تشيخوف . . ذلك الإنسان
أعطتهُ جذورهُ الاجتماعيةُ والعملية أن يكون الإنسان، فتجسدتْ فيه الإنسانيةُ الجميلةُ الباقية على مر العصور.
في تلك البيئةِ البشعةِ المحيطةِ وجدَ نفسَهُ على جزيرةٍ طيبة، أبٌ حررَ نفسَهُ من العبودية، وبنى حرية لأسرته. في هذه الرابطةِ العائلية معنى البطولة، والارتفاع عن مملكةِ الأقنان، وإعطاء الابن المبدع أن يختارَ دربه، أن يحبَ الفنونَ والثقافة من صغره، وأن يتعلمَ بجدية وعمق، وأن يكون حراً في أمبراطورية القهر أو الذل، أن يكون سيداً جباراً أو يكون عبداً مسحوقاً، هنا في قيصرية الظلمات كان ثمة بصيصٌ من نور، دربٌ آخر يشكلهُ متنورون معذبون؛ سادة يعطفون قليلاً على الفقراء من خلال مقصورات المسرح المرتفعة الرهيفة الباذخة، وهم يصطادون الثعالب ذات الفراء الثمين، ويدعون قليلاً على أكواخ فلاحي المستنقعات.
يمكن للمثقف هنا أن يثرثرَ ويدبجَ عرائضَ الرحمة للبؤساء، لكن إنطون تشيخوف دخلَ ميدانَ العمل البطولي (الصغير)، ميدان الطب، وبأن يداوي ويعالج، وبأن يغرقَ في دهاليز المستشفيات، أن يقتربَ بمرمى أصبع من التيفوئيد والسل، وهو الذي ظهرَ صبياً مؤلفاً يكتبُ المسرحيات الفاشلة وقتذاك، لكن الواعدةَ برعودِ في سماء المسرح الروسي المتجمد.
مساراتٌ كثيرة يمكن أن تأخذَ الطبيبَ في عواصفِ المال والموت والحب، لكن النفسَ الهادئةَ الرصينةَ المتألمة المتأملة العقلانية، تضبطُ إيقاعاتِ الطبيب، تحولُ الجذورَ والمهنةَ الشاقةَ والضنى وبؤسَ الشعب وتطلعاته لعالم آخر، إلى كتابةٍ مضيئةٍ وسط كل تلك المتاهات النيرانية والنورية.
تقومُ كتاباتهُ على إستشفاف حياة الناس وتجسيدها بصور شاعرية تسجيلية ترميزية، ليس فيها الصراعات اللامعقولة والكوابيس الضارية والأمراض الدستويفسكية التي جاءتْ من الصرعِ السياسي، أو الملاحم التولستوية الواسعة، بل هي قطراتٌ شفافةٌ، رقيقةٌ، مليئةٌ برحيقِ الألمِ المرهفِ في أقسى تجلياتهِ، وفيها ظلالُ الأملِ وإنفتاحيةُ الوجودِ على ما هو جميل وباق.
يتحول حتى الصبي الصغير الذي يكتبُ رسالةً إلى جدهِ إلى فيلسوف تقطرُ كلماته بالعذاب، يجسدُ وضعَهُ المهان لدى أسرةٍ تنهكهُ في العمل، ويحنُ لقريته، ولجدهِ وكلبيه، تتركُ كلماتُ الصبي أثراً لا يُمحى، تظهر مرتعشة، ذات مناشير تنشر الروح، تطير، نحو شيء يتجاوز هذا الدهس الغريب القاسي للطفولة.
عددٌ كبيرٌ من النماذج في قصة قصيرة، شخصيات متعددة في حيز ضيق، لكنها تُؤخذ بإقتدار، بترتيبٍ ونسج، تطلُ كلُ شخصيةٍ في بضعةِ سطور، ثم تحتفي، ثم تظهرُ ثانية وقد تحولتْ، كأسرة ريفية عاشت على النصب التجاري، تنمو بشكلٍ مالي كبير، لكنها تهترئ بتساقطِ نماذجها المزورة للمال، والتي تغش في السلع، ويظهر كل ذلك والشخصيات لطيفة، مرحة، متنوعة متصارعة، ونجد هذا النسيج البشري وهو يتآكل في السجن والوحدة والضياع.
