الأدب الطائفي

مع انهيار الوعي الوطني بدأت أشكال الوعي الطائفي تتغلغل في شتى مظاهر الحياة. والأدب أحد التجليات الخطيرة لهذا الانهيار. علينا أن نرى أولاً كيفية انهيار الوعي الوطني داخل الأدب وكيف صار ذلك ممكناً.
فالأدب الذي كان أحد أشكال تجليات وعي المعارضة السياسية ارتبط على مدى قرن بعملية توحيد الشعب البحريني، سواء كان ذلك في كتابات النهضة الأولى، التي برزت زمن الغوص، أو مع ظهور الاقتصاد الجديد بدءً من الثلاثينيات، وسواء كان ذلك في الموضوعات التي توجهت لموضوعات عامة نهضوية كأهمية التعليم أو تشكيل نمط جديد للأسرة. أو من جانب المضامين التي كيفت تلك الموضوعات مع كفاح الجماعات الفكرية والسياسية التي تصدت لعملية التغيير.
إن الفقير أو العائلة أو الناس أو الرموز لم يكن لها ترب محددة، بل هي تتشكل في فضاء مجرد، وإذا كان لها بعض الملموسية هنا أو هناك، فهي ملموسية محدودة، كما يفعل إبراهيم العريض مثلاً حين يتحدث عن القرية.
أو حين كان الكتاب السياسيون يوظفون بعض مفردات القصة أو الشعر للتعليم والتوجيه، فلم يكونوا يوجهون كتاباتهم تلك لطائفة، بل كان هاجس (الشعب) مسيطراً عليهم، ومن هنا كانت المناسبات الدينية لا توظف للخصوصيات الأثنية، كما يحدث الآن بغرض التفتيت والتكسب.
ولهذا كانت المناسبات الدينية قليلة، ومركزة على التوحيدي منها، ولا تجعل في بؤر الحياة اليومية، في حين كان الشعر رأس الحربة في الأنواع الأدبية، بسبب مستواه العاطفي المباشر والذي يشكل تماساً مع الجمهور، وكذلك لجذوره العريقة.
ولهذا فإن التحديثية المبالغ بها في الشعر، أو في القصة، وصعود السياسيين المذهبيين على منبر الكلمة، واستيراد الأدب المذهبي العتيق وترويجه، والتسطيح الفكري والأدبي والانتهازية الفردانية الواسعة، وانتشار سطحية الأدب، واتساع الابتذال فيه، وعدم تطور الأجيال الأدبية الجديدة، فتنسخ ما هو سطحي ومبتذل، هي كلها مظاهر مشتركة متداخلة.
إن تدهور الوعي الوطني يتجلى في المظاهر الفكرية السياسية التي كانت بوابة التخريب في الأدب، وعبرها ولعدم قيادتها العمليات الفكرية الوطنية النضالية، وبرجماتيتها التي وصلت حد الانتهازية واستغلال ما هو رائج، لم يتبلور وعي وطني صلب للأدباء والفنانين عموماً.
ومن هنا لم تناضل ضد الشكلانية ولم تعمق الواقعية، فداخل الحركة الوطنية نفسها كان التفسخ الفكري يشتغل بقوة، حتى تلاشت الأدوات النقدية والعقلية لتحليل السياسة والثقافة، اللتان هما ضفتا الوعي المنتشر.
إن طغيان موجات الطائفية على الحياة بسبب الترويج الاقتصادي والسياسي الواسعين لها، وانتشارها، قد فل من عضد الحركة الوطنية لمقاومة هذا السرطان، وعمل البرجماتيون على استغلاله في مشروعاتهم السياسية، دون أن يشغلوا أدوات العقل والتحليل الوطنية، ويثابروا على تكريسها في مجال الأدب والفن. وتغاضوا عن نموها واستفحالها، ودخولها مجالات الأدب والفن بعد أن لم يتصدوا لها في مجال السياسة.
فمن جهة هم جهلة بتاريخ الإسلام، ومن جهة أخرى هم جهلة بتاريخ الفنون الثقافة عامةً.
وحين تحطمت طليعة الوعي الوطني، فإن الأدباء والفنانين يأتون بشكل تال في المسئولية.
ومسئوليتهم تنبع من نفس المناخ العام للقادة السياسيين وهو التقوقع في الأشكال الإبداعية الصغيرة المعزولة عن سيرورة المجتمعات العربية، وعن حركات النضال الحديثة.
وحين توارى قسمٌ كبير ٌ من جيل التحديث الإبداعي عن مسئولية الكفاح الوطنية، منغمرين في الهيئات البيروقراطية والاقتصادية والسياسية ومنافعها، تآكلت الأدوات الإبداعية الوطنية عن الانتشار والتأثير في الأجيال الجديدة خاصةً، التي وجدت نفسها في تبعية للقشور السائدة الطافحة على جسد الواقع المريض.
والتأثر بالجهل والكسل العامين، أدت إلى تضاؤل إرادة الكفاح أكثر.
جانبان أساسيان ميزا الوعي عامة هما الذاتية والانتهازية، وهذان جانبان قد دغما الفئات الوسطى أكثر من غيرها بسبب إنها منتجة الوعي والراغبة في تغيير مستوى المعيشة والباحثة عن الثروة كذلك.
