إشكاليات التطور السياسي في السودان

كان السودان أثيراً على قلوب العرب وخاصة التقدميين منهم، حيث كان واعداً بتطورات إيجابية كبيرة، كانت ثمة أسماء أسطورية تلتهب في فترة السبعينيات من القرن العشرين، وكان البلد ينزف بين إنتفاضاته الشعبية العظيمة وإنقلاباته الدموية المؤلمة.
حتى أخذتْ عقولنُا تستبصرُ التطورات الماضية بأشكالٍ جديدة، فقاربنا تعقيدات تطور العالم، ولم تعدْ الصيغُ المبسطةُ بقادرةٍ على فهم الواقع المعقد.
وحين نقرأ الآن أدبيات الأحزاب التقدمية والقومية نجد إن الكثيرَ من اللغةِ القديمة لم يتغير، وحتى عمليات التحليل والنقد الذاتية لم تصل إلى أغوارِ التجارب التي نُسفتْ والتي غَامرت والتي تَجمدت.
اقرأ الآن تجربةَ التقدميين السودانيين في السبعينيات فأجد الحيثيات باقية. في سنوات السبعينيات تابعتُ بأسى المجازرَ التي قامَ بها جعفر النميري. كان كتابُ فؤاد مطر، هذا الصحفي الذكي، وهو بأسم (الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم إنتحر؟)، وثيقة بالغة الأهمية لكيفيةِ إشتغالِ الصحفي وغوصهِ في تاريخٍ حي، يتدفق بالدماء على أرض الواقع المتأجج بالصراعات، جامعاً بين الحيثيات الحياتية النارية والقراءة الفكرية والوثائق، بين يوميات جعفر النميري في دهسِ المعارضة الدينية في جزيرة آبا وتحويلها إلى مقبرة واسعة، وإنقضاضه على الحكم كأنهُ وليٌّ مقدسٌ نزلَ بدبابةٍ من السماء، وبين براءةِ اليسار وطزاجته وعنفوانه وشموليته الغائرة الخطرة وشموخه وذهابه للمشانق مرفوع الرأس.
حين يحلل الباحثون هذه المجازر وهذه الهبات المندفعة نحو الأعالي بشكلٍ أسطوري، لا يقرأون السببية البسيطة التي كشفها تاريخُ القرن العشرين، وهي أن الثورةَ الاشتراكية في العالم الثالث الراهن هي حلم، وحلم خطر إذا حاول أن يمشي على قدمين في أرض الواقع، ويصبح كابوساً إذا ركب على دبابة. والسؤال المركزي حقيقةً هو هل يستطيع اليسار أن يتجاوز الإقطاع؟!!
سنجد إن جعفر النميري والمناضل الشهيد عبدالخالق محجوب متضادين، لكن ثمة أشياء خطرة جمعت بينهما. لقد كان مشروعُ الإشتراكية يسري في العظامِ السياسية للأمين العام للحزب الشيوعي، صحيح إنه أخذهُ كتتويجٍ لثورةٍ وطنيةٍ ديمقراطية، لكن هنا هي المشكلة.
في تقييمه لإنقلاب مايو 1969 الذي قام به جعفر النميري، والذي إندفع بقوة وسرعة لكي يكون نظاماً شمولياً متغلغلاً في كلِ شيء، وجامعاً كل السلطات العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية بين يديه، تحدث الأمين العام للحزب عبدالخالق محجوب عن قوتين بارزتين أخذتا تهيمنان على مسرحِ السودان السياسي، وهما قوة البرجوازية الصغيرة الممثلة بالضباط الذين تولوا السلطة، وبقوة الطبقة العاملة التي تمثل طليعة الثورة الحقيقية وطليعة العاملين حسب تصوره.
جاءَ في بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي صبيحة يوم الإنقلاب 25 مايو1969 ما يلي:
(ماجري صباح هذا اليوم انقلاب عسكري وليس عملاً شعبياً مسلحاً قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح، وأصبحت السلطة تتشكلُ من فئة البورجوازية الصغيرة.
يبني الحزبُ موقفَهُ من هذه السلطة على أساس: دعمها وحمايتها امام خطر الثورة المضادة، وأن يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف مناهج البورجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة الى يدها، فالبورجوازية الصغيرة ليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة.).
