جمعية التجديد الثقافي
منذ أن ظهرت جماعة التجديد من أقبية السجن المكلل بالمعاناة وهي محط اشتباه عند الغالبية العظمى من الجماعات السياسية الشيعية، بسبب النشأة الغامضة للجماعة في أتون السجن ودعوتها لأشياء جديدة لا تتوافق مع الجو السياسي العاطفي الساخن لدى هذه الأغلبية. ظل أصل النشأة غامضاً، لكون الجماعة لم تصدر شيئا تاريخيا بهذا الصدد، فظهرت شائعات كثيرة أغلبها يربطُ الجماعةَ بمؤامرة بهدف زعزعة الصف الشيعي المتماسك الموحد. واعتبرت هذه الشائعات أن تكوينَ جماعةٍ سياسية تزعمُ الاتصالَ بالمهدي وأنها طليعة لقدومه العظيم، هو خطة مدبرة دقيقة، ولكن ما قـُدم من قبل الرافضين لهذا التشكل لا يعدو أشياء عجائبية لا يصدقها العقل، مثل أن زعيم الجماعة كان يُظهر معجزات بالاتفاق مع إدارة السجن، لكي يرتفع في نظر اتباعه القلة وقتذاك، الذين تضاعف عددهم بعد الخروج من السجن.
وإذا كان ذلك صحيحاً على هذا الافتراض فإنه من الصعب التصديق بأن هذه الجماعة هي مؤامرة بهذه الطريقة، فقد توجهت لإنتاج الفكر وإصدار الكتب وعقد الندوات وتوفير أجواء من البحث، من دون أن تكون كل هذه الثمار المتنوعة بمثابة (مؤامرة). ولا يمكن لمشعوذ مهما كانت قدراته أن يخلق تيارا فكريا. وإذا قال معارضو جماعة التجديد: إنها مؤامرة موجهة لتفتيت الصف الشيعي فإننا لم نجد شيئاً مسيئاً للشيعة أو لغيرهم من المسلمين في هذه الأدبيات.
أما إذا قيل: إنها جماعة موالية للسلطة فلماذا لا يُسمح بظهور جماعات سياسية موالية للسلطة؟ ولماذا لا تظهر جماعاتٌ أخرى محافظة معارضة؟ لكن لا توجد كذلك أدلة على موقف سياسي محدد لجماعة التجديد، فهي أقرب لجماعة فكرية تتسم بمرونة سياسية وببعد نظر ثقافي ولا تحشرُ نفسَها في زاوية، صحيح أن أطروحاتها الاجتماعية ضد الفقر والبطالة والاستغلال غير مرئية، لكن ذلك أيضاً هو موقف اجتماعي هي حرة في انتهاجه. والمهم هنا أنها تدعو إلى أفكار بالكلمة وهذا هو المميز، أما المواقف الفكرية فلها حساب مختلف.
إنها تطرح الاختلاف وتجتهد في البحث وهذا لا يضر أحداً لأن القضاء على الفكرة يتم بالفكرة لا بالقبضات القوية والعصي. وتبدو الجماعات الكبيرة المعادية لجماعة التجديد في وضعها الفكري المحافظ غير راغبة في اثارة أي جدل فكري، وهي تغلق الأبواب في بحث تاريخ الأديان والأفكار، وهذا ليس من حقها، بل من واجبها إطلاق حرية البحث حتى فيما يتعلق بالمذهب الشيعي نفسه، فهو ملكٌ للمسلمين وليس فقط حكراً عليها.
لكن جماعة التجديد في كتبها وأوراق بحوثها الكثيرة ومقالات أعضائها تتجنب الصراعات وتمتنع عن الإثارة كما هو الحاصل في بقية التيارات، ربما لإدراكها صعوبة مثل هذه الإثارة في وسط ديني محافظ، كما أن خطوات التجديد في الوعي الديني بحاجة إلى الحصافة وبعُد النظر والهدوء، فهذه مقدسات الناس وليست تجارة بضائع، وهو ما التزمت به الجماعة.
