الطائــــــــــر الأصفر ــ قصة قصيرة
كتب : عبـــــــدالله خلــــــــيفة لـم يبقْ شيءٌ كبيرٌ من الحقل، وأحجارُ الأولادِ الأشقياء تسقط أعشاشاً عديدة.
حدقتْ الأمُ في فرخها الصغيرِ المرتجفِ من البرد وصاحتْ به:
ـــ ماذا بك؟ أنت مريض دائماً؟
تحرك في العش برجليه الصغيرتين الضعيفتين محاولاً الاقتراب من جناحها، فأبعدته بلسعةٍ شديدة، ترنحَ على أثرها وكاد يصطدم بالبيضة.
ـــ حذار أن تكسرها أيها الغبي!
ـــ لن . . لن . . أكسرها . .
ثم قالَ بوقاحة:
ـــ متى سيخرجُ هذا . . إن العشَ لا يكفي لنا جميعاً يا أمي!
ـــ يجب أن تبحثَ الآن عن غذائك . . لم أعدْ قادرة على إعالتكم . . هذا البرد قطع عظامي!
كانت السحبُ تملأ السماء، وثمة ظلمةٌ غريبة في الوجود ، ولم يكن الريش الذي على جسمه يكفي لصد هذه اللسعات المنبثة في الجو، وحدقتْ الأمُ في التراب لحظة، وبغتة طارت من العش، ووجد نفسَهُ وحيداً إلا من كتلة البياض القريبة، والتي كان بها كسرٌ صغير راح يتسع.
وحدق في أثر أمه فلم يجد أي شيء. لقد اختفت تماماً.
قطراتُ المطر راحت تتساقط. كانت الأغصانُ تقيه من بعضها، لكن البعض الآخر وصل إليه وراح يبلله.
القشرة تكسرتْ أكثر، وظهرَ كائنٌ هزيل، راح يتخلصُ بصعوبة من سائلٍ لزجٍ يحيط به.
رمقه بحذر (سوف يتناول شيئاً مما تأتي به الأمُ، لكن هل ستأتي؟ لا يبدو ذلك وهذا المطر المتعب جعل الطيور تختفي!).
أخوه كان يرتجف وهو هزيل أكثر منه.
اقترب منه معتقداً إنه أمه وراح يصوصئ طالباً الطعام!
وصاح به :
ـــ أذهبْ عني!
وتأملَ المطرَ والشجرَ وهذا الصمتَ الغريبَ الذي تقطعهُ فجأة قرقعة شيءٍ مخيفٍ في السماء، وتساءل (ألم يكن الأفضل أن تبني العشَ في مكانٍ آخر ؟ وكيف سيعيش هذا الأخ الهزيل ؟!).
اقتربَ منه وراح يمتصُ سوائلَ البيضة لكن أخاه حسب إنه يصارعه فحركَ جناحَهُ باضطرابٍ وخوف. أعطاه شيئاً من السائل فوصوص بسعادة، وغطاه بشيءٍ من جناحهِ فدخلَ إليهِ مرتجفاً منتشياً بحرارته.
جاءَ الظلامُ الكبيرُ فشعر بأن البردَ يزدادُ بقوةٍ غريبة، ولم يكن ثمة ذلك الضوءُ المنبعثُ من تلك الكتلة الحمراء في السماء، وصارتْ عظامُ أخيهِ تقرقع، فيحسُ بأن ضربات داخلية فيه تكاد تكسرُ ضلوعَه.
التحمَ بهِ وتغطيا بالخوص المبلل.
ارتعشا، وعطشا، وتألما، ثم ناما وصحيا ، وتضاربا ، ثم سقط الصغير يتألم جائعاً.
وكان الضوءُ الصاعدُ المفاجئ، وكان الدفءُ، فتصاعدتْ أصواتُ الطيور وزغردتْ فوق الأغصان مسرورة، وشربت الأرضُ المياهَ وأغتسلتْ الأشياءُ وصارت نظيفة متألقة.
نزل الطائرُ برفقٍ ووجدَ ثلة من الطيور تتنازعُ على حبوبٍ قليلة ساقطة من شوال في مخزنٍ ممتلئ.
