البطل الشعبي بين الماضي والحاضر

في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لا بد له من شيوعية نافية له بكليته.البطل الشعبي بين الماضي والحاضر

كان الأنبياء العظام أبطالاً شعبيين بظروف عصورهم، وكان البطلُ الشعبي عموماً شخصية يتيمة أو فقيرة مُطاردَّة متشردة في المكان، مُعذبَّة في الزمان، وربما هي تــُلقى بسبتٍ في النهر لــُتنقذ وتقاوم وتقوم بأفعال عظيمة تغير مجرى الإنسان.
ما يميزُ هذا البطلَ الطالعَ من بين صفوفِ الناس المعذبة، هو الأخلاصُ للقضيةِ والتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحقيق الهدف الجليل.
وكثيراً ما تقومُ القوى المناوئة بتعذيب البطل عبر النار والطرد والسجن أو تحل فترة أخرى من الإغراءات بتقديم العروض المُبهرة من سلطانٍ وأموال، وعلى رد فعل البطل تتوقف مجرى العملية النضالية، فالقبول بها يقود إلى تلاشي البطل ورفضها يقود إلى صعوده.
ويسوق لنا القرآن قصص هؤلاء الأبطال المقاومين الذي عاشوا في اليتم والفقر وربما انتقلوا للغنى لكنهم لم يتخلوا عن القضية:
فقصة النبي موسى عليه السلام في سورة(الشعراء) ، توضح لنا ذلك يذكرُ، فهو يأتي إلى فرعون ويطلبُ إطلاق سراح بني إسرئيل المعتلقين، إن القصة هنا وامضة كما في السور المكية ، ومركزة لموقف البطولة والإغراء :
(فأتيا فرعون فقولا إنا رسولُ رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل . قال ألم نــُربك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين . وفعلتَ فعلتكَ التي فعلتَ وأنتَ من الكافرين ) .
إن ثمة ماضياً يغدو للنبي موسى جذوراً لا يستطيع قلعها من نفسه، هو انتماؤه للناس، فالمسألة ليست حليباً من الأم ولكن تلك صورة رمزية للعلاقة بالجذور، للارتباط بقضايا الناس. ويطرح الفرعونُ ذلك متسائلاً في دهشة ؟!
لقد كان مشرداً يتيماً ثم تربى في القصر وذاق ملذاته وعلوه فلماذا قبل أن يكون مع المعذبين المشردين؟!
ثم تواصل الصراع ولم يقبل موسى بالإغراء الفرعوني وتوجه للناس واندمج بهم:
(وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون . فارسلَ فرعونُ في المدائن حاشرين . إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون . وإنـّـا لجميعٌ حاذرون . فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوزٍ ومقامٍ كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) .
وبين ظروف العز والتلاحم مع الفقراء مسافة كبيرة فيها تضحيات وعذاب، ولكنها تقود إلى تحولات تاريخية فلم تنفع الدكتاتور ما لديه من جيوش يجمعها في أحكام الطوارئ وأمام الشرذمة القليلة، بل هُزم وسحبت منه الكنوز!
وهذا نوح عليه السلام يواجه موقفاً مماثلاً، فيقف مع الفقراء والمحرومين والملأ لديه كل قوة ونفوذ وتسجل ذلك سورة هود:
(( فقالَ الملأُ الذي كفروا من قومهِ ما نراكَ إلا بشراً مثلنا وما نراكَ أتبعكَ إلا الذين هُم أرذالنا بادى الرأي وما نرى لكم علينا من فضلٍ بل نـُظنــُّكُم كذابين )) .
ماذا سوف يستطيع هؤلاء (الأرذال) وهو لفظ تحقيري، أن يفعلوا أما جبروت حكام بابل؟
ومهما كانت صورة الطوفان مادية عجائبية فإننا يهمنا الطوفان الأكبر طوفان التغيير الاجتماعي الذي أزال هؤلاء القوم المكابرون في سيطرتهم وإستغلالهم، وجعلهم ماضياً غابراً!
