الوعي والمادة

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد بدأ العرب يقاربون الحضارة الحديثة منذ أن تفتحت عيون المثقفين في النهضة الحديثة، ومن ثم راحوا يراكمون وعياً جديداً مختلفاً عن (المادة) منذ الأنظمة الملكية الليبرالية فالأنظمة العسكرية الوطنية والثقافة التنويرية العلمانية وراح يتصاعد بتقطع وضعف دون أن قطع بجذورهم الإسلامية والقديمة والإنسانية.
وهذا التصاعد والتقطع والاستمرارية تعبر كلها عن حصيلة الصناعة والعلوم والحرية وعن جذور ضعيفة في حفر الأرض المادية.
لقد كان الحصول على معنى المادة ومعنى العلم وكشف سببيات الوجود لتلك القبائل التي خرجت من الجزيرة العربية أمراً صعباً محفوفاً بالمخاطر ولجماعاتٍ أميةٍ محدودة الأرث العلمي، والتي إنتجت منها فئات وسطى حرفية وثقافية في ظل الإمبراطورية وراحت تتساءلُ عن معنى الوجود وكيفية فهمه وكيف السيطرة عليه؟
إن الشعوبَ لا تفهم الطبيعةَ والمجتمعَ بشكلٍ مجرد سحري غيبي تلقائي عجائبي بشكلٍ أساسي، وإن كانت هذه هي المراحلُ الدنيا لتشكلِ العقول، لكنها تتجاوزها، لأنها ذات مستويات دنيا، ولاعتمادها على الحدس وهو أدنى أشكالِ الفكر وعلى التجارب البسيطة غير المعللة وغير المجربة تجريباً حديثاً.
لكن هذه الأشكال الدنيا ملاصقة كثيراً للعرب والمسلمين لأنهم في المستويات الدنيا من الإنتاجين الصناعي والعلمي، ومن هنا فالأشكال الأخرى من السحر والدين غير العقلاني تبقى مترافقةً مع هذا التطور ذي المستوى المنخفض.
ومن هنا كانت الجهود الجبارة للعلماء العرب والمسلمين في إنتزاع أسرار الطبيعة والمجتمع، وهم في بدايات الحضارة، وهو أمر مهدهُ علماءُ اللغةِ والكلامِ ثم الفلاسفة، الذين وضعوا جميعاً القواعدَ الأولى لبناءِ العقلية العربية الموضوعية النقدية، التي تراكمُ لبناتِ المعرفةِ الموثَّقة، والتي تكشفُ خلايا المادةِ وعملياتِ التغلغلِ فيها بشتى أشكالِ تمظهراتها، سواءً كانت جسم إنسان أو حيوان أو أشياء مادية بمختلف حالاتها، أو كانت كوكباً أم نجماً.
ولا تنفصلُ العلومُ الإنسانيةُ هنا عن العلوم الطبيعية، بل كانت هي مقدمتها، فتطورُ علومِ النحو والصرف والبيان ودراسة جذور اللغة وحياة العرب الاجتماعية، قادَ إلى وضعِ لغةٍ كبيرة ذات إمكانيات تعبيرية وإشتقاقية حيوية تحت تصرف علماء الطبيعة والرياضيات والطب والفلك والكيمياء وغيرهم.
فتغيرت الرياضيات بداية من تغيير الأرقام إلى جعل الصفر فيها وجعلها بالتالي سهلة ولا نهائية الحساب، لأن المادة لانهائية، وعبر الجبر تم إظهار الكم المجهول من الكم المعلوم، فغدت الرياضيات أداةً أخرى، وتطورت الهندسة الأقليدية، خاصة عبر التلاقح مع الثقافة اليونانية، ثم بدأت الكيمياء والفيزياء بالتطور مع تطور الحرف والصناعات.
لكن هل تنفصل العلوم هنا عن الشعوذة خاصة مع هذه النشأة الأولى الضعيفة؟
(أخذ جابرٌ«بن حيان» مادة الكيمياء – كما هو معلومٌ – من مدرسةِ الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانيةِ انقلابِ العناصر وتحولها بعضها إلى بعض، وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآدابَ السحريةَ والتصوف والروحية الإيرانية)، (الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط2، 1988، ص 315).
