الرأسمالية الصحراوية

في عهد الإسلام الأول جلبت سياسة الفتوحات الكثير من الأموال للفئات الغنية، وبذلك نقضت سياسة الإسلام وشكلت سياسة الاستغلال الفاحشة تجاه العاملين والنساء والأرقاء والشعوب الأخرى.
كما أنها انتقلت من الإقاليم العربية الجزيرية الفقيرة إلى العواصم في البلدان المفتوحة الأكثرغنى، ثم قامت برشوة منطقة الحجاز بالأكثار من بعث الأموال لأسرها الغنية من أجل أفسادها وعدم نضالها مع بقية الإقاليم العربية الإسلامية ضد سياسة الانفراد بالموارد، وبحرمان مناطق الجزيرة الأخرى كاليمن وعُمان والبحرين وهذا ما جعل هذه المناطق بؤراً للإمامية والخوارجية وغيرها، فسياسة البذخ من جانب والحرمان من جانب آخر تولد الفتن.
تلك الموارد المالية الضخمة التي انهالت على أجهزة الحكم الأموية والعباسية وما تلاها، شبيهة بما حدث لدول الجزيرة العربية من تدفق موارد نفطية، بلا جهد كبير، وقد ارتكزت على سياسة قديمة وتوزيع عتيق للثروة بين الأسر والمناطق والطوائف المحظوظة.
إن العصرين المتباعدين زمناً فيهما العديد من السمات المشتركة.
وإذا كان العصر النفطي الحديث قد جعل العديد من الحكومات في المنطقة تقوم بالكثير من تشكيل البنى الأساسية التي هي ضرورة مهمة لكل العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة، غير أنها توقفت عند حيز محدد محدود من التطور، واستغلت الرساميل الضخمة لحساب الحكومات والمتنفذين فيها ولصالح الأسر الغنية الكبرى والشركات المتداخلة مع الحكومات.
لقد وُجهت أغلب هذه الرساميل نحو المحافظ النقدية والشركات والبنوك الغربية ومن يحيط بها من دول تدور في فلكها، فكان ذلك إسهاماً في تطور البـُنى الغربية الرأسمالية المتطورة بحد ذاتها، وبعد أن فاضت المداخيل على هذه الرساميل العربية الجزيرية توجهت لخدمة الاقتصاد العربي!!
وبنفس عقلية تاجر الرقيق الأموي فإن الرساميل العربية المعاصرة توجهت نحو الرقيق الحديث، أي نحو المحطات الفضائية التافهة التي تنشر الخلاعة والتجارة الرخيصة، ونحو مجلات الموضة، ونحو تكريس الجوائز الثقافية لعتاة الرجعية الدينية، وإلى تضخيم جيوب هؤلاء ليشتروا الفلل الكبيرة والمرسيدسات، ولكي يؤجروا فتوايهم لأصحاب الطول والحول، ولكي ينشؤوا الطائفية ويستولوا على المجلات والجرائد بالرشوة..
ألم يكن الخليفة الأموي يقذف بكيس النقود للشاعر والراقصة ورجل الدين لكي يقوم هؤلاء بخدماتهم الجيدة للدولة؟
ويستطيع رجل الدين أن يشذب لحيته ويقطع من لسانه ويطور كاسيته حسب أوامر وزارة الأوقاف، تماماً كما يفعل نظيره الشاعر في العصر التليد، الذي يقول لخليفته بماذا تأمرني أن أنظم بمدح أم بهجاء، فأنا مجرد متحدث بلسانك وتابع لجنانك !..
وكما فعلت القوى المحافظة من مجابهة الفلاسفة ومخاصمة المتكلمين وإثارة قضايا الطائفية البغيضة في العصور الماضية تفعل نظيراتها من الجماعات الطائفية المعاصرة بشكل أقل من حيث المستوى الثقافي عبر البطش بالسكاكين وبنصوص التكفير!
لا تشكو البلدان العربية الشمالية من نقص في أعداد الراقصات والمحجبات، أو في الفنادق، بل تشكو من ضعف الصناعة وتخلف التطور التقني، وضعف الجامعات الخ..
لكن رؤوس الأموال الجزيرية وقد سيطرت عليها هواجسُ الخوف من الثورة والحداثة والتأميم ولفت رؤوسها ألف عمامة تمنع البصر والبصيرة، تريد أرباحاً سريعة وتتوجه للخدمات المبتذلة وصناعة الفساد غير مدركة أن صناعات التفاهة التي تقوم بها هي التي سوف تعجل برحيلها..
وبنفس قوانين النظام العتيق، يلعب البذخ وتضييع أموال الدول على السباقات وبناء القصور وإعطاء الحلاقين البيوت والقرداتية أموال اليتامى، تقوم الآليات المالية المعاصرة بشطف الأموال العامة للفئات الانتهازية وتسريبها لمن يخون الأمانة ويتلاعب بالأراضي والعلوم والأجيال الخ..
بماذا يختلف قادة دول المنطقة عن معاوية وهارون الرشيد والصفويين والبرامكة والقرامطة والمماليك الذين ضيعوا ثروات هائلة على الجواري والخدم والقصور وإرسال الأموال للخارج ؟
إن وضع رؤوس الأموال داخل هذه البلدان وفي التنمية والصناعة والتطور الاجتماعي والثقافي هو الذي يخلق الاستقرار والأنظمة القوية.
فما أغنانا عن تجربة الكوارث مراراً!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 12, 2023 01:29
No comments have been added yet.