وهي لها حق الاجتهاد والتأويل في الموروث الديني من دون أن تلزم غيرها به كذلك. ونريد من يتهم هذه الجماعة بذلك أن يضع بين أيدينا دليلاً على إساءة الجماعة لرمز من الرموز الدينية، أو تحقيرها لعبادة وسوى ذلك من الأدلة، أما الاتهامات الجزافية فهو أمر خطر.
ان التركيز في لفظ (السفارة) وان الجماعة تزعم الاتصال بالمهدي عليه السلام وانها تمهد لعودته وغير هذا من الافتراضات، فلا يوجد دليل ملموس حول ذلك. لكن إذا خرجت الجماعات من أفق هذا التفكير النصوصي، ورأت ان رمزية المهدي أوسع من هذه المحدودية، وأنها رمزية خلقت ثورات فكرية وخصباً جدلياً وثقافياً كبيرين، فكم من ثائر قال ذلك، وكم من حركات في التاريخ الإسلامي الطويل نشأت على هذا التداخل بين الغيبي والواقعي، بل ان التاريخ الثقافي الشيعي نفسه مليء بمثل هذه الحركات.
وفي الثقافة السنية اندلعت ثورات كبرى وتشكلت مقاومة وطنية باسم المهدي، وكل هذا بسبب هذه الرمزية المتعددة الآفاق والاحتمالات، فيجب ألا تـُؤخذ بحرفية نصوصية وبانعدام للخيال الخصب والتأويل. ومن المؤكد أن رمزية الاتصال تعني تشكيل موقف سياسي ويجد القائمون على احتكار المعنى الرمزي أنه يجب ألا ينازعهم منازعٌ في هذا الاحتكار، ثم تم تحويل الصراع مع جماعة التجديد إلى هذه الجزئية الصغيرة وتم شحن العواطف حولها، ونسيان الجوانب الثقافية الأخرى، مما يؤدي إلى تحريض البسطاء الذين لا يعرفون أن المسألة ثقافية واجتماعية كبيرة، ذات أبعاد معقدة ومركبة، فيتم التركيز في تفصيل هدم المقدس والاعتداء على حرمة الدين. وحتى لو أن جماعة التجديد توجهت لهذا الهدم المزعوم فهل تستطيع أن تفعل شيئاً؟ هل تستطيع أن تزيل حجراً واحداً من هذا الإيمان؟ بطبيعة الحال هذا غير ممكن، ولهذا ما الداعي للخوف والتناحر؟
مشروع جمعية التجديد
حين أصدرت جمعية التجديد الثقافي مشروعها في عدة كتب تحت اسم «عندما نطق السراة»، أبهرتني الجمعية بهذا النتاج الثقافي، فلأول مرة يقوم مثقفون بحرينيون بإنتاج عمل فكري ثقافي واسع، خلافاً لكل الجمعيات السياسية التي دأبت على إنتاج الشعارات وتعطيل العقل المنتج الناقد، فلم يظهر لها إنتاج فكري متميز خلال العقود السابقة، وهو أمر كان يدل على سيطرة العفوية والتلقائية السياسيتين، في حين أن جمعية التجديد التي اختارت الظل قامت بما عجز عنه أولو القوة والبأس في هذا المضمار الفكري.
فهي قد مضت إلى أكثر جوانب الفكر صعوبة وهو مناقشة الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه المنطقة، خاصة أديانها، سواء كانت القديمة المتمثلة في الأساطير والديانات ما قبل التوحيدية، أو مناقشة الأديان السماوية، وقمتها العربية: الإسلام.
وقد ظهر ذلك فيى شكل ملتبس، أي عبر كتب بلا أسماء كُتاب، وقد خيل إلي أن جماعة التجديد تعيد إنتاج عمل إخوان الصفا، الذين قاموا في العصر العباسي بكتابة بحوثهم من خلال اسم جماعي، حذراً من السلطات السياسية والمذهبية المتعددة الجامدة الواقفة ضد كل تجديد.