دارَ على المخزن فوجدَ خرماً صغيراً وبضعَ حباتٍ تكاد أن تخرجَ من العتمة. راحَ منقارَهُ يعملُ في ذلك الخشب الصلد عله يوسعه قليلاً.
ضرباتٌ حادة آلمته، فأخذ يضربُ برفقٍ ولكن بثبات وصبر، حتى تمكنَ من استدراج حبةٍ لفمهِ، وحين واصل ذلك الدق المتعب، هجمَ عليه عصفوران كبيران قذران وأزاحاه من قرب الخرم وراحا يشتبكان ويتضاربان على الأكل.
ابتعد عنهما متحسراً، ومضى يطير فوق بقايا الحشائش اليابسة التي أرتوت ومدت رؤوسها بجذل للضوء.
تراءت المستنقعاتُ المخضرة القيعانِ وقد اتسعتْ وفاضت بحياةٍ كائنات صغيرة دقيقة.
التقط حبةً كبيرة وطار نحو العش، فوجدَ أخاه منقلباً على وجهه، وقد فارق الحياة من البرد والجوع.
القاه من العش وهو يتألم ويرى جسمه النحيف الذي لم يكن سوى عظام ناتئة شاحبة.
ازدهتْ الحقولُ بالضوءِ والأزهار والفراشات، وراح يلتقط الديدان وهي تنتشرُ في الأرض المحروثة، ويأكلُ حبوباً من عند باب المخزن بين سحابة من الطيور المتقاتلة في هدوء المكان، ثم يأخذ أعواداً لعشهِ ذي الثغراتِ الواسعة، ويطيرُ بين الطيور عله يجد أنثى مناسبة له.
كانت إحداهن تجلسُ على غصنٍ وهي زاهية بريشها، محدقة بعيداً عن وجهه.
قال:
ـــ لماذا تجلسين هنا وحيدة على هذه الشجرة الشوكية ، تعالي معي لدي عش جميل.
تطلعتْ فيه بدهشة وغضب، قالت:
ـــ تكلمني أنا أيها المتشرد الوضيع ؟!
ذهل وصعق وهمس بألم:
ـــ لستُ متشرداً بل أنا أبحثُ . .
قاطعته:
ـــ هل غادرتْ منطقتكم الحقيرة؟ أنظرْ إلى ريشك المغبر الأصفر وجسمك الهزيل . . هيا أذهبْ بعيداً عن وجهي!
يعودُ إلى عشهِ فيجدُ طيراً يجثمُ فيه. يحاول أن يدخلَ فيصده . يأتي طائرٌ آخر غاضباً، يتشاجر معه على الغصن فيسقط متأوهاً. .
استوليا على عشه وصار شريداً.
راح يطيرُ من مكان إلى آخر. لسعهُ الحرُ وأيقظه الطلُ في الليل الرطب، وجدَ شجرة تغصُ بالطيور المتشاجرة.
في هذا الليلِ الذي أضناهُ كانت الظلمة معه. في هذا الصمتِ الموجعِ الرهيبِ كان وجيبُ قلبه يضجُ في صدره.
يتطلعُ إلى الفضاء ويسألُ: ما هذا الخرز المضيء البعيد؟ لماذا أنا مثل نقطة عتمة؟ لماذا لا يعطيني هذا النور الكثير حبة واحدة من الضوء؟
راح يغني ويعزفُ في الدروب، وعلى قمم الأشجار، وعند البركِ التي تحتشدُ فيها الضفادع، فراحت تضحكُ عليه:
ـــ أي صوتٍ بشع ؟ !
ـــ أهذا طائرٌ أم مذياعٌ بشري مزعجٌ وصدئ؟
ـــ ما هذا الريشُ المغبرُ الكريه الذي يلبسهُ؟
ثم راحوا يرشقونهُ بعظامِ السمك وحصى القاع المضيء!
على قمةِ شجرةٍ وجد طيوراً كهلة فغنى بجذل. تطلعوا إليه بجمودٍ وقالوا:
ـــ أي غناء هذا؟ هذا شيء لم نسمع به . .
