زكريا إبراهيم : الاستيراد الفكري
اعتمد الباحثون العرب على بضاعة الغرب الفكرية في أغلب الأحيان، وظهر ذلك لدى الليبراليين الأوائل اعتماداً على الفلسفات الصوفية والحدسية وكان هذا يعبر عن نقص في التحليل الاجتماعي خاصة.
يعرضُ المفكرُ العربي زكريا إبراهيم سببَ إختيارهِ للفيلسوف الفرنسي برجسون ليكون مادةَ أحدِ كتب سلسلة (نوابغ الفكر الغربي)، ولكي يطلَ القارئُ العربي على هذه الشخصيةِ ليس فقط لمعرفةِ خلاصةٍ وافيةٍ للفلسفةِ البرجسونية بل إنه كان يستهدفُ أيضاً أن ينقلَ: (إليه روحاً فلسفية عميقة خصبة مرنة)، (برجسون، زكريا إبراهيم، دار المعارف، سلسلة نوابغ الفكر الغربي 3، مصر). (1).
يهمنا في هذه الفقرةِ أن نرى كيف تتراءى الفلسفةُ البرجسونيةُ لدى أحد أعمدة الفلسفة العربية المعاصرة، وهو مفكرٌ مشغولٌ بعرضِ القضايا الفكرية بصفتها مشكلات، فيكتبُ عن مشكلةِ البُنية ومشكلةِ الفلسفة مثلما يعرضُ نماذجَ من الفلاسفة الغربيين.
ولا شك أن إختيار هؤلاء الفلاسفة دون غيرهم والترويج لهم، والدفاع عنهم، والقيام بنقل (روحهم) الفلسفية هي عمليةٌ فكريةٌ معقدة مركبة، فنحن نجدُ برجسون الفيلسوف الفرنسي الذي ظهر في فرنسا بين 1859 – 1941، أي أن طفولته تتشكلُ مع الاحتلال الألماني ووفاته تصادف الاحتلال الألماني كذلك، يعبرُ عن منحى خاصٍ لفكر الطبقة المتوسطة الفرنسية بعد فكرها المادي والثوري.
فالمؤلفُ زكريا إبراهيم ينكرُ منذ مقدمة الكتاب أن تكون الفلسفة البرجسونية؛ (فلسفة لا عقلية، لا حتمية، تنكرُ الوجودَ لحسابِ الصيرورة وتلغي العقلَ لحساب الحدس)، فيدافع عنها قائلاً:
(هي الفلسفةُ الإيجابيةُ التي ساهمتْ بقسطٍ وافرٍ في تبديد الكثير من الأفكار السلبية مثل فكرة العدم، وفكرة الاضطراب، وفكرة القدرية المطلقة، وما إلى ذلك من الأفكار. فليستْ قيمةُ الفلسفةِ البرجسونية منحصرةً في هذا الجانب السلبي، مهما كان من أهميته، بل لا بد لنا دائماً من أن نتذكر أن برجسون قد أقام ميتافيزيقا إيجابية قوامها تقرير واقعة الحرية، وإثبات حقيقة الروح، وتفسير ظاهرة الخلق، والكشف عن مبدأ «الفعل» والمحبة في الوجود)، (2) (المصدر السابق ص 11).
إن الاهتمامَ ببرجسون في الفلسفة العربية كبيرٌ، وهذا يعودُ لكون المثاليين على الضفة العربية يقومون بتقوية ترساناتهم الفكرية في وسطنا العربي عبر ما تخضهُ الثقافةُ الغربيةُ الحديثة، وهم اختاروا (برجسون) بشكلٍ خاص وكبير،(*)(3) لما يمثله من قيم فكرية متجذرة لديهم ، أي أن مثاليتهم العربية الدينية العريقة وجدت في برجسون شخصيةً غربيةً حديثة توافقت مع عقليتهم فتقوت به.