الشجرُ والغابةُ والسماء والخيولُ والنجوم والقطارات والرجال والنساء والصبية والشيوخ، والفقراء والأغنياء، كلها تظهر، كلٌ منها له موقعه ولحظته ويعبرُ عن ذاته، كلٌ مقدرٌ ومحترم، ومصَّورٌ بموضوعية، من ورق الشجر والحمام حتى الحوذي وحصانه وركابه.
كلُ شيءٍ مفهومٌ وواضح وله ظلال لا تبين، كلُ شيءٍ مُعَّرى وله طبقاتٌ تحتيةٌ لا مرئية، كلُ الأمراضِ النفسيةِ والاجتماعية تمرُ في المنشورِ التشيخوفي وتظهرُ بألوانِ قوسِ قزح، ليس ثمة صرخة حادة، أو جنون في اللغة، كلُ شيءٍ هادئ ويغلي من الداخل، الكاتبُ المسرحي طبيبٌ، لا يدعُ لاوعيه يتفجر، يموضعُ الحالات ويمسرحها، فتتشكلُ سطوحٌ وأنفاقٌ مطروحةٌ دائماً لفهمٍ متجدد، فالشخصياتُ لا تنضب، والواقعُ المسجل يدخل تحليلات شفافة بمبضع الطبيب الرقيق، لا يدخل أنفاقَ الصراعات الاجتماعية الضارية، بل يدخل في أشداق الصراعات الفكرية النفسية الكبرى، بين نموذج الباني الديمقراطي الإنساني، وبين نموذج الضائع الأناني المستعرض المنتفخ، بين نموذجِ العمل الطيب الصغير المتراكم عبر التاريخ، وبين نموذجِ المغرورِ الذي يضيعُ حياتَهُ وحياة الآخرين والطبيعة في تجريبِ سكاكينه على العالم.
في البيئةِ التي تحيط بالنموذجين تتسعُ صورُهما ويندمجان في تضاريس الواقع والمهن والحالات الواسعة، وليس ثمة موقع خاص فالعدسةُ تنتقلُ في الأرياف والمدن، في الميادين الخارجية المختلفة وفي الذواتِ الشخصية المتباينة، ويترابطان والرموز الكثيفة المبثوثة، ويتعمقان بعلائقهما بقوى البسطاء والمثقفين المضحين، أو بقوى النفاق والتفاهة والاستعراض والإستغلال.
قصصُ تشيكوف هي مدرسةٌ روحيةٌ للتربية، مثلما هي مدرسةٌ للفن الجميلِ الدقيق بأسسهِ التعبيرية، وهي صالحةٌ للنخبة وللجمهور العريض، الشبابُ والشيوخ، فديمقراطيتهُ المتأصلةُ التنويرية المقاتلة صبرتْ برهافةٍ هائلةٍ على المادةِ الفنية المشاغبة، طوعتها بإقتدار، وروضتْ لاعقلانيتَها وضجيجَها، جعلتْ كلَ أتون روسيا – العالم في سبائكَ صغيرةٍ فاتنة، إن صراخَ المتنورين والليبرالين مُصفى هنا، منقودٌ، بمدى جديتهِ النضالية، وعلائقهِ مع المهمشين، إن السبائكَ تكشفُ الأشياءَ والحالات في مجرى الحياة المتدفق مثل الشجر المتحول.
حتى في نوعيهِ القصصي والمسرحي اللذين اتخذهما تُرى هذه العلاقات الديمقراطية مع الناس، ومع الكتابة، والنقد، فهو دائماً قريبٌ من القارئ والمشاهد، يجسدُ الحياةَ العريضةَ بذينك النموذجين المحوريين، في حالاتٍ ثرة كثيرة، وهو عبر تجربتهِ يسخنُ ذلك التوترَ الصراعي، وينقلهُ من الحالاتِ العادية جداً إلى الحالاتِ الإستثنائية، إلى الأعماقِ العنيفة، ومن الصورةِ الكتابية إلى الجسد المسرحي المثير. فكأنهُ ينقلُ صوتَهُ من جسدٍ لامرئي إلى جسدٍ مرئي ناري، محاولاً توصيل تلك الرسالة الشفافة بأهميةِ العملِ والتضحية وفي أيةِ أنظمةٍ تالية تتخذُها روسيا – الإنسانية، فليس المهم اللافتات الزاعقة بل الإنتاج والأخلاق الرفيعة، فكان هو بحدِ ذاتهِ أمثولةً لكلامهِ – أدبه.


