أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ !
㋡
كمال الذيب*
يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم الواقع العربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي اصدر منها: اللآلئ، الهيرات، أغنية الماء والنار، وامرأة. والينابيع والاقلف، تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية..
قراءة في الينابيع:
من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «الينابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين.
والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة.
أولاً : العنوان: أية ينابيع؟
إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.
الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية.
ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين
في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.
صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية».
ثالثا ً: فاتحة الرواية
إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟
يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.
«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».
«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».
«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».
«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».
«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».
«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».
«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».
«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».
«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».
«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».
«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».
«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».
ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.
ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.
نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص 10.
ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص 11.
وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.
ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.
ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.
أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).
فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.
وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:
علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).
علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).
علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).
علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).
علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.
إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.
أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:
لماذا يتخفى أخوه…؟
لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟
لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟
لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟
أتريدُ أن تفضحني؟
أتريد أن يقتلني أبي؟
أتغني يا محمد؟
وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية.
رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان
إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:
هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.
هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.
إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:
كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.
كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.
في الخلاصة:
إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،
فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب من البحرين