يمثل زكريا إبراهيم هذا النموذج، فهو حين يعرض أن فلسفة برجسون لم تقتصر على السلب ورفض الأفكار المادية والعلمية المنتشرة، (وكأن الهجوم على الأفكار المادية والعلمية فضيلة بحد ذاته) بل كذلك قدمت أفكاراً إيجابية ولكنها كذلك في دائرة: (الميتافيزيقيا الإيجابية) مما يعبر عن وجود ميتافيزيقيا مشتركة بين الضفة الفرنسية والضفة العربية، بل أن برجسون نفسه يؤكد ذلك بلغة قوية:
(إنني اعترف بأن كل جهدي قد انحصر في الميتافيزيقا، وفي الميتافزيقا وحدها؛ ولكنني أوثر أن أحدد هذا الجهد بأنه تعمق للتجربة)، (4) (المصدر السابق، ص 11) .
لكن زكريا إبراهيم لا يعرضُ تجربةَ برجسون الفلسفية في إطار تاريخيتها، وعبر تحليلها النقدي، بل هو يعرضها تحليلياً في إطار التماهي معها، وبعدمِ كشفِ تناقضاتها وخبو سيرورتها.
فهو يعتقدُ بأن فلسفةَ برجسون فلسفة عظيمة. (ذلك لأن كل فلسفة عظيمة إنما تتولد بادئ ذي بدء عن شعورٍ حادٍ بوجود ‹هوة›عميقة بين العقل والواقع، مما يثير لديها الشعور بأنه لا بد لها من ‹طفرة› كبيرة حتى تتمكن من عبور تلك الهوة) ،(5). لكن الأستاذ زكريا لا يقول لنا أي هوة تلك؟ وإلى أين تتجه الطفرة الكبيرة؟!
ويعرض زكريا إبراهيم فلسفة برجسون في إطار ثقافي مباشر، فهو يتتبع المؤثرات الفكرية التي لعبت دوراً في تشكيل برجسون بشكلٍ محدود، وكأنها أطياف صغيرة تحيط بلغته الفلسفية المنبثقة المتصاعدة ، فتبدو فلسفاتُ القرن التاسع عشر الأوربية محصورةً في فلسفة أسبنسر، التي تبناها وأوغل في منهجها المادي الميكانيكي، والذي يقول عنه الباحث بأنه استفاد منه مع ذلك في تتبع مسألةِ التجربة، وهذا يشير بخلاف رؤية الباحث بأن انتقال برجسون من المادية الآلية إلى المثالية الصوفية أمر يحتاج إلى تحليلٍ معمقٍ بسبب هذه القفزة الهائلة من أقصى الفكر إلى أقصاه!
وكل ما يقوله الباحثُ عن هذا المناخ بأن سيادةَ الأفكار المادية والعلمية المتطرفة في القرن التاسع عشر وهي فلسفات في رأيه محدودة، قد جعلت ظهور فلسفة برجسون ضرورة لما في تلك الفلسفات من ضيقِ أفقٍ وجمود!
يقول المؤلفُ عن كتيب لبرجسون أثناء الحرب العالمية الأولى: (وفي هذا الكتيب الصغير يتساءل برجسون عن مصير الإنسانية ومعنى التقدم، ويعربُ عن ثقتهِ في انتصار القيم الروحية والقوى الأخلاقية والمثل العليا (مثل العدالة والحق والحرية) ، ضد قوى الشر والانحلال، ودعاة الآلية والمادية وأنصار البغي والعدوان(6))! (السابق ص 28 – 29 ) .
تتوجه فلسفةُ برجسون كما يعرض الباحثُ إلى تغيير في طابعِ الفلسفة (المثالية) وهو لا يقول لنا عن هذا التغيير ولكن نحن نستشفه ، يقول برجسون :
(.. إذا أردنا للميتافيزيقا أن تكون مظهراً جدياً من مظاهر نشاطنا العقلي ، فلا بد لنا أن ندير ظهورنا لذلك (العقل التصوري) … والواقع أنه لا سبيل إلى تحصل معرفة ميتافيزيقية حقيقية إلا بالعدول عن التصورات والالتجاء إلى «الحدس»)(7)، السابق، ص 35.