إن التعليم الخاص وتدهور التعليم العام و انتشار الأدب العامي الركيك والسطحي وسيادة الغموض لدى التجريبيين وسيطرة المسرح التجاري الغبي هي وغيرها من المظاهر تعبر عن السمتين السابقتين، في توليفة مركبة.
لكن ظاهرات الأدب معقدة، فلا تظهر السمتان تلك بذات الوضوح، فتوجه القصيدة إلى الذاتية وشحوب العالم الخارجي هو شكل من الابتعاد عن نقد الظواهر الخطرة المسستفحلة، فيلجأ الشاعر للتعقيد والرموز غير المبنية على توليفة نقدية اجتماعية بحرينية، فتخبو صور المجتمع البحريني وصرعاته لأن الشاعر لا يريد أن يتخذ موقفاً تجاه الصراعات المتفاقمة حتى لو احترق جيرانه، مستمراً في نسج صور متقطعة أو ذاتية، أو صور من الهوس والفتنة الخاصة..
أو حين تدور القصص القصيرة حول الشخصية الغارقة في فرديتها، فالقاص يصور بعض صور الأحياء والشخوص عبر مشاكل فردية أو جزئية، وهذا لا يدل فقط على غياب التراكم الفكري الأدبي الوطني، بل كذلك على الغرق في الوعي الطائفي المنتشر، فهو غير قادر على تصوير المجتمع بصرعاته الحقيقية، فيتسيس وعيه الفني المسطح بذلك الوعي، لأنه غير قادر على التغلغل في المشكلات العميقة لأبطاله.
فكما تقل البطولية والملحمية والدرامية في القصيدة تقل العمليات الروائية في النوع القصصي. وتقل الدراسة التحليلية العميقة في النقد، ويغدو التعبير الصحفي المسطح، الانفعالي، اليومي، هو شكل الوعي الكتابي الغالب، فالوعي للفئات الوسطى المنتجة للفكر، تسطح وغدا مثل حركة الزئبق، تشده الأحداث، وهو غير قادر على قراءتها وتحليلها، ولهذا فإن المجموعات الحديثة، التي هي منتجة هذا الوعي بنسبة كبيرة، لا تتلاقح على مستوى إنتاج الفكر، ولا على التعاون السياسي العميق.
من هنا تصعب إن لم تستحيل الدراسة النقدية العميقة، وتغدو الكتابة (أكل عيش)، فينزلق مثل هذا الوعي السطحي الرجراج نحو سيدة الموقف السياسي؛ (الطائفية)، فيقوم المرشح وعضو البرلمان في خطبه بمغازلة طائفته، وتقوم الجامعة بالاهتمام بالأدباء المحافظين من الطائفة المسيطرة فيها، وتقوم الجمعية الفلانية بالاحتفاء بالأديب الراحل من طائفتها، وهو الأديب ذو الإنتاج المتدني أو الذي لا قيمة له، أو يروح كتبةُ الطائفة بالتركيز على فترات وأهمال فترات من التطور الوطني العام.
وسيطرة مثل هذا الوعي السياسي الطائفي على هذه النخب التي تمسك زمام جوانب فاعلة في الحياة الاجتماعية ، يقود إلى توسيع شبكته في أنحاء الحياة، وخلق الشبيبة السياسية المروجة له في المدارس والجامعات، ومن هنا نرى خبو ظاهرات الثقافة المبدعة في هذه الأجيال التي تم تسميم عقولها بالثقافة الإعلامية السطحية وبالتعصب المذهبي المنغلق على أشكال ورموز لا يتعداها، وتبعد عن قراءة الأدب الحديث، وعقله يصير مثل أشرطة المسجل، وبتكرارية الأدعية والمناسبات الدينية التي تردح بمثل هذه المنولوجات.
إن تفتت الإنتاج الفكري الوطني، يعقبه تفتت على مستوى الأنواع الفكرية والأدبية والفنية، فيحدث التدهور من العام إلى الخاص، ويصير الشعب مجموعات مفتتة، يزيد من تفتتها ظواهر العولمة؛ عمالة أجنبية، وبث فضائي يحول البيوت إلى قواقع، فيتحول العقل الوطني إلى عقول طائفية كل منها له بثه الخاص، وأدبياته ومناسباته، وكل هذا المناخ لا يخلق أدباً وطنياً.
ويغدو عمق هذه التجزيئية الفكرية أحياناً كارثة، فنظرة الطائفة وتاريخها وإرثها ينعكس في مثل هذا النتاج الذي يصدره مثقفون، وبدلاً من التوحيدية الإسلامية، يجري تكريس نقيضها، مع كم من أساطير الطائفة وتواريخها الخاصة، فتطبع كتب قديمة هائلة الصفحات وتنشر بشكل واسع.
ولا يظهر هنا وعي تحديثي يقوم بقراءة مثل هذا الإرث ووضعه في إطاره التاريخي باعتباره من أدب زمن الطائفية وتفتت المسلمين.
فهؤلاء المثقفون لا يسيطر عليهم هاجس الفكر الوطني، ومن هنا يغزلون شرانق ذاتية غير قادرة على تحليل الواقع الراهن بصراعاته الاجتماعية، غارقين في الصراع الطائفي والرؤى الطائفية، التي تذبل.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 15, 2023 23:29
No comments have been added yet.