ولكن هذا الحذر لا معنى له في العصر الراهن، بل من شأنه إخفاء جهود الباحثين، وتطورهم الفكري داخل جماعتهم، وإسهام كل منهم، ومعرفة المتقدم البارز من المشارك البسيط الخ.. وبالتالي تحديد خطوط التطور الفكري العميقة والإسهامات في بلورتها.
قرأت بعضاً من هذه الكتب، فوجدتُ نظرات مثيرة ومحاولة جريئة لتجاوز تناقضات المراحل الفكرية، فتلك الهوة بين ما قبل الأديان، وعالم الأديان، ما بين أسطورة مثل جلجامش أو تموز، وبين رموز الأديان التي لم يقبل الفكر الديني مناقشتها، بل إنه اعتبر العالمَ الفكري القديم عالماً وثنياً جديراً فقط باطمس والإلغاء، إن هذه النظرة الدينية التقليدية تم نسفها في مطبوعات جمعية التجديد .
كذلك فإن الخلاف الطويل بين الدينيين عامة سواء كانوا يهوداً أم مسلمين الذين يرجعون أصل الأنسان إلى السماء، وبين العلميين الذين يرجعون التطور إلى ظروف البيئة البحتة من دون تدخل غيبي، قامت الجمعية كذلك بإيجاد مخرج له هو الآخر.
وسلسلة التخريجات لبؤر التضاد الحاد بين الوعي الديني والوعي العلمي، تمتد إلى إلغاء التضاد بين الدين والعلم، وبين الشريعة والحداثة الخ..
ومهما كانت طبيعة هذه التخريجات فهي تغدو بادئ ذي بدء مبعث تقدير بأن أناساً مجهولين (لم يشيروا إلى أسمائهم تواضعاً) قاموا بهذه المأثرة، وهي الدخول في قضايا المنطقة التراثية بكل الغامها وقاموا بالبحث الطويل الموسع فيها.
وهي مأثرة بالنسبة إلينا نحن البحرينيين أن يقوم مواطنون لنا بمثل هذا الجهد الفكري الطويل والعميق وبنكران ذات وبتوجيه الوعي نحو التحديث والتطور مع وجود كل دوائر التعصب والإلغاء.
والدهشة تتشكل بسبب أن المثقفين في جمعية التجديد لم تظهر لهم أبحاث مستقلة سابقة، أو لم يُعرف لديهم باحثون نشروا كتباً في هذه الجوانب العويصة حسب علمنا، التي تحتاج إلى سنوات طويلة من القراءة والبحث، ثم فجأة تصدر كتبٌ موسوعية تحلل الخليقة في مراحلها القديمة كافة معتمدة على التراث الديني، فذلك أمر يدعو إلى العجب بأوسع معانيه.
لأن التجديد يحتاج إلى تراكم ثقافي وتجريب وشخوص كتابية محددة، وإسهامات أولية وتعديلات وأخطاء وخبرة الخ.. أما أن يظهر مشروع هكذا ناجز خاصة في طوره الديني القديم المتعلق بالأديان وتاريخ المنطقة، فهو أمر يحتاج إلى حيثيات وتأريخ وأدلة.
والمؤكد أن بعضاً من جماعة التجديد عاشت في السجن؛ فقرأت كثيراً وتأملت، فالسجن مدرسة كبرى، وهذا المنحى التجديدي المعارض للسيطرة الدينية التقليدية، لا يتشكل إلا في مثل هذه المناخات، وأنا لا أنكر حتى عمليات الهرطقة التي تحدث كثيراً في المجموعات الدينية، حين تزعم الاتصال بالغيب الألهي؛ بهذا الشكل أو ذاك، فهذه ثورات وطفرات معبرة عن صراعات في الوعي الديني، يبحث من خلالها عن استقلاله الفكري، ويكوّن فيها جماعته المميزة ثم ينخرطُ في السيرورة القانونية للفكر الديني نفسه مع معارضته التي حصل عليها بتضحياته.
