عظماء التصوف : السهروردي

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

[ ولد سنة 549 هـ – 1155 م في الشمال الغربي من إيران في ميديا القديمة بسهرورد ، وهي مدينة كانت ولا تزال مزدهرة إبان الاضطرابات المغولية ، وقد درس في حداثته الباكرة في مراغة بأذربيجان ، ثم قدم أصبهان في وسط إيران ؛ ولا بد انه وجد السنـُة السينوية لا تزال حيةً هناك . ثم أمضى بعدها عدة سنوات في الأناضول حيث تلقى احسن استقبال من عدة أمراء من روم السلاجقة . وأخيراً تحول إلى سوريا التي لن يعودُ منها أبداً . ] ، ( 18 ) .
تبدو سيرة السهروردي مضادة لفكره ، فهو إذا يخرج من إيران تغدو صوفيته استعادةً للحكمة الإيرانية القديمة ، وهنا تكون الصوفية المشرقية قد بلغت مرحلة تكشف مضمون داخلي :
[ ولكي نفهم منذ البداية مقصد مؤلفات السهروردي ، فلا بد لنا من أن ننتبه إلى الفكرة المبطنة التي تشير إليها تسميته لكتابه الرئيسي ( بحكمة الإشراق ) وهي فكرة حكمة لدنية مشرقية سيتابعها بتصميم واضح كإحياء لحكمة فارس القديمة ] ، ( 19 ) .
وهكذا فإن فلسفة السهروردي ستتوجه إلى الانعطاف من التوجه العقلي الأرسطي نحو الإشراق ، الذي سيكرس مثالية أفلاطون وأفلوطين ومزج ذلك بعقائد الفرس القديمة ، وهو فقط سيرتكز على أولية العقول المفارقة الفارابية – السينوية لكي يحيلها إلى أنوار الفرس القومية الزرادشتية وقد غدت هي الفيض النوراني، وبدلاً من التشكل الموضوعي للطبيعة من الفيض الأعلى ، فإنه ترجع [ حقيقة كل علم موضوعي إلى شعور الإنسان العارف بذاته . وكذلك الأمر بالنسبة لكائنات جميع العوالم والأجرام النورانية كلها ] ، ( 20 ) .
وبهذا فإن النور المتعدد السماوي ، الذي تزاوج مع أفكار العقائد الدينية المشرقية ، وخاصة الإسلام ، يتحول إلى كائنات الملائكة ، وهي عملية تشير إلى المزج بين عقيدتين ، كتعبير عن إضفاء شكل إسلامي على مضمون [ قومي ] فارسي ، ويحيل السهروردي الفيض النوراني الملائكي هذا إلى أشكال من القوى المفارقة المتعددة التي تتوافق مع تسميات وآراء الفلاسفة :
[ هذه الأنوار تؤلف ( طبقات العرض ) ؛ إنها تؤلف ، أيضاً ، ( أرباب الأنواع ) المتماثلة ذاتياً مع المثل الأفلاطونية لا على أنها كليات متحققة طبعاً ، بل على أنها أقانيم من النور ] ، ( 21 ) .
[ ولي في نفسي تجارب صحيحة تدلُ على أن العوالم أربعة : أنوارٌ قاهرة وأنوار مدبرة وبرزخيان ، وصور معلقة ظلمانية ومستنيرة فيها العذاب للأشقياء ] ، ( 22 ) .
إن السهرودي يقيم تضادات مطلقة بين عالمي النور والظلام ، وهي تضادات تعود من بنية الزرادشتية ، حيث التقابل الذي لا حل له بين النور والظلام ، واللذان يمثلان شكلين حسيين مجردين ، يحاولان أن يمثلا عالمي الفكر المجرد والحس ، عالم المثل وعالم المادة ، عالم السلطة وعالم المنتجين .
وليس لهذا الوعي عملية تمثل بالواقع الإيراني الراهن حينذاك سوى بالعودة إلى الأسماء القديمة ، في حين أن التجريد العام بين النور والظلام لا يمثل عملية تحليلية لواقع إيران المضطرب ، بل هو استعادة لكون عالم النور يمثل إيران ، في حين تمثل الظلمات عوالم الأشقياء .
أما عالم الأنوار فهو [ عالم الأنوار المجردة العقلية التي لا تعلق لها بالأجسام وهم عساكر الحضرة الإلهية والملائكة المقربون وعباده المخلصون ] ، وهي التي تمثل الكائن الأول ، عالم الحكم ، في حين أن الأنوار المدبرة : وهو الثاني وهو عالم الأنوار المدبرة الاسفهبذية الفلكية والإنسانية ] ، وهو عالم الإدارة السياسية التي تلي الحكم ، وتتمثل ميتافيزيقياً بالجمع بين الكائن الأول والسماء وعالم الفلك وحياة الإنسان ، حيث يلغي السهروردي الفصل بين عالم السماء وعالم ما تحت فلك القمر ، وعالم الأنوار الثاني هذا هو الذي يدير الكون ، وهو ما يعطي لعوالم المثقفين والفئات الوسطى دور القيادة الحقيقية ، وهو ما كان يماثل لدى فلاسفة آخرين دور النفس أو العقل الفعال .
