تداخل الهتلرية والستالينية

تعطي الدراسات والحوارات الجديدة التي تبثها المحطات الفضائية مادة جديدة عن أحداث التاريخ المعاصر الكبرى التي لاتزال متوهجة على خشبة مسرح العالم المغمور بالدماء والإنجازات.
ومنها هذا التعاون الوثيق الذي تشكل بين هتلر وستالين وتبادل الخبرات الأمنية بينهما، وتدرب ضباط الأمن والجيش السوفييت لدى أجهزة الجستابو ومن ثم اقتسام غنائم البلدان وتشريد شعوبها.
رغم تباين طبيعة النظامين المختلفين، فإن الدكتاتورية تفرز ظواهر مشتركة، فحين تهيمن زمرة حزبية على نظام ما، وتلعب ملكية الدولة العامة دوراً محورياً في الاقتصاد، وتغيب مشاركة الشعب في السلطة، فإن الأجهزة الأمنية والعسكرية تنفرد بتقرير شئون الحياة اليومية، وتصير أخطبوطاً يسرق أشكال الحياة من الناس.
ولهذا فإن ضخامة الدعاية التي وجهت لتلميع صورتي الطاغيتين، والتي لا يزال بعض بقعها مستمراً إلى يومنا هذا، لم تستطع إخفاء الدور الشرير والسيئ الذي لعبه كل منهما.
إن الطغيان هو الطغيان والبشر الذي يموتون من أجل رأسمالية الدولة في الشرق، لا يختلف دمهم عن البشر الذين يموتون من أجل الاحتكارات في الغرب.
ولم يكن الزعيمان الوحشيان إلا نتاج ثقافة شمولية ومحافظة استمرت على مدى قرون تتصاعد في ألمانيا وروسيا. كانت ألمانيا تتوحد بالحديد والنار عن طريق بسمارك الذي قاد مقاطعة بروسيا الألمانية الإقطاعية ذات الانضباط العسكري والتي يقودها النبلاء المتعالون، وحتى المسيحية خضعت للكراهية في الفكر القومي الألماني الذي لم يؤيد المحبة والتسامح، بل شجع على الفردية المتغطرسة والتعالي القومي وإرادة القوة كما تجلت لدى الفيلسوف الألماني المحبوب من الفاشيين وهو (نيتشه)، الذي قادته هذه الأفكار وكراهية الجمهور العامل إلى الجنون.
وقد سبق هتلر في الجنون السياسي إمبراطور ألمانيا في بداية القرن العشرين الذي طور روح العسكرية المتفوقة والقومية المتعالية، وادى غياب المستعمرات لدى المانيا إلى دخولها الحرب للحصول عليها، فكانت الكارثة وكان هتلر تتويجاً لهذا الانفتاح الدموي الألماني.
أما ستالين فقد كان نتاجاً لنمو الدكتاتورية في الحزب البلشفي، التي وضع أساسها لينين، حين عمل في أيام العمل السري على تشكيل منظمة منضبطة وصارمة، وموجهة للقضاء على الدكتاتورية القيصرية المتخلفة، والتعجيل بتطور روسيا الرأسمالي، ولكن تحولت الدكتاتورية الحزبية إلى وراثة للدكتاتورية القيصرية وهياكلها الأمنية والعسكرية تحت مسميات جديدة، بدلاً من القبول بتطور روسيا الرأسمالي الديمقراطي والتحديثي.
وهكذا فإن المؤسسات السياسية البلشفية الدكتاتورية الواسعة أنتجت قيادات مصغرة تتمتع بكل السلطات، حتى صار الصراع في الكبت السياسى فى العشرينيات من القرن العشرين بين الوجوه البارزة فيه صراعاً شخصياً بين الوجوه الدكتاتورية المحتملة، لكن كان ستالين الطالع من أقبية المخابرات القيصرية ومن حثالة البروليتاريا قد استطاع أن يجمع العديد من الأجهزة الأمنية تحت قيادته والتي وظفها لإزاحة كافة المناوئين لسلطته، وقد بدا ذلك بشكل الضغوط والمناورات السياسية والأيديولوجية وانتهى بالمذابح الحزبية والشعبية.
أما ما يقال عن قيادته الفذة للحرب العالمية الثانية فقد كانت أخطاؤه فيها لا تغتقر، وكان تعاونه البغيض مع هتلر والتداخل الذي جرى بين أجهزة الدولتين والجيشين لسحق الشعوب، سبباً في تحطيم اليقظة السياسية والفكرية عند السوفييت، ورغم المعلومات الدقيقة التى جاءته من مخبر موال للروس فى اليابان والتي حددت بدقة موعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي إلا أن ستالين ترك الجبهة خالية من قوات الدفاع. وبعد ذلك حين تصاعدت المقاومة لدى السوفييت وبرزت كفاءات الضباط الكبار في إدارة الحرب، فإن ستالين أزاح العديد منهم، واستمرت الدكتاتورية العسكرية في الهيمنة على الجيش وتكليف الروس الكثير من الضحايا . وبعد الحرب واصل ستالين سلخ جلد الشعب وذهب دون عقاب.
لقد قاومت الشعوب السوفيتية ومناضليها ببسالة الطاعون الهتلري وبدون هذه المقاومة كان تاريخ البشر المعاصر سيكون مختلفاً.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2023 23:11
No comments have been added yet.