إن هذا التقييمَ يحشرُ العمليةَ السياسية في ممر إجتماعي ضيق خاطئ، فالصراع ليس بين طبقتين، بل هو في طبقة واحدة هي البرجوازية الصغيرة نفسها، فهؤلاء العسكريون والسياسيون المتحدون على التغيير هم شرائح من هذه الطبقة، والحزب الشيوعي هنا إحدى هذه الشرائح، لكنه يتوهم إيديولوجياً بأنه ممثل الطبقة العاملة، وبالتالي هو يستطيع دون سواه أن يحدد الطريق الاشتراكي، لأنه ممثل العمال. وهل العمال يريدون الاشتراكية أو يفهمونها؟ وأية شروط موضوعية من تصنيع واسع وغيره من الظروف يؤهل السودان الإقطاعي الزراعي – الديني، الممزق لمثل هذه الأحلام التي تنسجها النخب؟
هذه النخبُ نسجتْ هذه التصورات الإيديولوجية بعد عجزِ ممثلي القوى الاجتماعية التقليدية عن فتح طريق النهضة الصناعية والديمقراطية للشعب، نظراً لارتكاز القوى التقيدية كحزب الأمة على الملكية الزراعية الإقطاعية وعلى الطوائف والقبائل والشركات والبنوك المالية الطافحة فوق جسدٍ إقتصادي إقطاعي متخلف، ممزق، مركزي!
وحين يتقدم الحزب الشيوعي بين هذا الكم الشعبي البسيط العائش في إقتصاد ما قبل رأسمالي بشكل واسع، ليقوده إلى الإشتراكية يؤكد عدم نضجه السياسي.
صحيح إنه قال إنه يعمل لتنمية العناصر النضالية الديمقراطية تتويجاً للانتقال إلى الإشتراكية لكنه قال كذلك بأن ثمة (مأزق للتطور الرأسمالي في السودان)، وإنه قادر على إزاحة ممثلي البرجوازية الصغيرة بعد حمايتها وتصويب خطواتها، مما يعبر عن وصايته على الثورة الشعبية، واحتمالات تطورها، وهو أمر يجعل الدكتاتور العسكري الأرعن يزداد رعونة!
إن الخطاب السياسي للحزب بالتوجه إلى الإشتراكية هو الخطابُ المسبب لأزمة المرحلة، وبطبيعة الحال هناك الدعم السوفيتي لمثل هذه المغامرات، وهو أمرٌ يجعلُ القوى التقليدية تضطربُ وتتحركُ في مغامرات لوقف هذا التعدي على (الملكية الخاصة) وعلى (الدين)، وهي إثارات لتحريض الدول الأخرى خاصة مصر التي بدأتْ تنتقلُ لحكم السادات في ظلِ ذلك البرزخ التحولي الهدام من عبدالناصر للسادات، ولذا كانت أحداث جزيرة آبا وتطبيقات النميري للاشتراكية العسكرية وإستغلاله لشعارات الحزب الشيوعي لضربه وسحب البساط من تحت أقدامه مدعاةً لمراجعة هذا الخط وتغييره.
إن كل هذه الإستراتيجية تقودُ إلى فك العلاقات مع الحلفاء وعدم تصعيد عناصر الديمقراطية والنهضوية الصغيرة والدخول في سيناريوهات القفزات والمذابح!
لقد كان السودان قريباً من مغامرة (الإشتراكية) التي صعَّدها الحزبُ الشيوعي السوداني بحسنِ نية، وإستغلها جعفر النميري بسوءِ نية.
وقد كان كان المسرحُ الستيني العربي مهيئاً لمجموعةٍ من هذه المغامراتِ الخطرة، التي ألحقتْ أضراراً فادحةً بعملياتِ التطور الاجتماعي الديمقراطية.
كان هناك صراعٌ فكري في الحزب الشيوعي السوداني نفسه، فقد ظهرَ فيه صراعُ البلاشفة والمناشفة! صراعُ المناضلين المعتمدين على سواعد الجماهير العاملة وعبر نضالها حتى تغدو السلطة تتويجاً لهذا الكفاح، وهذا هو التوجه البلشفي. في حين يمضي التوجه المنشفي للاستعانة بالانقلابيين العسكريين وبالقوى العليا من أجل الإسراع بالتحولات!
يتصور التقدميون السودانيون أنفسهم هنا إنهم في دولةٍ شبهِ صناعيةٍ شبهِ متطورةٍ، ويصعدون على المسرح التاريخي وكلٌ منهم لبسَ عباءاتٍ تاريخيةً مهيبة، لكي يقفزَ إلى دورهِ العظيم ويحققَ الإشتراكية! وقد نسوا المهمات الحقيقية البسيطة والعظيمة والصعبة جداً كذلك في مثل هذا الواقع الشديد التخلف.
يتصور عبدالخالق محجوب بأنه لينين آخر، وإنه سوف يهزمُ المنحرفين والانتهازيين داخلَ الحزب، ليجمع مختلف القوى ويحقق الثورة المنتظرة الديمقراطية أولاً ثم الاشتراكية ثانياً على السياق السوفيتي.
لكن الدكتاتور النميري تشبع بأدبيات المرحلة بشكلٍ أكثرَ سرعةً وخفة وفجاجة وفساداً، فقد خطفَ (الثورة) المزعومةَ من خصمهِ اللدود، ثم راح يقفز بها من كارثة إلى أخرى، ففي الذكرى السنوية الأولى لانقلابهِ قام بالتأميمات لكافةِ الشركات الكبرى والعديد من المتاجر والدكاكين. وبهذا فقد حقق الإشتراكية كما يتوهم وقد أعطته هذه التأميمات مزيداً من القوة والتمدد وكسب الانتهازيين.
