العلمانية الانتهازية
تنبع الديمقراطية من احترام تقاليد الشعوب، وتشكيل أبنية تحديثة من داخل هذه التقاليد، تعكس مصالح الأغلبية الشعبية فيها، وهذه عملية مركبة، لأنها فيها احترام وصراع مع هذه التقاليد كذلك.
ومنها تصعب على القوى الانتهازية أن تشكل هذا الموقف المركب، فهي تأخذ جزءً منه، وتترك أجزاءَ أخرى.
فالعلمانية حين تغدو انتهازية تصبح تابعة للمذهبيين السياسيين في جانب سياسي جزئي، هو التماشي مع هدف المذهبيين في تكوين ديمقراطية سياسية، تقتصر على جوانب صغيرة من الحياة، هي تلك التي تتيح صعودهم السياسي وتحولهم إلى قوة دكتاتورية في المجتمع، وحينئذٍ يكون مثل التأييد والتصعيد خطراً على الديمقراطية!
لو كان هذا الصعود يترافق وعمليات ديمقراطية فقهية وتحرر للنساء ونمو ثقافة وطنية، وصعود للفلسفة، وللنقابات الحرة، لما كان هذا الصعود يمثل خطراً.
تغدو العلمانية هنا انتهازية، وليست موقفاً شاملاً، وتسلقاً على موجةٍ شعبية ملتبسة، تسيطرُ عليها قوى محافظة غير مدركة لتعقيدات الموقف وغير قادرة على مجاراة عملية تحرر المسلمين وتقدمهم، ومن هنا حين يحاول بعضُ القادة ركوبَ الموجة فإن مسائل ذاتية تتغلب عليهم هنا، ويغدو هدفهم الشخصي طاغياً على مستقبل المجتمع.
مثلما أن العلمانية التي تجعلُ أوراقَ التحديثِ والتحرر كلها بيد الغرب، تمثل موقفاً معاكساً، ومماثلاً في الجوهر.
إن المميزات المشتركة بين هذين النمطين من العلمانية هو غياب ذلك الموقف المركب، المرتكز على مصالح الأغلبية، وعلى جذور الكفاح لدى المسلمين والمسيحيين العرب وكل التراث السابق في المنطقة، حيث لا يمكن لهذه العلمانية إلا أن تنهض فوق تلك المصالح وذلك التراث، ولكن بشكل نقدي يعري طبقات التخلف واللامساواة والاضطهاد، ويجمع تلك الأغلبية في موقف نضالي مشترك واسع وعميق.
ومن هنا يغدو عزل الجوانب المحافظة والمتخلفة في المذاهب، وتطوير الجوانب العقلاينة والديمقراطية والتوحيدية في التراث، ورفدها بإنتاج الإنسانية المعاصر الديمقراطي والإنساني، عملية سياسية بالغة الدقة، وموضوعية، لا تهدف إلى تسلط طائفة أو زعيم، بل تستهدف تجميع الناس التعاوني والخلاق لتشكيل وطن حر متقدم، يكرس كذلك احترام تقاليدهم ومذاهبهم وتطورها الحديث، بحيث أن لا تمثل تسلطاً على المجتمع أيضاً وعلى تنميته وتقدمه ووحدته.
ولهذا تحتاج العملية إلى سياسيين فقهاء علماء، أي سياسيين علمانيين إسلاميين شعبيين ديمقراطيين، في هذه العملية المركبة الدقيقة.
ومن هنا يغدو نفخُ جانبٍ واحد كالتعصب لمذهب، أو لجهة عالمية، تديناً ناقصاً، أو علمانية انتهازية، تكرس التخلف والتبعية لا التحرر والتقدم.


