المسيحية وانتصار المثقف الديني
لقد قامت المسيحية بوراثة تراث المشرق [ الذي صار عربياً فيما بعد ]، وهو التراث الذي يعود إلى ما قبل أفكار الساميين الرعويين (الأكاديين )، الذين رفعوا الإله الباطش كحاكم قوي على الأرض والسماء، تعبيراً عن نزعة توسعية استرقاقية حادة، ووضعوا الإله التموزي المعذب الفادي جانباً. لقد كانت المسيحية عودة إلى إله الفلاحين الممزق هذا ، وهو إله تعمم في المشرق.
لقد عادت المسيحية إلى الثالوث المصري والمشرقي عموماً : أوزوريس وحورس وإيزيس. وتم التخلي عن يهوه كإله باطش وكاستمرار لإله الرعاة القاسي. وجاء الأب والابن الفادي. لقد جاء الابن من السماء والمطلق وأتحد بالإنسان والنسبي، ودخلت الروح في الجسد، والنور في المادة، ثم عاد النور إلى السماء، وأعطيت الذبيحة الأخيرة الفادية لأخطاء بني آدم، أي تم تجاوز الإرث اليهودي. وتشكلت من العناصر الدينية المشرقية القديمة والحديثة مادة فكرية توحيدية أعطت للمشرقيين سلاحاً ثقافياً في وجه الاحتلال الذي غدا رومانياً.
في التداخل بين العنصرين الإلهي والبشري، المطلق والنسبي، النور والطين، الأعلى والأدنى، الأب والابن، آن وتموز ، أيل وأدونيس، علاقة سياسية تلغي الانفصال بين الدولة والناس. إنها تعطي للمنتجين إمكانية الاتصال والوصول إلى الدولة. فلم يعد الحاكم إلهاً باطشاً بل أباً حنوناً. ويتحول حب الابن والذوبان فيه صعوداً إلى المطلق وتغييراً للسلطة الجائرة المتعالية.
في ثالوث الأب والابن والروح القدس، صيغة سياسية بدت غامضة في أول الأمر ثم أخذت تتضح، عبر النضال الرهباني الطويل، وآلاف الشهداء الذين يلقون في النار وفي أفواه الوحوش خلال ثلاثة قرون من القسوة غير المتناهية.
لم يكن الأب الحاني غير المتدخل بقسوة في العالم سوى تعبير عن سلطة محايدة رفيقة، ولم يكن الابن سوى واجهة المثقف الديني وهو يرتفع فوق أكتاف الجماهير نحو السيادة على القرون الوسطى. وبدلاً من الأباطرة والملوك المطلقين كان نموذج الراهب المضحي الزاهد يُطرح بديلاً للجماهير التي أُرهقت من نظام العبودية القاسي حيث ملايين البشر تجلب وتسرق من قراها وصحاريها لتعمل في المزارع الكبرى للحكام والملاك الكبار للعبيد.
ويتحول هؤلاء الرهبان والقساوسة إلى هيكل هائل لسلطة تنمو في الحياة الاجتماعية . يقول القديس أيرينيوس أسقف ليون : [ لا سبيل إلى منع المسيحية أن تتفرق إلا أن يرضى المسيحيون بالخضوع لسلطة واحدة .. وتلك هي قرارات مجالس الكنيسة الأسقفية ].
لقد تشكلت سلطة هائلة من هذه الثورة، وأصبحت أراضٍ زراعية بحجم قارة في يدها، لكن المثقف الديني الفقير والزاهد لم يصل إلى السلطة، وحين يتحول الدين إلى مخالب دولة فلا سبيل لمنع الملاك الكبار من الاستيلاء على الثروة الاقتصادية والروحية، ومع هذا كان ذلك قفزة في التاريخ، بتجاوز عصر العبيد، للدخول في عصر الإقطاع، وما أقساه وما أكثر الظلمات فيه !
لقد تفككت قارة أوربا إلى إقطاعيات صغيرة، وذبلت المدن الكبرى، وسيطر الريف المتخلف بخرافاته وأميته، وانتشرت الزراعة والنبلاء بقصورهم الباذخة والفلاحون المدقعون فقراً، وتلاشت الفلسفات اليونانية، وقرأوا أرسطو بشكل مشوه، وأعتبر مع ذلك المعلم الأول، وتوجهت الأنظار إلى السماء والغيب، ورفضت الفنون، وتشكلت محاكم التفتيش للبحث عن المخالفين للعقيدة المستقيمة، عقيدة الكنيسة، وغاب المفكرون الأحرار والفلاسفة الخ
لقد تم تسييس صورة الابن ليتوافق مع صعود الرهبان والكنائس ولكن في النهاية لم يسيطر على الماكينة الدينية سوى كبار ملاك الأرض التي قسمت بين النبلاء والكنيسة، بطبيعة الخطاب الديني الذي لا يقوم بتحليل الصراع الاجتماعي، بل يموهه باحتكاره لفهم النص الديني وهو لا يحتكر سوى الثروة.


