإيديولوجي الخاصَ الموظفَ لخدمةِ تلك الغاية السابقة الذكر.
يقول: (ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول) ويضيف: فالمسلمون أنفسهم منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساساً للملك وقواماً للدولة.)، (36).
إن طه حسين هنا يرفض بديهيات التاريخ، فعلى العكس كانت الوحدةُ الدينية – اللغوية أساسَ تكونِ الدول القديمة، فالإمبراطوريةُ الإسلامية قامتْ على تلك الوحدة المزدوجة، وكانت تلك الوحدة في بدايتها عملية نهضوية واسعة، وبهذا فإن الإسلامَ واللغةَ العربية وضعا أساسين لتشكلِ ولنهضةِ أممٍ متعددة، ولكن نظراً لسيطرةِ طبقةٍ استغلالية في مركز هذه الإمبراطورية ورفضها عمليات الإصلاح من قبل الفئات الوسطى المدنية، فإن هذه الإمبراطوريةَ تفككت، وبالتالي بدأت اللغاتُ القوميةُ في الظهور وإزاحة اللغةِ العربية في بعض الأقطار، في حين احتفظت أقطارٌ أخرى بهذين الأساسين، فيما عُرف بالدول العربية الإسلامية. وظل هذان الأساسان فيها، حتى حاولت الإمبراطوريةُ التركيةُ تغييرَ الأساس اللغوي العربي لحضارةِ المنطقة فلم تستطع.
والغريب في منطق طه حسين أنه ينقلبُ عن هذا الرأي حين يمنهجُ التعليمَ في مصر معتبراً الإسلامَ واللغة العربيةَ أساس هذه المناهج التربوية حتى في المدارس الأجنبية!
وفي رؤية طه حسين هنا نقرأ تعميمات تجريدية خاصة في تعبيري (الدين) و (اللغة)، فالدين، الإسلام، لم يعدْ هو أساس وحدة الإمبراطورية الإسلامية أو الدولة الإسلامية، بل المذهب، فالأساسُ الإسلامي العام التوحيدي زال، وغدت الدولة مذهبيةً، والمذهبُ الديني الموظفُ حكومياً صار أداةَ السيطرة للطبقة الإقطاعية، مُفرغَّـاً من طابعهِ الإصلاحي ومحوَّلاً إلى أشكالٍ مُفرَّغةٍ من دلالاتها الشعبية النهضوية الأولى، كما أن (اللغة) العربية الفصحى تيبست ثم أصبحت محصورةً في دوائر ضيقة بسببِ سياسةِ تلك الطبقات الإقطاعية في تقليصِ الثقافة والتعليم وحياة المنتجين المادية وبالتالي أدى هذا إلى تكونِ وصعودِ اللهجات العامية الخ..
ولكن هذين الأساسين – أي الدين واللغة – تشكلا في زمنِ الدول التقليدية، أي في زمن سيطرة الإقطاع، وبالتالي فإن مسار التعميم لدى طه حسين، كما هو سائد كذلك في الوعي العربي التقليدي عامةً، ليس دقيقاً فالانتقال من الإسلام العام إلى المذاهب هو أمر مختلف، بمعنى أن انتقاله من شكلٍ إلى شكلٍ آخر، هو بسببِ جملةٍ من التغيرات والصراعات التي انعكست على البنية الداخلية في الدين. أي بسبب انتقال الإسلام من دين شعبي إلى دين حكومي مُسيَّطرٍ عليه من قبل الأقليات الاستغلالية.
ولهذا فطه حسين بعد أن أنتزعَ مصرَ من سياقها العربي الإسلامي وعلقها في فضاءِ بحرِ الروم حيث تنتمي إلى دائرة الأمم الأوربية، عاد وأفرغ التاريخَ العربي الإسلامي من دلالاته الموضوعية وتطوره الحقيقي، يقول :
(فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوربا. فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات. والإسلام قد ارتفع من أن يجعل واسطة بين العبد وربه. فهذه السيئات التي جنتها أوربا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل.)، (37).
إن هذه لغةً تجريدية لم تدرس المسار الفعلي لتطور الدولة العربية الإسلامية، فعبر تحول الدولة الإسلامية من دولة (شعبية) إلى دولة للأشراف تم إعادة تشكيل الوعي الديني المسيطر، وكذلك غُيرت طبيعة رجال الدين حيث قــُرب الموالون وصارت الأحكام تراعي دول الاستغلال، وأُضطهد المعارضون، ونـُحيت مسألة الملكية العامة العائدة للمجتمع وتم تشكيل أشكال مذهبية معارضة متعددة، ولكن عموماً لم يستطع المدافعون عن الجمهور أن يشكلوا فقهاً مسيطراً، في حين سيطر الفقهُ الموالي لدول الاستغلال على تعدد أوجهها المذهبية.