فبرجسون لم يرفض فقط الفلسفات الآلية والمادية بل أيضاً الفلسفات المثالية السائدة ، فهو لا يريد إنشاءَ أبنيةٍ فكرية مثالية ذات تصورات موضوعية على طريقة هيغل أو حتى كانط، بل يريدُ جعلَ (الحدس) أداةً منهجية شاملة، وهنا يغدو الحدس ليس لحظةً في بناء عقلي متراكم عبر التحليل في مادة الطبيعة أو المجتمع ، بل أن يغدو هو البناء نفسه ، مما يؤدي إلى الإطاحةِ بمجملِ عناصر المنهج الأخرى. أي لا بد هنا من خلقِ مقولات تقومُ ببناء تصور عن الأشياء الكبرى كما فعلت الفلسفاتُ المثالية الموضوعية، التي لا تستعين بالحدس وحده بل بالمقولات وبالبراهين والتحليلات والذي يأتي الحدسُ فيها كموتيفٍ جزئي، في حين إنه عندما يتحول هذا الموتيف الجزئي إلى كلِ اللوحة، فلن يغدو هناك بناءٌ منطقي معقلن بغضِ النظر عن كيفية نمو هذا البناء، في جهة الطبيعة أم في جهة الخالق، أم جهة الإنسان، أم في كل هذه الجهات ..
حين تتضخمُ أداةٌ منهجيةٌ معينة لتبتلعَ كلَ الأدوات المنهجية فلا بد أن ثمة مشكلةً اجتماعية فكرية كبرى.
ويشرح الباحثُ هذا الحدسَ قائلاً:
(إذ المعرفة الحدسية هي في جوهرها معرفة مباشرة فيها تمزق حُجب الألفاظ وشباك الرموز، لكي نغوص في طيات الواقع ونمضي مباشرة إلى باطن الحقيقة)، (7) .
تبدأ سلسلةُ التناقضات المطلقة الأولى بالظهور هنا، فالحدسُ يغدو معرفةً بلا وسائط، فبرجسون يشكلُ تناقضاً بين الحدس وبقية الأدوات المعرفية، وفي هذا خطورة كبيرة على الوعي للوصول إلى الحقيقة، فالحدسُ شكلٌ مغامرٌ من المعرفة، ظرفي، وتلقائي، وذاتي، ووامض، لكنه يغدو هنا هو كل أدوات المعرفة .
هناك تناقضٌ آخر بين تجليات الحقيقة وجوهرها، فالجوهر يغدو صافياً منغلقاً على ذاته، في حين أن أشكالَ وظاهرات الحقيقة تغدو زائفةً. والتناقضُ بين الشكل والمضمون هنا تناقضٌ كلي، وهو التناقض بين البراني والجواني، بين الخارج والداخل، بين الظاهرة والماهية. فيبدو أن الأشياءَ تمتلكُ بعدين متضادين غير قابلين للجمع الجدلي، مما يحليها إلى ظاهر وباطن، وواقع زائف وواقع حقيقي. وهذه التعبيرات سبق أن لاحظناها بوفرة لدى المثاليين العرب المغالين والصوفيين خاصةً، أي أولئك الذين طرحوا وجود باطن للقرآن أو باطن للحقيقة هو غير ظاهرها. وبالتالي فإن الوعي (الحقيقي) يتجاوزُ الظاهرَ، ولابد أن أداتهِ المعرفيةَ ( متفوقة)، أي هي نخبوية لم توهب إلا لمن يمتلك حدساً ورؤيا. إن برجسون هو باطنيٌّ بمعنى معاصر!
أي أن الحدسَ هنا لا يحددُ طبيعةَ الحقيقةِ المصطفاة، بل يحددُ أيضاً المتوجهين إليها ذوي الأداة الخاصة المصطفاة هي الأخرى.
فالحقيقةُ ليست في ظاهرها الشعبي الذي يمكن للعقل العادي الوصول إليه عبر التحليل والبراهين بل تتطلب عقلاً غير عادي، وحدسي، وإلهامي، وصوفي.
إن الأشكالَ الخارجيةَ للحقيقة وهمية لكن هناك الباطن جوهر الظاهر والذي يمكن الوصول إليه كما يقول صوفيونا القدامى عبر نزع الملابس البرانية للعقل وللأشياء معاً.
يوضح الباحثُ هذه المعرفةَ بالصورة التالية:
(ومعنى هذا أن معرفة أي شيء من «الباطن» هي بالضرورة معرفة بسيطة تنصبُ على هذا الشيء باعتباره «مطلقاً»، بينما معرفة الشيء «من الخارج» هي معرفة نسبية قوامها التحليل والتجزئة ، فهي بالضرورة معرفة تقريبية لا يمكن أن تستغني عن الرموز) ،(8).