إن جماعة التجديد إذن دخلت منطقة مليئة بانواع الألغام كافة، فحين اختارت الانفصال عن التفكير المذهبي السائد في جماعتها، اختارت الصراع والاختلاف، وبالتالي شكلت انشقاقاً، ومهما كانت خلفية وجذور هذا الانشقاق، فلا بد أن تكون له رؤيته، فهل هو انشقاق لتحطيم الجماعة أم هو لتطويرها؟ هل هو عمل نضالي لتغيير حياة الجمهور من تخلف واستغلال وعبودية ثقافية أم هو لتكريس هذه الجوانب؟
وبطبيعة الحال فإن الانشقاقات والصراعات الدينية الفكرية غالباً ما تقوم على أرضية الفكر الديني الواحد، فهي لا تنفصل عنه، بل تشكل رؤيةٍ جديدة داخله، وياخذها التيارُ السائد باعتبارها جريمةٍ وتمزيقاً للجماعة، في حين يعتبرها التيار الآخرعملاً تغييراً ونهضويأً واتساعاً لأفق الجماعة بطرح بدائل أخرى.
والجماعةُ التقليدية هنا لا تواجه انشقاقاً على مستوى الفصائل السياسية، التى هي متعددة، بل تواجه انشقاقاً في الرؤية المذهبية ذاتها، في كيفية رؤية العقيدة، فتراه الجماعةُ المنشقةُ باعتباره إصلاحاً على طريقة مارتن لوثر البروتستانتى في مواجهة كنيسة البابا، في حين تراه الجماعة التقليدية انحرافاً وخطراً على الإيمان والعقيدة وتحول مارتن من مصلح إلى كافر ومنبوذ!
ونحن علينا أن ندرس، لا أن نحابي أحد الطرفين، فالدرس الموضوعي يقيد الجانبين.
ولهذا فإن الجانب القديم، جانب القوى الدينية السائدة، يرى عمل المنشقين، ذا طابع سياسي تفكيكي للجماعة، هدفه زعزعة الطائفة، في موقفها السياسي المتحد. فيغدو لديها تاريخ الجماعة المنشقة، وهي هنا جماعة التجديد، جماعة (مندسة مغرضة)، فتدخل عمليات التصوير البوليسية لتاريخ الجماعة المنشقة، وأنها مجرد زرع، لا أصول ولا جذور لها في تاريخ الطائفة. وأنها هي الجماعة الأصيلة النابتة في الشرعية (وهناك مسلسل قصصي في هذا).
وعمليات التصوير البوليسية هذه، لا تستطيع أن تبرر مهما تشكلت بدلة حقيقية أو موهومة، نمو جماعةٍ فكرية ما، فكلُ الجماعات المنشقة وكلُ الأحزاب التي صارت ظاهرات كبرى فيما بعد، كانت جماعات منشقة، وكل الملل والنحل، كانت في بدئها انحرافاً، ومهما كان الزرع اصطناعياً فإنه إذا وجد تربةٍ موضوعية للنمو سوف ينمو، فالمشكلة تعود الى التربة نفسها، وتقبلها للأفكار المنشقة واحتضانها لها!
ونحن لا ندافع عن عمليات الزرع في أجسامنا السياسية التي هي متعددة وكثيرة، بل نقول إنها لا تبرر نمو الفكرة وتوسعها.