ويعرض نوح الصراع الاجتماعي بوضوح أمام ابتاعه وأعدائه معاً مصراً على الاستمرار في النضال:
((ولا أقوُلُ لكم عندي خزائنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ إني مَلكٌ ولا أقولُ للذين تزدرِى أعينكم لن يؤتيهم اللهُ خيراً اللهُ أعلمُ بما في أنفـُسِهم إني إذاً لمن الظالمين)).
فليس لديه سوى معركة من أجل المطالب العامة.
كانت تلك بعض ملامح البطل الشعبي بصورة أنبياء وهم يتتالون في القرآن، كنماذج نضالية ودروس تاريخية لمن يقرأ.
إن قصة النبي شعيب عليه السلام تأخذ تضاريس المنطقة العربية الحجازية المختلفة عن الشمال (العربي)، فهنا نجد صراعاً اجتماعياً بسيطاً معبراً عن مستوى البدو العرب وهم يتحضرون :
(( وإلى مدين أخاهم شُعيباً قال يا قومِ أعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهِ ولا تنقصوا الميكالَ والميزانَ إني أراكم بخير وأخافُ عليكم عذابَ يومٍ محيط . ويا قومِ أوفوا المِكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )) .
إن الدعوة النضالية تأخذ جوانب اجتماعية ملموسة، كترك الغش التجاري ، واحترام الملكية الخاصة ، وعدم السرقة واللصوصية، وهي جوانب يظل شعيب يطرحها بشكلٍ أخلاقي، ويزاوجها بالدعوة للتوحيد لكن القوم لا يستجيبون للدعوة الأخلاقية المجردة، ويواصل الملأ السرقة الاجتماعية.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو ذروة هذه القصص النضالية، وتنطبق عليه سمات البطل الشعبي، حيث الفقر واليتم والتشرد، وهي كلها لا تجعله يذوبُ ويستسلم، كما أن الغنى الذي انهالَ عليه فجأة لا يجعلهُ يبطر أو يتخلى كذلك، مواصلاً مقارعة الملأ، لكنه لم يحولْ الدعوة فقط إلى دعوةٍ أخلاقيةٍ بل كذلك إلى نضال سياسي عارم، جاذباً الجمهور الواسع لدعوته، رغم إنه هو نفسه في اللحظات الطويلة من القمع والأغراء شعر بأشياء صعبة، مع موت زوجته وعمه وحصاره الطويل العنيف فجاء في سورة هود:
((فلَعلك تاركٌ بعضَ ما يوحى إليك وضائقٌ به صدرُك أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنزٌ أو جاء معهُ مَلَكٌ إنما أنتَ نذيرٌ والله على كلِ شيءٍ وكيل )).
ليست لديه كنوز وليست لديه معجزات بل معجزته هي الكلمة التي حركت الناس وصنعت التاريخ، أي هذه الحروف التي تأتي وتحتقرونها وتتكاثر أمامكم بسهولة مثل ط وسين وعين الخ!
وكما في سورة أخرى هي سورة النمل:
((طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين . هُدى وبشرى للمؤمنين . الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهُم بالآخرة هم يوقنون )) .
وقد عاشت الحركات السياسية العربية في الماضي والحاضر بين هذه النماذج دون استيعاب كافً ودون تمسك شديد بالدفاع عن الأغلبية المحرومة، فما أن ترتفع جماعة حتى تتردد، وغالباً ما كان الأخفاق بسبب هذا الوضع الرجراج حيث قدم في المعارضة وقدم أخرى تتجه بحثاً عن المكاسب!
وما ان يظهر زعيم وترفعه الجماهير ويصل لشيء من السلطة حتى يبدأ يفكر في منصبه ورواتبه، وحتى لو وصل الزعيم بثورة مظفرة إلى الحكم، فإنه يتراجع قليلاً قليلاً حتى تجده في خاتمة المطاف مع كبار المنتفعين بالنظام السابق حتى يكنسه إنقلاب تافه! وحتى رمزيته تتلاشى فكيف الوصول إلى (الرسالة)!
ويقول قائلهم لو أنهم أعطوني الأراضي وجعلوها في يساري ووضعوا الأموال في يميني فإنني سوف أتخلى عن هذا الأمر، وما أنا سوى حرامي يلبس لباس الثوار والأتقياء!
أية كنوز بل هي الكلمة صانعة التاريخ عند مناضلين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2023 03:15
No comments have been added yet.