نجد إن قوالب : الباطن – المعرفة البسيطة – المطلق – الداخل ، تتضافر في شكل معرفي واحد هو الشكل الصوفي الذي يدخلُ في معرفةِ المطلق ، سواء كان حقيقةً كلية أم إلهاً ، بدفعةٍ واحدة وبقفزة شعورية غير تحليلية ، وهذا القالبُ يتناقضُ مع القالب الآخر ، قالب المعرفة من الخارج : التحليلي ، والتجزيئي ، والتقريبي ، وذي الأدوات المنهجية العلمية .
إن زكريا إبراهيم مثل الكثيرين من الباحثين العرب يستورد الجاهز في الفكر الغربي، وخاصة الاتجاهات الغيبية الحدسية ومن أكبر فلاسفة هذا الاتجاه وهو برجسون الفيلسوف الفرنسي.
إن برجسون هنا يعيد إنتاج (فلسفتنا) الشرقية الصوفية أوربياً، ولهذا فإن الرؤيةَ اللاجدلية للظاهرات تتحكمُ في كيفية صفهِ للمناهج والمحاكمات، وتحويلها إلى قوالب غير قادرة على التداخل، بل تصطفُ اصطفافاً متوازياً متضاداً أبداً.
وبالتأكيد فإن برجسون لا يظهر نفسه كرجلٍ يقومُ باستعارات من الفلسفة الصوفية الشرقية ، بل هو يؤكد نفسه كفيلسوف في المسار الغربي التحديثي ، ومن هنا يبرز إن هذه المعرفة الدينية الأشراقية لا تتناقض مع العلوم :
(وإذ كان قد وقع في ظن البعض أن الحدس البرجسوني مضادٌ للعقل ، فإن من واجبنا أن نقولَ – على العكس من ذلك – إن هذا الحدسَ ليس «أدنى» من العقل ، بل هو «أعلى» منه ، أو هو على الأصح )معرفة فائقة للعقل( تسمو على كل ضرب من ضروب المعرفة الاستدلالية المحضة ودليلنا على ذلك ما قاله برجسون نفسه من أن }المعرفة العلمية الدقيقة بالوقائع لهي الشرط الضروري الذي لا بد أن يسبق كل حدس ميتافيزيقي يكون من شأنه أن ينفذ إلى مبدأ تلك الوقائع}(9))، (السابق ص 37) .
لا يزال التناقضُ قائماً بين العقل والحدس ، بين المعرفة الشعبية والمعرفة الأرستقراطية ، بين المعرفة العلمية والمعرفة الصوفية، فالمعرفة الأخيرة تؤكد نفسها كمنهجية معرفية أعلى، وكسيدةٍ مهيمنة على الخادمة الوضيعة، ولا تتأتى الاستعانة بالمعرفة العلمية إلا لكي تــُحطم سيادتها وتغدو بوابةً لانهمار الخرافة.
فبرجسون يستعينُ بالمعلومات العلمية وليس بالمنهجية العلمية ، ولهذا فهو يقول : يجب الاستعانة المعرفية العلمية الدقيقة بـ(الوقائع) وليس بالمنهجية العلمية، ويجري استخدام تلك الوقائع لفرش الأرضية لقفزة (الحدس الميتافزيقي) .
وهكذا تملأ عباراتُ برجسون والباحث في فلسفته زكريا إبراهيم عبارات التضاد المطلق بين أدوات المعرفة والتي لا تقبل الجمع الجدلي بينها : (والواقع أنه إذا كان من شأن «العقل» أن يثبت ويبرهن ، فإن من شأن الحدس (أو القلب فيما يرى بعض المفسرين) أن يدرك ويعرف) (10)، (ص 36) .
إذن هناك معرفة تثبت وتبرهن وهناك معرفة تدرك وتعرف بدون إثبات أو برهان ! ولماذا لا تستعين بالبرهان إن لم تكن معرفة فاشلة عاجزة أن تستعين بأدوات المعرفة العامة وتريد أن تفرض طريقة خاصة وبالإجبار على الفكر!؟
وتتواصل التضادات المطلقة في وعي برجسون التي ينقلها لنا زكريا إبراهيم ، فتصبح التضاداتُ متفاقمةً متصاعدةً فهي ليست فقط بين أدوات المعرفة المتداخلة بطبيعتها وبرجسون يصرُ على تضادها المطلق ، بل أيضاً بين العلم والفلسفة عامةً .
