جنّيّات إنشرين لمارتن ماكدونا، الحياة تتجلّى بتنوّع معانيها

مقالي -باسم سليمان- في صفحة السينما/ الصباح العراقية ليوم الاثنين 15/5/2023

لا تكتمل الخطيئة إلّا بغياب تعدّد معاني الوجود! وهذا ما تغيّاه المسرحي والمخرج الإيرلندي مارتن ماكدونا في فيلمه: (جنّيّات إنشرين 2022) حيث يقدّم لنا جزيرة إنشرين الخيالية عبر كادر تصوير مأخوذ من الأعلى، كأنّها قطعة من الجنّة، فالطبيعة جميلة جدًا وأهلها بسطاء هانئون وخاصة الصديقان: بادريك:(كولن فاريل) وكولم:(برندان غليسون) ، لكن فجأة يخبر كولم بادريك بأنّه لم يعد يريد هذه الصداقة، لأنّ بادريك شخص مملّ! وهو يريد أن يكون لحياته معنى، وذلك بأن يؤلّف مقطوعة موسيقية تخلّده. صُدم بادريك بذلك وسعى بشكل حثيث لإعادة الصداقة، لكنّ كولم يهدّده إن استمر في محاولاته سيقطع أصابع كفّه التي يعزف بها.

عبر هذه الكوميديا السوداء يغوص ماكدونا في حياة أهل الجزيرة، فيتضح لنا جحيمهم المضمَر، فالشرطي ممثِّل السلطة، هو أبٌ قاسٍ يدفع ابنه للانتحار، فيما كاهن الكنيسة يستغل اعترافات المؤمنين للسيطرة عليهم، أمّا صاحبة الحانوت التي تعتبر كصندوق بريد للجزيرة، لا تتورّع عن فتح الرسائل لتعرف محتوياتها، بينما تتجوّل في الجزيرة عجوز أقرب لساحرات مسرحية ماكبث لشكسبير مطلقة نبوءات الموت.

يعتبر بادريك مثالًا للطيبة والحبّ، ولا يختلف كولم عنه، إلّا أنّه أراد لحياته معنى مختلفًا، وهذا ما يرفضه بادريك، فالصداقة والحبّ كافيان لأن يكونا معنى للوجود من وجهة نظره. وهنا يتجلّى السؤال الوجودي، هل في بحثنا عن معنى خاص لحياتنا نقتل معاني الآخرين؟ أليست الحرب الأهلية الإيرلندية التي تدور رحاها في البر الرئيسي بعد الحرب العالمية الأولى، وتسمع أصداء إطلاق نيرانها إلى الجزيرة، بين من يريد الانفصال عن إنكلترا، ومن يريد البقاء تحت سيطرتها، وبين الكاثوليك والبروتستانت، صراعًا للمعاني؟

أراد ماكدونا أن نتعاطف بداية مع بادريك في مواجهة كولم الجاحد للصداقة، لكن هل بادريك الطيب والمحبّ يشعر بمعاناة الآخرين؟ فهو يسأل أخته التي تقتلها الوحدة في هذه الجزيرة، لماذا تقرأ روايات محزنة مادامت ليست مريضة ولم تفقد أحدًا! وعندما يعلن كولم حاجته للوحدة يرفض بادريك ذلك، رغم تهديد كولم بقطع أصابعه، ونتيجة إلحاحه ينفذ كولم وعده. رمى كولم أصابعه المقطوعة نحو بيت بادريك، ممّا أدّى إلى موت حمارة بادريك اللطيفة، وذلك بأن اختنقت بأحد أصابع كولم. يتفصّد بادريك غضبًا، ويعلن بأنّه سيحرق بيت كولم وأنجز ذلك من دون أن يعارضه كولم. لم يقبل بادريك بوجود معنى للحياة غير الذي يعرفه ومن أجل ذلك تحوّل إلى شخص عنيف بعدما كان رمزًا للطيبة.

تغادر أخت بادريك الجزيرة قاصدة البر الرئيسي، لأنّ لا معنى لحياتها فيها. يتشارك كولم مع موسيقيين آخرين في عزف مقطوعته التي من الممكن تسميتها: جنيات إنشرين، بينما تقطر الدماء من أصابعه المقطوعة. وفي ختام الفيلم يظهر بادريك وكولم على شطّ البحر. يشكر كولم بادريك لأنّه أنقذ الكلب من الحريق، فيرد عليه بادريك، بأنّه كائن طيب لا يستحق الحرق! ومن ثم يبدي كولم رأيًا بأنّ الحرب ستنتهي قريبًا، لكن بادريك يخبره بأنّها ستستمر! وفي خلفية هذا الحديث كانت تجلس العجوز خلفهما تراقب!

هناك شبهة عودة الصداقة في نهاية الفيلم بين بادريك وكولم حتى لو كانت منكّهة بالعداوة واختلاف المعاني. هل كان بادريك يحتاج لأن يقطع كولم أصابعه وتهجره أخته ويموت حماره المحبّب، حتى يدرك بأنّ مفاهيم الآخرين عن الحياة، لا يجب أن تتطابق مع مفهومه الأوحد عنها؟

لم تكن العجوز عبر نبوءاتها إلّا مارتن ماكدونا، وهو يقودنا في تعقيدات الشخصية البشرية، فطيبة بادريك أبانت في النهاية عن عنف لا ييأس. أما لامبالاة كولم بصداقة بادريك، فأظهرت أن الصداقة في منتهاها تضحية وغفران. أمّا الفتى الذي يصفه الجميع بالأبله، وينتحر في النهاية نتيجة عنف أبيه، دون أن يتدخل أحد لإيقافه، مع أن الجميع كان يعلم بهذا العنف. فلقد أعاد هذا الفتى الثقة إلى أخت بادريك عندما أعلن عن حبّه لها، ممّا دفعها إلى مغادرة الجزيرة بحثًا عن معناها الخاص. وبينما كان والده الشرطي يبحث عن بادريك لقتله، تخبره العجوز بأنّ ابنه قد غرق في البحيرة، فيكفّ عن مسعاه أمام هول فقدان ابنه الوحيد.

لقد تبدّت جزيرة إنشرين في بداية الفيلم ملائكية بالنظرة العامة، ومع الوقت ظهرت شياطين التفاصيل، ولربما كان بادريك هو الشيطان! على الرغم من طيبته ومحبته. ألم تقل لنا الأسطورة، بأنّ الشيطان كان ملاكًا، ولأنّه لم يصل إلى مبتغاه، تسبب بإهباط آدم وحواء من الجنّة.

لا يذهب ماكدونا لإدانة أحدٍ من أبطاله في جنيات إنشرين، وكأنّه يردّد مقولة أبي يزيد البسطامي: (إنّ في الطاعات من الآفات، ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي). حاز فيلم مارتن ماكدونا العديد من التكريمات، واستحق جائزة أفضل سيناريو. ونال كولن فاريل جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا ونافس على جوائز الأوسكار.

باسم سليمان

خاص الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 15, 2023 12:57
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.