وبهذا نشأ لدينا أكليروس من طبيعة مختلفة عن الأكليروس الأوربي، الذي كان وحده على السلطة في العصر الوسيط، في حين كان الأكليروس الديني لدينا مجردَ تابعٍ ومشاركٍ للسلطةِ السياسية، لكنه كان اكليروس كذلك!
لقد صارت السلطة دينيةً وصار المذهب سياسياً وكلاهما مشكلان من قبل طبقات الأقلية الحاكمة، ولهذا فإن أوجه النهضة الفقهية والأدبية والفكرية المضيئة هي من إنتاج الفئات الوسطى التي حاولت أن تقاومَ ذلك التكريس المحافظ ولكنها لم تستطع أن تحيلها إلى ثقافة سائدة، وقامت قوى الأقلية بإعادة صهر النتاج الديني الثقافي ليصير على ما هو عليه في القرون الأخيرة من تكلس وتبعية للهيمنة الحكومية.
ولهذا فإن خلاصةَ طه حسين تبدو مضادةً للواقع: (فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو: أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر.)،(38).
ولننتبه هنا إلى كلمة (أصل من أصول الحياة الحديثة) وهي كلمةٌ لم يصرح بها طه حسين وهي كلمة (العلمانية) أي فصل الدين عن السياسة، ولكن هذا الفصل لم يحدث إلا بشكلٍ جزئي، فالحكامُ كانوا سياسيين ولكنهم مذهبيون كذلك، أي أن سيطرتهم على المنافع العامة جعلتهم يسيسون الدين بشكل معين، إلا أن عملية الفصل الشاملة بإعطاء الإسلام حريته لم تحدث، وظلوا مهيمنين على إنتاج الدين وإنتاج الثروة معاً، واستمر ذلك حتى زمن طه حسين وهو يكتب كتابه.
إن عدم تحليل طه حسين لسيرورة الإسلام بشكل موضوعي، أي تعليقه في فضاء مجرد من الصراع الاجتماعي، في الماضي، يقوده إلى إنتاج نفس الخريطة المجردة في العصر الحديث. أي على إبقاءِ الدينِ خاضعاً للأقليةِ الغنية المسيطرة على الثروة والسلطة.
ولهذا فإن طه حسين وهو يكتب كتابه السابق الذكر (مستقبل الثقافة في مصر) كان يتصور عملية الفصل بين الدين والسياسة قد تمت لدى المسلمين وليس ثمة حاجة للنضال من أجلها، وأن مصر الدينية الإقطاعية في عصره مماثلة في وجودها الاجتماعي لأوربا الرأسمالية العلمانية، وهذا التصور قد تشكل بسبب عدم قراءته للتطور الاجتماعي المختلفِ بين المشرق وأوربا، فهو أولاً يعزلُ مصرَ عن نسيجها الجغرافي الاجتماعي، معلقاً إياها في فضاءٍ إيديولوجي تنويري مثالي، جاعلاً إياها متجوهرةً مرتفعةً عن بُنى التاريخ الموضوعية، ثم ينقل هذا التجوهر إلى مفردات الدين والعصر. فتنتفي الفروقُ النوعية بين تطورِ مصر الإقطاعية المذهبية وتطور أوربا الرأسمالية العلمانية. فكلاهما سواء ولا تحتاج مصر لتكون أوربية كاملةً سوى إلى اندماج ثقافي حداثي وليس إلى تغيير سياسي واجتماعي كبيرين. أي أنه يقفزُ على مهمةٍ كبرى لم تنجز.
إن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي كتبه طه حسين هو محاولة لإنتاج عقل حديث، ولكنه يعجز عن إنتاج مثل هذا العقل، كما فعل ديكارت في فجر التحديث الأوربي. فديكارت الذي توجه نحو الفلسفة أنتج معرفة لادينية، أي معرفة تفتحُ الطريق لنمو التجريبية الخالصة ولتحرير العلوم الطبيعية من أسر الكهنوت. في حين توجه طه حسين للأدب، وشكل عقلاً مجرداً لا تاريخياً، كرس المحافظة الدينية الميهمنة على المناهج التربوية.