فالعلمُ لديه يدركُ النسبيَّ في حين يدركُ الحدسُ المطلقَ . فموضوعُ العلم هو المادةُ ومنهجها هو التحليل ، بينما موضوع الفلسفة هو الروح ومنهجها هو الحدس ، (فالخلط بين الفلسفة والعلم هو خلط بين الروح والمادة ، أو بين الحدس والتحليل ، لكن التحليل عملية تنصب على الساكن أو غير المتحرك بينما الحدس من شأنه أن ينفذ إلى صميم الحركة أو التحرك ، فهو أداتنا في إدراك الديمومة) (11)، (ص 39) .
وكما عممَّ برجسون الحدسَ كأداةٍ معرفيةٍ وحيدة مطلقةٍ كذلك قام بجعله الشكلَ الوحيدَ من المنهجية المقبولة في كلِ الفلسفة ، فبدونه لا تصبحُ الفلسفةُ فلسفةً . فإذا قام فلاسفةٌ بالاستعانة بأدوات التحليل للوصول إلى المعرفة الكلية فإنهم يخرجون من الفكر الفلسفي، وبالتالي فإن عضوية نادي الفلسفة ستكون مقصورة على الأشراقيين ودعاة التجلي .
تصبحُ الفلسفةُ هنا على تضادٍ مطلق مع العلم ، كما تصبحُ الروحُ مضادةً كلياً للمادة ، وهكذا تبدأ التضادات الكلية المطلقة في الاصطفاف !
فالتحليلُ ضد الحدس ، والمتحركُ ضد الساكن ، والجزئي ضد الكلي، والثابت ضد الديمومة ، وعبرَ شرخِ المفردات والمصطلحات يقومُ برجسون بتمزيق أعصاب العقل وخلق هوات بين أشكاله وحركته المتضافرة المتصاعدة الجامعة .
هناك أمثلةٌ كبيرةٌ على هذا التمزيق ، حيث إن منهجَ برجسون اللاجدلي يقومُ على تمزيق الأدوات والظاهرات، ولكن العارضَ المحللَ فيلسوفنا العربي زكريا إبراهيم لا يرى ذلك التضاد اللاجدلي، يقول زكريا إبراهيم عارضاً:
(فالوصف والتحليل والتأريخ إنما هي محاولات خارجيةٌ لا تؤدي بنا إلا إلى معرفة نسبية ، وأما إذا أردنا أن نصل إلى معرفة «مطلقة»، فلا بد لنا من أن ننفذ إلى «باطن» ذلك الشخص الذي نريد معرفته «عن طريق الحب مثلاً»، وعندئذٍ قد نستطيع أن ندرك ما يكوِّن صميمَ وجوده ، وعين ماهيته، وما هو في غير حاجة إلى رموز)(12)، (ص 40).
إن المعرفةَ المطلقة هنا في هذه العبارة موجودةٌ ولا تنتظر سوى أن نقفزَ إليها بأداةٍ ليست تحليلية ولكن عبر عاطفة جياشة، وهو أمر غير ممكن لكن حقيقة الشخص أو القصيدة أو الخالق أو الطبيعة الخ . . غير ممكن العثور عليها دفعةً واحدة إلا عبر شطحات الصوفيين ، وهو زعمٌ لم يتحقق عبرهم، ولهذا فإن أدوات الوصف والتحليل والتأريخ والكشف تراكم معرفتنا بهذا الشخص أو تلك الزهرة، وتقترب من محتواهما الكلي الذي يبقى خصباً بالمعرفة وبالمناطقِ المجهولةِ والتي تحتاجُ إلى معرفةٍ وتحليل الخ .. بحيث أن المعرفة المطلقة النهائية التامة غير ممكنة ، رغم أن الحقيقة الموضوعية موجودة ! فالوعي يقاربُ الحقيقةَ ولا يطابقها .
إن تقزيمَ أدوات البحث الموضوعية في مجتمعات الشرق الجائعة إلى العلوم والفائضة بالشطحات والهذيان الغيبي ، هو أمر له دلالته على مستوى الخطاب الجماعي والتاريخي بين زكريا إبراهيم وبرجسون ، فبرجسون هنا يقدم لنا الفكرَ الذي نحاول أن نتجاوزه ، ويقوم زكريا إبراهيم بتكريسه باعتباره فكراً جديداً غربياً هاماً !