إن إمكانياتِ الوصولِ إلى الأبعادِ المتعددة للمادةِ مسألةٌ مرهونةٌ بقوى الإنتاجِ السائدة في المجتمع وتجلياتها في البحثِ العلمي خاصةً مدى تقدم الحرف ومن ثم وجود معامل الإختبار، وظهور وتعمق تخصصات العلماء، وتنوع أدوات السبر والصهر والتحليل المختلفة.
ولهذا فإن حدوثَ جدلٍ عميقٍ بين الصناعة والعلوم لم يحدث:
(مزجَ العلماء العرب والمسلمون الذهبَ بالفضة، وإستخدموا القصديرَ لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية، وإستخدموا خبرتَهم الكيمائية في صناعةِ العطور ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع..) الخ، الموسوعة العربية العالمية، ص 460.
لنلاحظ هنا كيف أن منهجيات البحث العقلي كانت محدودة وكذلك فإن توجه الطبقات الحاكمة للاستئثارِ بجانبٍ كبيرٍ من الفيضِ الإقتصادي، وجهَ الصناعات نحو الصناعات الاستهلاكية التابعة للقصور وكبارالتجار، مثلما أن الحركة الفلسفية لم تقمْ بتحليلات عميقة للمواد الطبيعية والاجتماعية.
إن المادة هنا باعتبارها مواداً وكواكب ونجوماً، أي مادةً كونيةً، لم تتغلغلْ الأبحاثُ فيها، فجثمت أشكالُ الوعي العربي العلمية على سطوح المواد والعمليات، وهي الموادُ المقاربةُ للاستهلاكِ أو للصحةِ الجسدية البسيطة، أو للتنجيم، وهو الثقبُ الأسودُ الذي إنهالتْ فيهِ موادُ الخرافةِ الواسعة وبلعتْ العقولَ والحضارة العربية.
وحتى شبكة العلوم الطبيعية كانت خاضعةً لأهدافِ الطبقاتِ العليا، فالطبُ والتنجيمُ والصيدلةُ يتمُ الصرفُ عليها، في حين لا تحظى علومٌ أخرى بمثل ذلك.
إن أشكال الوعي من دين وفلسفة وعلوم لم تستطع أن تصل إلى المادة إلا بمستويات محدودة وعجزتْ عن كشفِ تنوعاتِها والوصولِ إلى مكوناتِها الأصغر، وفي مختلفِ تجليات المادة الحية والجامدة على السواء، كما لم تصلْ – تلك الأشكال- إلى فهم عمليات المادة الأكثر تطوراً وهي الحياة الاجتماعية البشرية ونتاجها الأعمق وهو الظاهرات الفكرية.
ومن هنا فقدتْ مفاتيحَ إستمرار النهضة والتقدم وتوقفت وتخلفت.
إن أحجامَ إكتشاف المادة في الحضارتين الكبريين الإغريقية والعربية والحضارات الأخرى كذلك مثل الصينية والهندية، لم تصل إلا لكشف سطوح المادة، لكن في الحضارة الغربية التي تصاعدت منذ القرن الخامس عشر بدأت ظروف جديدة تتشكل، فقد أزيلت الدولة الكلية الإستبدادية وأُبعدت أحجارُ سيطرتِها وهي الأديان الكاتمة على حريات العقول وإنفتح المجال للتجريب العلمي الحر.
لكن ذلك إستغرق زمناً طويلاً وبتفاعل البُنى الاقتصادية والفكرية لكل المجموع النهضوي الغربي، بحيث تمَ تجاوزُ الحرفةَ، بظهورِ الصناعتين اليدوية فالآلية، والأخيرة هي الذروة ولأول مرة في التاريخ، وبهذا فإن المادة بمختلف تجلياتها الكونية والأرضية وُضعت تحت أصابع وعيون البشر لتفحصها، بشكلٍ تاريخي متدرجٍ يعكسُ تطورَ الصاعاتِ والملاحةِ وسيطرتهم على الأشياء والمنتجات والخريطة الأرضية.
إن الأجسامَ الفضائية كالكواكب والنجوم أُعيد النظر إليها، ورئُيتْ حركةُ الأجسام الكوكبية بشكلٍ صحيح، فبدأت المناظير تتجه إلى المواد الأصغر فالأصغر، دون أن يتوقف تحليل المواد الكبرى.