وبطبيعة الحال فإن خيارات الجماعة الجديدة لا يمكن أن تفلت من الصراع السياسي الذي ظهرت فيه، فإن التجديد إذا اختارت الاقتراب من الليبرالية السياسية، ومن طرح سياسة وطنية لا طائفية، فهذا أمر يظل يُدرس فى إطار هذه الليبرالية الدينية، وإذا اختارت الطرح العقلاني فهذا يظل مدروساً في ظل هذه الدائرة، فتظل الخيارات السياسية في نهاية المطاف هي التي تحدد مدى عمق هذه الليبرالية، هل هي تصطدم بالقوى المتنفذة في الثروة العامة؟ هل تدافع عن الطبقات المحرومة؟ وفي أي عمق واتجاه تشكل ليبرالتها الدينية هذه هل هي بالانفصال عن الدوائر البيروقراطية الاستغلالية أم معها؟ هل تفضح الفساد أم تدافع عنه حتى بالسكوت؟
إننا لا يمكن أن نضع جماعةٍ ما في دائرة مغلقة، فنحكم عليها بالخيانة الأزلية، أو النظافة المطلقة، فالجماعات الفكرية السياسية خاضعة لحراك لا يتوقف، فقد تبدأ جماعةٌ بالوطنية وتنتهي بالطائفية أو العكس، وقد تبدأ جماعةٌ بالدفاع عن المستضعفين وتنتهي كجلادين لهؤلاء المستضعفين أنفسهم! ويتحدد موقفنا من أي جماعة عبر شريط ممارستها الطويل، وكيف تصوب برامجها تعبيراً عن القوى الشعبية ومطالبها، فهل تغوص نحو المضمون النضالي للجمهور أم سوف ترتدي عباءات اللغة والمذهب لتدافع عن اللصوص؟
ومن هنا إذا أردنا معرفة مضمون أي جماعة فعلينا أن نقوم بقراءة وثائقها، وهذه جماعة أصدرت كتباً فعلينا بقراءتها قبل أن ندمغها، بل علينا أن ننتظر تطور مفاهيمها ونرى ممارستها على الأرض.
علينا أن ندخل إلى صلب رؤية جمعية التجديد في بعض القضايا الكبرى التى طرحتها في كتبها، والتي عنونتها بعنوان رئيسي وهو (عندما نطق السراة)، ففي أحد كتبها وهو بعنوان (التوحيد: عقيدة الأمة منذ آدم)، ترفض الجمعيةُ الفكرةَ الموضوعية المنتشرة في أغلبية كتب البحوث بأن الإنسان تدرج طويلاً حتى وصل إلى عبادة الآلهة ثم الإله الواحد، وتصر في هذا الكتاب على أن الإنسان كان توحيديا حتى وهو في أول ظهوره وتخلفه، وهى تفند دراسات الباحثين التحديثيين العرب والأجانب بهذا الصدد كإسماعيل مظهر أو عباس محمود العقاد أو محمد شحرور. يقول العقاد حسب استشهاد الجمعية: (يعرف علماءُ المقابلة بين الأديان ثلاثةَ أطوارٍ عامة مرت بها الأممُ البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب، وهي دور التعدد، ودور التمييز والترجيح، ودور الوحدانية)، (ص ١٤ – 15)، ويضيف العقاد حسب استشهاد الجمعية رابطاً الأديان بظروف الحياة الاجتماعية: (ترقي الإنسانُ في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات. فكانت عقائدهُ الأولى مساويةٍ لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات)، ص 14.
ثم تفند الجمعيةُ أقوالَ العقاد فتقول: (فالعقيدة في نظر العقاد إنتاج بشري وليست وحياً سماوياً، تطورت الوحدانية بمرور الأزمان كما تطورت العلوم!)، ص16 .
وهي هنا لم تفهم الوحي والتطور كما عرضهما العقاد والمثاليون الموسوعيون عموماً، فالوحي لا يتشكل في الهواء، بل هو يتمظهرُ ويتجسدُ في البشر واللغة المحددة وفي الظروف والصراعات البشرية؛ وهو جدل اجتماعي بين الغيب والإنسان، بين النبوة والجماعة، بين الإله والواقع الخ..
لكن الجمعية تضع الأفكار الدينية في المطلق، بلا جذور اجتماعية وبلا تاريخ. وتركز على قراءة التاريخ الغيبي في النصوص الدينية المفصولة عن زمانها ومكانها. ثم تحاول أن تجد كذلك جوانبَ إيجابية وتقدمية داخل هذه النصوص المقطوعة الصلة بالبناء الاجتماعي.