هكذا فإن كلَ الأشياء في عالم برجسون ستكون متضادةً غير قابلةٍ للتوحد والنمو المشترك والصراع الداخلي ، فالمادةُ ضد الحياة ، فخصائص المادة : الجمود ، والهندسة ، والضرورة ، بينما خصائص الحياة : التلقائية ، والحرية ، واستحالة التنبؤ .
يواصل برجسون تركيب المتضادات غير القابلة للاندماج الصراعي ، فهناك التضاد بين الدماغ وبين الفكر ، والتناقض اللاتركيبي بين اللغة المصِّورة واللغة المجردة ، والتناقض بين المكان والزمان الخ ..
فالمادةُ كالجبال والأنهار رغم أنها مادةٌ صماء أو سائلةٌ لا يمكن أن نفصلها عن الحياة ، رغم أنهما مستويان متمايزان ، من الوجود . فبدون هذه المادة لم تتشكل الحياة .
والدماغُ هو مركزُ التفكير وغرفةُ القيادة للجسم والوعي ولكن العمليات النفسية – الفكرية لا تغدو عمليات بيولوجية محضةً بل تصيرُ بناءات نفسية وفكرية مستقلة نسبياً عن الوجود الجسمي رغم إن هذا هو أساسها المادي. ويقوم برجسون بخلق فجوةٍ مصطنعةٍ بين الوعي و(النفس) التي يعيد تشكيلها ميتافيزيقياً، بحيث تخرجُ عن مناطق الدماغ والوعي والشعور وتغدو منطقةً غيبية روحية محضة ، كجزءٍ من رؤيته بإعادة إنتاج الصوفية بشكل حديث وأوربي ، ومقولة النفس الخارقة قوةً إيديولوجية كبيرة في الفلسفات المثالية الذاتية المضادة للعقل .
كذلك هو يقيمُ تضاداً لا يقبل الجمعَ المركب بين الذات الإنسانية والبنية الاجتماعية:
(إذا أمعنا النظر في حياتنا النفسية ، فإننا لا بد من أن نجد أنفسنا بازاء تغير كيفي محض وديمومة مستمرة لا تعرف التجانس . . فالذات ليست حقيقة مكانية تقبل القياس، بل ديمومة محضة لا تمت بصلة إلى المكان والزمان اللذين تتحدث عنهما العلوم الطبيعية)(13)، (ص 60) .
تلعب مفرداتُ الذاتِ، والزمانِ، والمكان، والسيولةِ ، دوراً مركزياً مهيمناً، حيث تغدو كلها تابعةً للذات المطلقة ، التي هي بلا زمان ولا مكان موضوعيين، لأن الذاتَ الفرديةَ المسيطرة على كافةِ الأبنية الموضوعية ، تلغي وجودَها داخل البنية الاجتماعية .
فهي ذاتٌ مجردةٌ ، سائلةٌ ، وتبرر سيولتها بالزمان المتدفق المتحرك ، وكأن الزمانَ المتدفقَ المتحركَ بلا فواصل نوعية ، وبلا تراكمات موضوعية ، فهو مجردُ سيولةٍ .
إن الزمانَ والمكان باعتبارهما شكلين أو وجهين للمادة ، يُـلغيان . والمادة الأكثر قصداً هنا هي المادة الاجتماعية ، أي البنية الاجتماعية . فالزمان يجري خارج البُنى الاجتماعية ، وكأنه متماثل فيها كلها، وكأن الزمان والمكان في العصر الإقطاعي مثلاً هما كذلك في الزمان والمكان الرأسماليين . إن الزمانَ الإقطاعي الراكد، البطيءَ، المتماثل، ليس هو الزمان في العصر الحديث ، أي أن له هنا كثافته وسرعته ، فليست السنة هي نفسها ولا اليوم ، وكذلك فإن المكانَ لم يعد هو المكان ، فالقرى النائية وأشكال السواحل والكثير من المواقع والمدن الصغيرة والطرق الضيقة والعربات لم تعد هي نفسها ، وذلك ليس بشكلٍ مجردٍ ولكن من خلال البنية الاجتماعية التي تحولت وحولت الأشكالَ المرتبطة بها ، أي بسبب تحول المادة .