فصياغته لعقلٍ مجردٍ لا تاريخي ولا طبقي، جعله يجردُ الدين واللغة والثقافة عموماً من كونها أدوات في الصراع الاجتماعي، فالفكر الديني المحافظ الذي كرسه الإقطاع المذهبي عبر القرون السابقة، ليس هو منتجٌ إسلاميٌ عام، بل هو منتجُ الأشراف والقوى العليا التي هيمنتْ على المسلمين والمؤمنين عموماً. ولهذا فبدون فحصِ ونقد هذا المُنتَّج المتنوع وتقديمه خاماً مسيطراً على العقول عبر التعليم، لا يؤدي ذلك إلى خلق عقل (تنويري) بل يؤدي إلى توسيع المحافظة الدينية اليمينية، وحين يخطط ثم يبني طه حسين تعليماً متوسعاً ديمقراطياً في امتدادته، ثم يقدمُ نفسَ المادة الدينية المحافظة فهو يقوي الاتجاهات غير التنويرية التي أراد تغييرها. إنه يوسعُ التعليمَ لكي تسيطر عليه القوى الشمولية خلافاً لأمنيته.
يقول:
(ولا يخطر لأحدٍ من أشد الناس محافظةً أن يحظر درس بشار وأبي نواس ولا أن يطلب من السلطان تحريق ما ورثنا من آثار الفلاسفة والزنادقة والمجان الذين لا يرضى عنهم الدين..)، (39).
إن هذا الذي يستبعدُ طه حسين في زمنه وقوعه قد حدث فعلاً في زمن تالٍ، وهذا يعودُ لأن قادةَ الفئات الوسطى الفكريين والسياسيين، طرحوا مفاهيمَ مجردةً كمسائل العقل والدين واللغة والثقافة عموماً، ولم يدرسوها كمنتجات في بُنى اجتماعية متضادة القوى والطبقات، وبالتالي قاموا بالترويج لفكر العصر الوسيط المحافظ، وكانوا يقولون بأنهم يعيدون إنتاج أوربا الحديثة مصرياً وعربياً.
إن طه حسين يجعلُ طبيعةَ الدولة المصرية المعاصرة وطنية عامةً مجردةً : (أول واجبات الدولة أن تحمي بعض المصريين من بعض)، فتغدو الدولة هنا جهازاً فوق الطبقات، مثلما جعل الثقافةَ وعياً فوق الطبقات، وجعل فلسفةَ ديكارت والفلسفة الأوربية الحديثة عموماً شكلاً إنشائياً: أنظر قوله (إن الذين يزعمون أن ديكارت كان خلواً من الروح إنما يقولون سخفاً ويهذون بما لا يعلمون)، ص 67. فهل هي قضية ديكارت الروح أم قضيته فصل الفلسفة عن الدين وخلق اتجاه تجريبي علماني؟
وتغدو الديمقراطيةُ لدى طه حسين كذلك تنويراً ثقافياً وليس بنيةً حديثة ذات قوانين مختلفة عن قوانين بنى العصر الوسيط.
إن هذه اللغةَ الإنشائيةَ الخطابية غير التحليليةِ غير الفلسفيةِ، لن يكون بإمكانها أن تناقشَ القضايا المحورية في البنية الاجتماعية المعاصرة، أي أن تربط مسائل الثقافة وعلاقتها بالتشكيلات التاريخية، وأن تقرأ أنواعَ الوعي المرتبطة بالطبقات، وأن تحدد مسارَ التحول ونشاط القوى الفاعلة الثورية، وبهذا فإن هذه الرؤية لا تصل إلى المفاهيم المجردة الفلسفية العامة كالضرورة والسببية والحرية والقانون الاجتماعي والطبيعي الخ.. وهي عبر وعيها الأدبي تريد أن تقيمَ استراتيجية اجتماعية كبرى، ويترافق هذا مع فئات وسطى متداخلة مع الإقطاع، فتغدو الحداثة متداخلةً مع المحافظة الدينية، وتصير العلمانية في نسيجٍ كهنوتي، وتعجزُ الفئاتُ الوسطى عن التحول إلى طبقة وسطى قادرة على تجاوز التشكيلة الإقطاعية المذهبية.
وفيما بعد يضيفُ النظامُ العسكري الوطني الشمولي مشكلات أخرى إلى هذا التصدع الداخلي لتطور الفئات الوسطى باتجاه الحداثة والديمقراطية، فهو يزعزع فئاتها الصناعيةَ ويخلقُ بيروقراطيةً اقتصادية كبيرة تتوجه إلى الفساد، مما يكرس المحافظة الدينية ويؤدي إلى ضمور العقل النقدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة ، 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 30, 2023 01:25
No comments have been added yet.