فالتوحيد لديها كان موجوداً حتى عند الإنسان البدائي، وهو نظرٌ لا يصمد لأي تاريخ ثقافي، وهي ترى التوحيدَ وكأنه هو التاريخ الديني العربي وحده، لكنها كالباحثين القوميين الخياليين تعتبر أغلب سكان المنطقة عرباً وأن حضاراتها عربية، وهو أمر لا يصمد للتحليل الموضوعي كذلك؛ وهو فهمٌ روج له العروبيون المتطرفون ويعتبر أحمد داود الكاتب السوري المتعدد المواهب نموذجاً له، والجمعية تستشهد به كثيراً.
نقول الجمعيةُ (هكذا بدأت حياة الإنسان على هذه الأرض بالتوحيد لله الواحد الأحد)، واستمرت عقيدة التوحيد في هذه الأمة (حين تحولت من حياة الكهوف والتقاط الثمر، إلى استئناس الحيوانات و تدجينها بالرعي)، ص٢٦.
فأي أمة هذه؟! فلم توجد أي أمة عربية أو غير عربية حينئذٍ، بل جماعات بدائية متوحشة، وقبائل صغيرة، تعبدُ الأرواحَ والحيوانات الخ.. وبعد آلاف السنين بدأت رحلة الحضارة وتشكلت الأديان بتعددية آلهتها.
إن هذا ما تطرحه البحوث وقد أصبحت بديهية لا يجادل فيها أحد. ثم تدخل الجمعيةُ آيات القرآن في هذا المسار الخيالي الذي تشكله بصورة غير موضوعية. وهي تظن أن آيات القرآن هذه تنقض ما أجمعت عليه التواريخ والعلوم. في حين أن آيات القرآن المتعلقة بالتوحيد تتحدث عن تاريخ العرب في المنطقة وفي الجزيرة العربية فقط، حيث بدأ التوحيد في قمة الحضارة المصرية والذي تأثر به اليهود وشكلوا منه ديانة توحيدية، انعطفت إلى الجزيرة العربية وبدأ التوحيد حينئذٍ.
لكن حتى هذا المسار المعروف تحاول أن تنقضه جمعية التجديد في كتابها هذا، فالمصريون كانوا موحدين في تصورها منذ البداية وهي تستنكر ما هو بديهى بسخرية فكأن الباحثين زعموا على حد قولها: (إن الحضارات العربية القديمة في مصر أو بابل تعجُ بالآلهة والأوثان كالإغريق والرومان!). لكن هذه بديهية لا يبادل فيها طالب.
ولديها على العكس إن الفراعنة والبابليين كانوا موحدين، فلم الحاجة إذاً إلى الأديان السماوية وهي التتويج للسابقين؟! إنها تستند الى جمل صغيرة مقطوعة السياق من باحث أو اثنين لتعضيد ذلك الكلام غير الدقيق.
يتراوح خطاب جمعية التجديد الفكري بين تكريس النصوصية الغيبية وبين الآراء العلمية والنقدية الوامضة.
فهي تقول في مقاربة مع المنهجية الموضوعية:
( لقد نص «فرانسيس بيكون» على فكرة أن الإنسان لن يستطيع السيطرة على الطبيعة إلا عن طريق اكتشافها بالعلم، ولكن لكي يفعل ذلك ينبغي أن يخضع لها! بمعنى آخر: لكي نفهم القوانين التي تتحكم بالطبيعة ينبغي أن ندع الطبيعة تتكلم لا أن نتكلم عنها)، مفاتح القرآن والعقل، ص 8 -86.
وتكمل الجمعية في تلخيص مهم (القرآن والطبيعة والأنفس، أمرٌ واحدٌ، آيات ينبغي الخضوع لاكتشافها).