أما عالم المادة عالم الأجسام فهو ثالث العوالم ، وهو عالم الناس ، حيث ينقسم إلى عالم الظلمة حيث لا يستطيع الناس التطور الروحي الخلاق ، في حين أن عالم المثال فهو عالم الأجسام المستنيرة التي ترتفع عن عالم الظلمة .
لا تستطيع كثرة مصطلحات السهروردي واستعاراته الكثيرة من الفلسفات المثالية المختلفة قبله وقد رُ كبت على الزرادشتية ، أن تخفي المعمار المستعاد من الأفلاطونية المحدثة ، لكن مع ذلك فإنها لا تقدم جديداً ، وهي تعبر عن عالم إيران وهو يواجه القوى الرعوية الغازية خاصة السلاجقة والمغول ، فتتم استعادة الإرث الفارسي القديم بأشكال شتى في حركة الثقافة ، وهي أشكال استعادية تتعارض مع ثقافة الأتراك الرعاة والمغول ، وتتكيف مع الإثناء عشرية ذات الأئمة المتعددين ، وهي التي سوف توظف الصوفية في هذه المرحلة من أجل استرداد إيران من الغزاة .
فالصوفية التي وُلدت في بغداد عبر حركة واسعة تعود إلى إيران وقد تشكلت كفلسفة مثالية غيبية عجائبية وحركة ثقافية شعرية وأدبية هائلة راحت تتوحد في جوانب معينة مع المذهب الإثناء عشري المتصاعد في فضاء إيران حينذاك ، مثلما تستقطب إيران كذلك أفكار ابن عربي وتمزجها بذلك المناخ الديني .
ويتجلى ذلك في تصاعد الشعر الصوفي ليغدو الشعر القومي الفارسي الجميل المؤثر :
[ قال مليكي للشمس : حذار ، لا تزاولي هذا الدلال ، فإذا كنت تسترين وجهك ، فنحن سافرو الوجوه .
وفي اللحظة التي يومض فيها تألقُ هذا الجمال ، تصبح في تلك اللحظة مائة شمس سوداء ومجرد مجاز ] .
[ فهات الكنز ، ولا تمارس الحيلة ، فلن تنجو ، بالمضمضة والمصلى والذكر والزهد والصلاة .
إنك تسرق ، ثم تجلس في ركن المسجد ، قائلاً : أنا جنيد الزمان ، وأبو يزيد الضراعة .
فرد القماش المسروق ، وآنذاك مارس زهدك ، ولا تعلل بالضعف ، ولا تكتم صوتك ] ، ( 23 ) .
إن تعبيرات شمس الدين التبريزي تجعل الملكوت السماوي يصير لغة شفافة على الأرض ، وتمثلات حسية تتفجر في الزهر والمسجد والكتاب ، تجعل الروح تذوب في الكيان الإلهي المتمثل جمالاً .
يقول سعدي الشيرازي مضفراً بين الغناء الروحي والبحث والتجسيد الرمزي وبين إعطاء دلالة مختلفة للإسلام :
[ إن العالم والعابد الصوفي كلهم أطفالٌ في الطريق وإذا كان الرجل رجلاً فيه فلن يكون غير العارف الرباني .
أخشى ألا يلتفت إليه المحبوب الروحاني … وأنت لا تروم إلا الراحة الروحية .
دارك ملأتها بالقمح ولم ترسل حبةَ شعير إلى قبرك .. وتحمل هم الموت ليس كتحمل هم الشتاء .
تنهب مال المسلمين وإذا نهب مالك صرختَ وصحت إن هذا هو الإسلام .
….
من يخشى اللصوص لأنه يملك متاعاً ليس كالعارفين الذين إن امتلكوه فلا خوف لديهم عليه .
ومن نصب خيمته في صحراء الفراغ ما اهتم بالخراب إذا تزلزلت الدنيا ] ، ( 24 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر :
( 18 ) : ( تاريخ الفلسفة الإسلامية ، هنري كوربان ، مصدر سابق ، ص 316 ) .
( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 316 ) .
( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 324 ) .
( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 327 – 328 ) .
( 22 ) : ( حكمة الإشراق ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص 330 ) .
( 23 ) : ( مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي ، لمولانا جلال الدين الرومي ترجمة إبراهيم الدسوقي ، الهيئة العامة ، القاهرة، ص 55 ، 54 ) .
( 24 ) : ( مواعظ سعدي ، سعدي الشيرازي ، الهيئة العامة ، ترجمة محمد علاء الدين منصور ، ص 30 ) .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 05, 2023 15:51
No comments have been added yet.