الطيورُ مشغولة بأكلها. تطيرُ وتتقاتلُ وترفرفُ حوله ولا تراه ولا تسمعه.
يستعينُ بخرير الماء وهمسِ الريح وبكاء الأطفال وضحك الأزهار ولا أحد يسمعه!
كرة الضوءِ تتحولُ إلى تنورٍ في السماء، وثمة نارٌ تندلعُ في الشجر اليابس، والدخانُ يهجمُ عليه، وسحاباتٌ من الطيور تندفعُ بعيداً، وشيءٌ من ريشهِ يلتهب، وعيناه تمتلأن بالمياه.
برارٍ جافةٌ تأخذهُ، وجبالٌ جرداءٌ تطردهُ، وهو يطيرُ ويغني، وحين رأى وجهه على صفحة بركة لم يعرفْ نفسه.
ـــ لشدَّ ما تغير وأصفر ونحف!
سمع لحناً مزعجاً راح يضربُ سمعَهُ مراراً.
طار ووجدَ ببغاءَ جميلةً تجلسُ في الشرفة وترددُ ذلك النغم. كانت ترتدي أجمل الثياب. حدقتْ فيه بأسى. كان تعباً وجائعاً وعطشاً.
قال في نفسه (أما كفاني تشرداً وعذاباً؟ أنظرْ إلى هذه الببغاء التي تكررُ كلَ لحظة جملتها! طالعْ أي بيتٍ فخمٍ تسكنهُ وأي بركةٍ وحديقة لديها! وأنتَ طوال عمرك تجري في الصحارى وتتلقى الضربات!).
تقدم منحنياً، زائغ البصر، متردداً ثم قالَ بخفوت:
ـــ أي لحنٍ جميلٍ هذا الذي تعزفينه يا سيدتي!
قدمتْ له صحناً فيه بضعُ حباتٍ من القمح وقطرة من الماء.
راح يسألُ نفسَهُ لماذا صار خادماً لدى هذه الببغاء وكل يوم كان لحنها يؤذي سمعه؟ والثيابُ التي أعطتهُ إياها لم تخففْ من مشاعرهِ القلقة المنزعجة، والماءُ الذي تدفقَ على ريشه لم يغيرْ لونه الأصفر؟ وما يزال غبارُ الأرضِ وبقايا الشوك يلوثان ريشه؟
أمسك لها الأوراقَ لتعزف، فتحَ البابَ ليدخل المصورون والصحفيون ويأخذون أحاديث معها، كتب كلاماً كثيراً في مدح نغمها الوحيد المتكرر المزعج.
الغرفةُ التي نام فيها لم تنسيه أرضَهُ المحروقة وعشَهُ المسلوب وجاءتْ صورُها في كل حلم، ورأى الطرقَ الطويلةَ التي قطعها مشرداً، والطيورَ الصغيرةَ والجميلةَ التي أحبها وأبتعد عنها، فراح يغني بين الجدران ويعزفُ حنينــَهُ ولوعته.
قالت له الببغاءُ غاضبة:
ـــ أسمعُ بعضَ الأصوات المزعجة في البيت ، من الذي يصدرها؟
ـــ لا شيء يا سيدتي ولكنها مجرد تأوهات لطيورٍ عابرين . . .
ـــ يجب أن تمنع مثل هذه الكائنات المقرفة من دخول الحديقة. لم أوظفكَ من أجل أن تنامَ في غرفتك!
أمسك عصا وراح يضربُ الأوراقَ. ويصيح:
ـــ أخرجي من الحديقة أيتها الغربان!
لكن ريشَهُ راحَ يزول شيئاً فشيئاً. ولم يتغيرْ لونهُ الكريه، فاستخدمَ صبغةً لتلوينه، وأشترى أحدث بدلة، وأكل في أفخم المطاعم المشهورة، لكن جسمه لم يسمن ونحافته لم تزل.
ومضى يرددُ ألحانــَهُ في غرفتهِ، بهمسٍ شديد، وهو يضعُ وسائدَ على رأسه، حتى خفت صوته وضاع من حنجرته!