ومن هنا لا نستطيع أن نفهمَ الذاتَ بشكلِ سيلٍ مجرد ، أو حتى من خلال تدفق ملموس جزئي واسع ، بل من خلال تكوناتها في البنية الاجتماعية ، فزمان العامل المربوط بآلته ، هو غير زمان المثقف الحر المنعزل في مكانه ، غير زمان امرأة البيت ، غير زمان امرأة العمل الخ .. إن للزمان تمظهراً موضوعياً يعود للبنية وتضاريسها الاجتماعية داخل الطبقات والفئات والأفراد والمراحل والدول والمناطق الخ .. فزمان ذات المثقف الحر في نيجيريا يختلف عن زمن نظيره الفرنسي، لأن هناك زمان موضوعي بفرنسا وأوربا، هو غير الزمان الموضوعي في أفريقيا الخ . . ففرنسا تعيش زمان الرأسمالية المتقدمة في حين تعيش نيجريا في نهاية العصر الوسيط وتبدأ الانتقال للعصر الحديث فهناك مسافة زمنية بعدة قرون .
إن الزمانَ كتدفقِ الثواني والدقائق، أي كزمانٍ مجرد مطلق، هو واحدٌ، رغم أن الجغرافيا ذاتها ترفضه، فهو حتى في ساعاته مختلف ، ولكن هناك أساس موضوعي عام للنهار والليل والسنة للبشرية المعاصرة، وهو زمانٌ عالميٌّ تاريخي متكونٌ حديثاً الخ ، ولكن بشكلٍ مجرد عام نظراً لعدم توحد البُنى الاجتماعية بشرياً، ولهذا يغدو الزمان تابعاً للتضاريس الاجتماعية المتنوعة في كل مكان.
إن برجسون وهو يفصل الزمان عن البنى الاجتماعية يربطه بالمطلق ، يجعله كتدفق سيالٍ غير موضوعي ، مثلما يحاولُ هدمَ كافة الركائز الموضوعية للوجود.
لنأخذ رؤيته للحرية كمثال آخر ، يقول شارحه العربي :
(وعلى كلِ حال فإنه مهما كان تصورنا للعلية، فإن من المؤكد أن هذا التصور لا يمكن أن يهدم الحرية . ذلك لأننا إذا نسبنا للظواهر الطبيعية علية صارمة واطراداً ضرورياً ، فإن معنى هذا أننا ننكر عليها كل ديمومة ، وهذه الديمومة نفسها هي التي ستجعل من الذات (التي تدوم) – في نظرنا – قوةً حرة . وأما إذا نسبنا إلى الظواهر الطبيعية والظواهر النفسية (على حدٍ سواء) ديمومة حقيقية يمتنع معها وجود علاقة تحديد ضروري بين العلة والمعلول ، فقد نسبنا إلى كل من الطبيعة والذات تلقائية حية فيها يحل {الإمكان} محل الضرورة . وإذن فإن كل تصور واضح للعلية ، لا بد أن يؤدي بنا إلى فكرة الحرية الإنسانية ، لأن هذه الفكرة هي نتيجة ضرورية تترتب على الفهم الصحيح لفكرة {العلية}(14)).
وهذا مثال آخر للتناقض غير الجدلي وهو هنا بين موضوعية الظاهرات وديمومتها، فبرجسون يتصور بأن ثمة تناقضاً بين موضوعية الظاهرات واستمرارها، معتقداً بأن هذا يمثل ثباتاً في الوجود وانتهاءً له ، في حين إن الثبات في هذه الظاهرات هو ثبات نسبي ، كتكرار الفصول ، فالفصول تتكرر على مدى الحقب، ولكن ذلك لا يعني بأن الطبيعة جامدة وأنها لم تتغير وأن الفصول في العصور الجليدية هي نفسها في العصور غير الجليدية، ولكن بدون وجود تكرارية لهذه الفصول ومعرفتي بها تستحيل الزراعة والإبحار والوجود البشري العملي المتنوع ويتحول الزمان إلى فوضى .
وبرجسون يجعلُ (الذاتَ) في مواجهةِ الطبيعة وليس الوجود الجماعي التاريخي للبشر، فهذه الذاتُ يجب أن تتحرر من القوانين الموضوعية للوجود والمجتمع ، التي هي الضرورات العامة التي عبرها تتشكل الحرية الحقيقية ، وتصير الحرية البرجسونية فعلاً يشق طريقه بعيداً عن السير الجماعي التحرري للكتل البشرية المتعددة .