وهذه مثل ثنائيات أخرى كثنائية الحزب الشيوعي العراقي والبعث. أو بن بيلا وبومدين، أو ثنائية عبدالناصر واليسار المصري الخ.
ولم يعارضْ الحزبُ الشيوعي فكرةَ الإشتراكية أصلاً، بل عارضَ سوءَ تطبيقاتِها ولعدمِ قيامِها على أسسٍ قانونية معتدلة، ولحدوثِ الفساد الكبير فيها، وكأنه لو طبقها الحزب نفسه لاستطاع أن ينجو بها، ويأخذها إلى التطبيق الصحيح.
دون أن يقرأ بأن فكرةَ الاشتراكية نفسها غيرُ ممكنة في مجتمعات شرقية متخلفة ، وإستبدادية، ودينية غير عقلانية، وغير رأسمالية متطورة!
وهو أمرٌ يعودُ للقراءة الماركسية – اللينينية الدينية المقدسة.
فلحظةُ عبدالخالق محجوب هي لحظةٌ إستعاديةٌ لينينية، وهي قابُ قوسين أو أدنى من الثورة العمالية الموعودة، أي أنه على العكس كان ينبغي قلب مثل هذه اللحظة، وضرورة نقد هذه الفكرة وإستمرارا النضال الديمقراطية من أجل سودان رأسمالي ديمقراطي موحد متطور، فخلق مثل هذه التراكمات الديمقراطية هو الذي سوف يطور الحلفاء ويوجه التغيير نحو الظروف الإقطاعية السائدة، ويوجه العمل لتغيير الثقافة الدينية والسحرية، ونشر التعليم والتصنيع، ومحو الأمية، وتغيير حياة الأغلبية الفقيرة.
لقد رأينا إنه في الوقت الذي وجدنا جماهير الإقطاع الديني تحتشد للدفاع عن زعمائها وتلبية لنداءاتها في تلك الجزيرة المجزرة، أو في ما تلاها من أنشطة سياسية ختامها كان ثورة الإنقاذ الكارثية، في حين إنه حين ذبح الزعماء التقدميين، أو قيام فصيل منهم بإنقلاب ضد النميري عبر إنقلاب هاشم العطا وإفشاله لم نلحظ حراكاً وأسعاً للجماهير العمالية طليعة الثورة الاشتراكية؟!
كانت التحركات الكثيفة للجمهور الديني الذي لم يشتغل عليه التقدميون وتركوه غنيمة وفريسة للإقطاع، هي الكثيفة، وهي التي أكدت نفسها وصعّدت جماعاتها لتستغلَ فراغَ غياب التقدميين الحاد والمأساوي، وكذلك رأينا صعود القطعات العسكرية، والطائرات المصرية والليبيية التي ضربتْ الانقلابَ وأعادت النميري في حلةٍ جديدةٍ من الوحشية، وبهذا فقد قدمت القيادةُ الحزبيةُ الشيوعيةُ طلائعَها التي تعبتْ في تشكيلها عبر عقود وجبةً سهلةً للقطعات الحربية الأجنبية المتدخلة المغيرة ولجماعات النميري التي حُررت من الأسر السهل.
فيما تُركت الأرض السودانية الاجتماعية للقوى المذهبية والإقطاعية والعسكرية، دون أن يكون ثمة تنظيم تنويري ديمقراطي يوجه الناس نحو حل المشكلات المحورية مثل الطائفية والأمية وأشد حالات الفقر والفساد وتنمية الوحدة الوطنية والليبرالية والديمقراطية.
إن الهزائم والانكسارات السياسية الحادة لها نتائج وخيمة فيما بعد وهي تتطلبُ جهوداً وتضحياتٍ أكبرَ لتجاوزِها، وخاصةً على مستوى تطوير الرؤى، فتجاوز النسخة الماركسية الاستيرادية يتطلبُ قراءاتٍ عميقةً للواقع، ودراسةَ الإسلام والمسيحية وخلقَ مستويات إجتماعية عقلانية ديمقراطية فيهما مع إستمرار المادية الجدلية في نشاطها الإنتاجي البحثي السياسي، وبضرورة تطوير القوى المنتجة الخاصة والعامة، فلم تعدْ الدولةُ السودانية مثلما كانت في فضاءٍ عسكري محض، بل غدت دولةً شمولية ذات ملكية إنتاجية وقوة إقتصادية وإجتماعية هامة مثل العديد من الدول الشرقية التي تجاوزت فضاء الستينيات (الحر) بُعيد الاستقلال، ويحتاج تجاوز شموليتها إلى صعود كبير للرأسمالية الخاصة المنتجة، ووحدة المنتجين.

#السودان #عبدالخالق_محجوب #الحزب_الشيوعي_السوداني Sudan#

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 24, 2023 15:02
No comments have been added yet.