قال في نفسه (سوف أعود إلى أرضي ، وأبني أعشي وأغرد حراً هناك)!
سمعَ لحناً جميلاً في الحديقة. وقفَ وراءَ شجرةٍ وأبصرَ عصفوراً مغبراً يغني. يبدو إنه جاءَ من مكانٍ بعيدٍ وها هو يبحثُ عن نبعٍ وقطرةِ ماء. تركهُ يشربُ ويأكل ثم صرخَ عليه:
ـــ أي صوت مزعج لك؟ لقد أتعبت آذاننا أيها المتشرد!
لكن العصفور راح يغني غير آبه به. فصرخ:
ـــ ألم تسمعني أيها العصفور القذر . .
واقترب منه مهدداً والعصفور استقر في قمة بعيدة بين أغصان متشابكة فلم يستطع الطير أن يصل إليه.
قال العصفور:
ـــ أذهب أيها الكهل المسكين بعيداً عني . .
صرخت الببغاء:
ـــ إنني لا أستطيع الغناء من هذه الأصوات المزعجة التي ملأت الحديقة، وأنت أيها الكسول لا تفعل شيئاً لهذه الطيور المشاغبة.
ـــ لقد تمكنتُ من طردهِم ما عدا عصفوراً واحداً سوف أتغلب عليه . . قريباً .
ـــ ولماذا لم تتغلب عليه؟!
ـــ إنه فتى وغض وقوي . .
ـــ قلْ له أن يأتي إليّ . . أريد أن أراه !
ـــ ولكنه قذر وليس هو من مقامك يا آنستي.
ـــ نفذْ الأوامر . .
مضى الطائر بحزن إلى الحديقة. راح يقول في نفسه (لقد أصبحتُ كهلاً ولا أقدر على شيءٍ وصوتي الجميل فقدته، وغنائي الرائع ضاع مني!).
قال للعصفور:
ـــ أيها المتشرد إن صاحبة البيت تريد أن تراك !
ردَ العصفورُ:
ـــ ماذا تريدُ مني ؟
ـــ لا أعرف . .
أوصلهُ وهو في ضيقٍ شديدٍ ويقول (سوف يأخذ هذا الفتى الطائر مكاني وسوف أُطرد وقد فقدت كلَ شيء!) .
كانت الببغاء تغني فهتف العصفور:
ـــ ما هذه الضجة؟ إنك تتكررين جملة واحدة بطريقةٍ مزعجة!
ثارت الببغاء:
ـــ ماذا تقول أيها التافه . . أنظرْ ما كُتب عني، أنظرْ إلى الميداليات والجوائز التي حصلتُ عليها، فمن أنت حتى تتكلم هكذا؟
خرجَ العصفورُ مطروداً.
قالت الببغاء:
ـــ أيها الطائر الكهل أنت الذي تقدرُ فني في هذا المكان . . لكنني لم أُعدْ أحتاجُ إليكَ أريدُ حارساً قوياً ينظفُ الحديقةَ من هذه الأصوات التي تعكرُ صفوَ حياتي.
يناير 2007
ــــــــــــــــــــ
الكسيح ينهض. قصص قصيرة مجموعة الكسـيحُ ينهض (قصص) دار نينوى للدراسات والنشر 2017 .
(القصص: الشاهدُ . . على اليمين ــ الكسـيحُ ينهض ــ جزيـرة الموتـى ــ مكي الجني ــ عـرضٌ في الظـلام ــ حفار القبور ــ شراء روح ــ كابــوس ــ ليلة صوفيـة ــ الخنفساء ــ بائع الموسيقى ــ الجنة ــ الطائـر الأصفـر ــ موت سعــاد ــ زينب والعصافير ــ شريفة والأشباح ــ موزة والزيت ــ حمامات فوق سطح قلبي ــ سقوط اللـون ــ الطريق إلى الحج ــ حادثة تحت المطر ــ قمرٌ ولصوص وشحاذون ــ مقامة التلفزيون ــ موتٌ في سوق مزدحمٍ ــ نهايــاتُ أغسطس ــ المغني والأميرة).