وهذه المراحلُ الأولى من الإكتشافاتِ الجغرافية والصناعة أعطتْ إقتراباً من الأجسامِ الفلكية الكبرى وساهمَ ذلك في إستعادةِ وحدةِ الكرة الأرضية، وبتواضعِ الأرض في المجموعة الشمسية لكنها صارت أقوى، ودخلتْ في تشكيلةٍ تاريخية جديدة هي الرأسمالية جعلتْ المادةَ البضائعية هي محور الاقتصاد والمعامل.
أعطت هذه المرحلة تغلغلات كبيرة في المواد الصناعية، فتمكن تشارلس داروين من فهم سببيات تطور الأحياء، وكشف كارل ماركس مادة البضاعة وتناقضاتها الاجتماعية، وهو مستوى لا يعود للبيولوجيا بل للعلوم الإنسانية، وتغلغل فرويد في فهم مادة العقل وطبقاته في الوعي واللاوعي إضافة لعلماء آخرين كشفوا جوانب أخرى من هذه المادة المُـفَّكرة، وهذه كانت ذروة العلوم في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
في القرن العشرين تعرت المادة تعرية واسعة جداً، إتسع الكون إتساعاً عظيماً، ورُئي كمجراتٍ تشكلتْ في الانفجار العظيم، وهو الكون المرئي التاريخي لنا، أي كوننا، لأنه من الممكن أن تكون هناك أكوان أخرى، وكذلك فإن مادة هذا الكون دُرست وحُللت.
(المادة في الفيزياء الكلاسيكية هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيزاً من الفراغ)، الموسوعة. لكن هذا هو الشكل الكلاسيكي للمادة فقد تداخلت المادة والطاقة، صارتا نوعاً واحد بوجهين.
وكما أن المادة لانهائية في الكبر فهي لا نهائية في الصغر، والحديث عن وجود حدود لها هو مجرد ظن:
(تتكون المادة من جسيماتٍ بالغة الصغر تسمى الجزيئات، وهي عبارة عن تجمعات لجسيمات أصغر هي الذرات. وتلك بدورها تتكون من جسيمات أصغر. ويُعتقد حالياً أن المادة تتكون من أجسام صغيرة جداً لا تتجزأ، حيث أنها لا تتكون من جسيمات أصغر بل هي أصغر شيء. وتـُسمى هذه الجسيمات بـ”الجسيمات الأولية”، ومع هذا فليس من المُثبت بعد أنها فعلاً أصغر الأجسام المكوّنة للمادة.)، موسوعة
كشفتْ المادةُ عن كونِها حركةً صراعية، فأجزاء الذرة الداخلية متضادة، دائبة الحركة، والمادة الطبيعية الكونية في صراع دائم بين مكوناتها وفي العلاقات بينها، وهي في حالة سيولة دائمة من الحركة.
المادة هي جزء من كوننا، ولا يُمكن إطلاق هذا المطلح على ما وراءه. ويُعتقد حالياً أن المادة تـُشكل 27% من كلتة الكون، 4% فقط هي المادة الطبيعية، والتي تنقسم إلى نوعين رئيسيّين: مادة مضيئة وغير مضيئة، وتــُشكل الأولى 0.4% من كتلة الكون، في حين أن الثانية تـُشكل 3.6% من كتله. أما الـ23% الأخرى فهي المادة المظلمة، والـ73% الباقية هي الطاقة المعتمة.
ليست قدرات العلوم الغربية وإمكانيات الثورة التقنية التي عصفت بالقرن العشرين هي مجرد إهرامات من الأفكار المجردة بل هي تحولات كبيرة في العلاقات الدولية قادت إلى إنقلاب أوضاع الدول وتأكيد الغرب لقيادته للمسيرة العالمية تبعاً لمصالحه ومن خلال موقعه المتميز، وبالعصف بنظم ماقبل الراسمالية والرأسماليات الحكومية الشرقية.