إن كل الركائز الُمطاح بها في الفلسفة البرجسونية تقام مكانها ركائز ذاتية ، فثمة (قوة حيوية) هي التي تخترق المادة وتحفر فيها مجرى ، وهذه القوة القادمة من السماء تشكل هذه الديمومة التي تجعل الزمان والمكان في سيل متدفق واحد ، فتخلق داخل المادة حياة ، فالحياة النباتية والحيوانية ليست ذات قوانين موضوعية لهذه المادة بل هي نتاج الفيض السماوي ذاك ، والذي اتخذ اسم القوة الحيوية ، ومن هنا فهذه الحياة السحرية الغامرة تندفع لتكّون الأحياء والمجتمعات والبشر حسب تدفقها الذي يحدده برجسون .
ومن هنا تتواجدُ عقيدةٌ منغلقة وعقيدة منفتحة . فالمجتمع البدائي يشكله فردٌ وكأنه المجتمع الفرنسي المعاصر ، وهذا الفرد تتحكم به غريزة الحياة ، وهي الشكل البشري المتجسد للقوة الحيوية السماوية السحرية عند برجسون، ( وهكذا يندفعُ الفردُ إلى قهر الأنا الفردية التي قد تحفزه إلى إيثار مصلحته الذاتية على مصلحة الغير، خاضعاً في ذلك لغريزة الحياة التي تكمن وراء كل نظام اجتماعي)(15)، ص 190) .
إن قوانينَ المجتمع البدائي وقوانينَ الحياة القبلية المدروسة من قبل العلماء كلها يطيحُ بها برجسون ليؤكد إن غريزة الحياة هي التي تشكل الظاهرات الاجتماعية ، وكأن هذه الغريزة جوهر غيبي فوق الظروف . وتتويج مثل هذا الوعي يقود إلى: (وليست الحرب ظاهرة ضرورية لصيانة المِلكية الجمعية ، بل إن كل ما يجيءُ معها من قتل وسلب ونهب وكذب وخداع وتضليل هي كلها ظواهر مشروعة تقرها الجماعة وتثيب عليها)!(16).
وكل التضاريس التي يبتكرها للمجتمعات المغلقة المجتمعات المفتوحة ، وللعقائد المنغلقة والعقائد المفتوحة ، كلها تقوم على هذا الإسقاط الإيديولوجي المسطح لغريزة الحياة وفيضها الإلهي البرجسوني ، لتتّوج في المسيحية المحافظة ، وهي المسيحية التي أُنتزعت تضاريسها النضالية ، فهي أيضاً إيديولوجية مُسقطة على المسيحية الحقيقية ، مسيحية النضال في زمن العبودية، لتتحول إلى مسيحية الحب الخادع المخفي للصراع الاجتماعي على المستوى القومي الفرنسي وعلى المستوى العالمي.
ـــــــــ
(1) : ( برجسون ، زكريا إبراهيم ، دار المعارف ، سلسلة نوابغ الفكر الغربي 3 ، مصر ) .
(2) : ( المصدر السابق ، ص 11 ) .
(3) : ( يتيح ثبت المصادر الذي ذيله الدكتور زكريا إبراهيم بكتابه معرفة أن معظم كتب برجسون الرئيسية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية كذلك كتبت أبحاثٌ عديدة عنه ) .
(4) : ( المصدر السابق ، ص 11 ) .
(5) : ( المصدر السابق ، ص 13 ) .
(6) : ( المصدر السابق ، ص 28 – 29 ) .
(7) : ( المصدر السابق ، 35 ) .
(8) : ( المصدر السابق ، 41 ) .
(9) : ( المصدر السابق ، 37 ) .
(10) : ( المصدر السابق ، 36 ) .
(11) : ( المصدر السابق ، 39 ) .
( 12) : ( المصدر السابق ، 40 ) .
(13) : ( المصدر السابق ، 60 ) .
(14) : ( المصدر السابق ، 91 – 92 ) .
(15) : ( المصدر السابق ، 190 ) .
(16) : ( المصدر السابق ، 191 ) .