إن هذه الفقرة الجيدة وغيرها المماثلة هي اقتراب من مدرسة تقنين الطبيعة المخلوقة للذات الإلهية، بخلاف مدرسة الخلق الإلهي المستمر للطبيعة. وكلاهما مدرستان مثاليتان، لكن الأولى تؤمن بوجود قوانين موضوعية للطبيعة والوعي والوجود (مثالية موضوعية)، ومن أعلامها ابن رشد في حين أن الأخرى ترفض ذلك، وترفض وجود قوانين موضوعية ومن أعلامها الغزالي (مثالية ذاتية).
وفكر الجمعية حائرٌ بين المدرستين، فهو فكرُ يحاول أن يبحث عن موضوعية الوجود، ثم يضيف عليها الكثير من الغيبيات والإسقاطات المعاصرة من العلوم الحديثة مما يلغي تلك الموضوعية.
فهي تؤمن بوجود تطور موضوعي للوعي الديني وكذلك لا تؤمن بوجود مثل التطور.
فبرفضها وجود سببيات موضوعية للتطور الديني يصبح تاريخ الأديان بلا قيمة، كما لا تصبح هناك قوانين موضوعية لتطور الإسلام، فالمندائيون (الصابئة) والحنفاء هم شكل آخر للإسلام، وليس أن الإسلام تتويج لهذه الحركات التوحيدية المحدودة الجزئية، لأنه غدا ثورة شعبية. وبالتالي كذلك لا توجد تباينات في البناء بين حكم الخلفاء الراشدين والحكومات الشمولية التالية، وبالتالي لا يُفهم تباينات خطاب الإمام علي الثوري الشعبي الجلي عن خطابات الأئمة والفقهاء المحاصرين بين أشداق الاستبداد في المراحل التالية والذين غاصوا في الغيبيات الشديدة بسبب ذلك.
فنتيجة لقيام الجمعية بفصل الأديان والمذاهب عن جذورها وأبنيتها وكون الخطابات الدينية والفكرية هي جزء من حركة صراع اجتماعي، لا تستطيع جمعية التجديد الانتقال العميق الكلي من المثالية الذاتية إلي المثالية الموضوعية.
هنا يمكن الاستفادة من فكر هيجل، الفيلسوف المثالي المؤمن ولكن الدارس بشكل موضوعي للأديان وتطوراتها.
فلتطور الإنسان ككائن بيولوجي قوانين، ولتطور الأديان قوانين، ولتطور المذاهب والمجتمعات قوانين، ومن دون الدرس الموضوعي المستقل عن الكتب الدينية وعن المأثور الشعبي عامة، لا يمكن الانتقال إلى العلوم الحديثة التي لها شروط مختلفة عن الوعي الثقافي للعصور السابقة. وبعد التجذر في هذه العلوم يمكن مراجعة المأثور والنظر له بشكل موضوعي.
هذه الحيرة الانتقالية بين المثالية الذاتية والمثالية الموضوعية تعبر كذلك عن جانب مختلف عن الحركات المذهبية التقليدية السائدة التي تتجمد عند المثالية الذاتية، فلا تبحث عن سببيات موضوعية للتطور الديني، فتعبر بهذا عن كتل سياسية شمولية، ترفض البحث والديمقراطية، وتعيد إنتاج النص الديني كما كان في المرحلة التقليدية التي سيطر فيها الإقطاع بشكل كلي، ومن هنا نجد الحركات التقليدية تناوئ أي حركة تغيير وزعزعة للقوى التقليدية المسيطرة على الجماعة، فأي تحرك سياسي لدى هذه القوى التقليدية يتم ولكن تحت هيمنتها، فهي تستفيد من الأدوات الديمقراطية لنشر سيطرتها الاستبدادية، بخلاف جمعية التجديد التي تقوم بالتساؤل حول تاريخ الوعي الديني هذا وتقوم بالبحث فيه، رافضة جزءا وقابلة بجزء، حسب منهجها الذي بعد لم يتصلب فلسفياً، ولكنها في مراحلها الأولي فعلينا أن ننتظر ونتيح لها الوقت.