لقد برز صراع العلوم والثورة المعلوماتية والتقنيات الغربية في مواجهة وأمية العالم الثالث وتخلفه الثقافي ومحدوديته العلمية وتبلور في كونهِ صراعَ أساليب إنتاج وثروات تنتقل من جهة الشرق لجهة الغرب، فقد بلغ نسبة إنتاج العالم النامي 7% من الإنتاج الصناعي العالم، وبلغ حجم ديونه 2 تريليون دولار، رغم ضم هذا العالم النامي 70% من سكان العالم.
إن مجموع الارباح التى حولتها الاستثمارات الغربية لبلادها قد بلغ 139,7 بليون دولار خلال عقد 1970 – 1980.
فليست الثورة العلمية والتقنية هي مجرد أفكار مجردة، وليست هيمنة العلوم على المواد، هي أشكال ثقافية، بل سيطرة على المواد الخام، والاستثمارات والثروة المعرفية الجديدة.
إن عجز العالم النامي، ومنه العالم العربي، هو في أبنيته الاجتماعية – الثقافية المتخلفة، فعقلنة العالم وقراءاته السببية والقانونية، تترافق مع تغيير العلاقات بين الثقافة والتربية والتعليم وبين الإنتاج، مع تغيير الهياكل الاجتماعية الذكورية، مع تغيير الهياكل الحكومية البيروقراطية، مع الإنتقال للديمقراطية.
إن الثورة العلمية والتقنية الغربية تتغلغل كذلك في تغيير المواد التي ينتجها العالم النامي كذلك، فهي تطيح باقتصاده التقليدي كذلك:
(ومن الأمثلة على الصناعات التى قامت على الهندسة الوراثية (التكنولوجية الحيوية) والتى تم بها ايجاد منتجات تحل محل الانتاج الزراعي في العالم المتخلف التوصل الى انتاج النيلة(منتج صناعي يُستخدم في الصباغة) التى تنتجها الهند، وانتاج خيوط مخلقة لتحل محل السيزاك والمطاط، وانتاج حبوب الفانيليا بدلا من الطبيعية التى تنتجها مدغشقر وإنتاج حوالى ثلاثين بديلاً للصمغ العربي الذي ينتجه السودان)،(تاج السر.
إذا قرأنا هذه التحولات العاصفة الغربية وإنعكاساتها على المستوى الفكري، وربطنا بين إنهيار العقلانية العربية بعد ابن رشد، وعجز القوى الفكرية المختلفة عن العودة حتى إلى هذه العقلانية الفلسفية الدينية المثالية، فسوف نرى إنهيار المجتمعات العربية وعجزها عن الارتفاع لتحديات العلوم الغربية وثورتها المشار إليها، فغياب العقلانية الفلسفية يشير إلى عجوزات مختلفة؛ عدم القدرة على نشر التصنيع وخلق قوى عاملة متقدمة ماهرة تقنياً، وضعف وعي النساء وحضورهن التقني والعلمي، وهيمنة الثقافة السحرية على الوعي العام الخ.
أي أن الحضور العربي الراهن هو بسبب إنتاج المواد الخام الثمينة وأهمها البترول، الذي يجعل العديد من الدول العربية لا تعلن أفلاسها وإنهيارها الاقتصادي، ولما سببه البترول من حراك إقتصادي شمل دولاً عربية عديدة كذلك.
وقيام الاقتصاديات والأبنية الاجتماعية العربية على إقتصاد نفطي يؤكد غياب العرب عن ثقافة العالم المعاصر العلمية، وتشكل هذا العالم على الوعي غير العلمي.
فليس الوعي بالمادة كرؤية فلسفية مسألة تجريدية، بل تتعلق بصميم التطور البشري، فحين يرفض أبوحامد الغزالي السببية في زمن الثقافة العباسية، ولا تدخل هذه كرؤية شاملة في مختلف تجليات الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، وأن لا تزال هذه الرؤية سائدة في الثقافة العامة، فهذا يظهر الفرق بين ثقافة غربية أحتوت عالم المواد وصنعتها كذلك وبين ثقافة لا تزال تعيش على الحرف وإنتاج المواد الخام.
لقد غدت هذه الثقافة الغربية التقنية تدخل إلى نسيج المواد وتغير تركيبها الطبيعي، وقد أمكنها صناعة الخلية الحية والقيام بالاستنساخ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 23, 2023 00:41
No comments have been added yet.