ذات يومْ

ألقي عكازتي جانبًا وأرقص كزوربا – باسم سليمان – السفير اللبنانية

.

أنا كائنٌ بستة أطرافٍ، هذا ما انتهى إليه تطوري الدارويني: ساقان، يدان، عكّازان؛ والذي يؤكّد هذا التطور، شعوري -أحيانًا- بأنّني سرطانُ بحر يقف على قوائمه الأربعة ويشعل سيجارته بكُلّابتيه، أو كنغرٌ يقفز، يحمل في جرابه كُتبًا أو إنسانًا. وفي النهار أغدو رجلًا «سايبري/ آلي» مزود بأطراف من ألمنيوم وبلاستيك وخشب لينجز مهمة في كوكب غير صالح لحياة البشر، أمّا في الليل، فأسندُ العكازين على حائط قرب السرير وأتوفّى.

كلّ ما سبق يمنحني هبة وحدة الوجود التي تكلّم عنها الحلاج: ليس في هذا الكفن إلّا الدود؛ فكلّما نظرت إلى صور طفولتي أجهد لأتعرّف عليّ، وكأنّ هذه الصّور قد سُرقت من ميتم، وزجّت في ماضي جسدي؛ وكثيرًا ما يراودني يقيني عن شكّي أن أجري فحصًا جينيًا بين الورق المقوى الذي احتضن هذا الطفل السليم والرجل الملدوغ بأفعى جلجامش، لكنّني أرضخ منذ البداية وأعطي ذاك اليتيم من الماضي؛ إطارًا من الحلوى ليضع فيه صورته المكبّرة بالحمض في ظلمة الرحم.

بدأ مرضي في زمن كانت الذاكرة فيه كخرم الإبرة، فلم اعتن بأرشفة تآكل الحركة في مفاصلي؛ ولمّا أصبحت الرجولة تحتاج مرآة أشحتُ بنظري عن كلّ الجداول، فلم أصب بالنرجسية، وأفشلت خطط سيغموند فرويد في تعقب تأقلمي الذي يشبه ذنب السحلية، كلما قطعته نما مرّة أخرى.

لأقل بأنّ مرضي يشبه العيون التي في طرفها حور/ مرض؛ هكذا صرتُ أمدحه إلى درجة أتمنى أن تُقطع ساقي؛ كي أصبح كجون سيلفر في رسوم المانغا وأتباهى بمهارتي باستخدام عكازي كأعواد الأكل اليابانية؛ ألتقط بها مفاتيحي عن الأرض، أو أغازل بها من تحت الطاولة ساق فتاتي عندما تقصر رجلي عن ذلك؛ أو أمدّ عكازتي مُلمّحًا إلي شبهٍ بذيءٍ لها؛ ومرّة عندما هالني صدّ بيضة خدرٍ قلت لها: إنّ كان المسيح قد مشى على الماء، فأنا قادر على المشي على الهواء، عندها رفعتُ ساقي واستندتُ على عكازي، وبدأتُ المشي كغراب إلى بحيرةِ قلبِها المزروع بأنصال العشب.

يا للتخييل الأدبي السابق كم يشبه وعود الأنبياء الميتافيزيقية! أحقًا، للمرض هذا الجانب الجمالي! لكن أليس الموت هو مرض الحياة وهو مبتدأ الفن؟ ألم يحاول الإنسان أن يخبئ تفسخّه وتحلّله عبر رجْم من الحجارة، فذهب إلى تهذيبه بالنحت وبالرسم وإحياء ذكرى الوجود لكائن قد انتهى، عبر الموسيقى والغناء والشعر؟ أيحول الفن، الممكن إلى واجب الوجود؟

يغويني الاشتقاق اللغوي الجناسي لفظًا وصوتًا، فالأفنون؛ هو الغصن اللين الطري الغرّ؛ كما آدم في الجنّة؛ كما جلجامش في حبّه لأنكيدو الذي هو نقيضه. والأفنون هو الأفعى بالتفسير الكلاسيكي التي أغوت آدم وسرقت عشبة الخلود من جلجامش؛ وهنا أليس جذر الأفنون في « فَنَنَ» والفنّ أليس من ذات الأرومة؟ أية لعبة تلعبها الأفعى؟ الأفعى التي تلقفتها عصا/ عكاز موسى، موسى الذي يهشُّ بها على غنمه وله مآربٌ أُخرى؛ كما أهش بعكازي على ذباب الحياة؛ كأنّها ذنَبٌ نبت تحت أبطي بدلًا من الذنَب آخر فقرة في عامودي الفقري؛ والتي تُسمى العصعص؛ والعصعص جذره في « عصص» و «عصّ» تعني العصا والشجرة؛ وماذا عن الجناس بين « ذَنب» وذَنْب»؟

ألقي عكازتي جانبًا، وأرقص كزوربا؛ يذهب التراث البشري إلى عدّة تفسيرات وتأويلات للمرض، بلاء ؛ لِيُرى من هو الأحسن عملًا وصبرًا؛ أو «الكارما» حيث الجيل الحالي نتاج الحياة السّابقة؛ أو أنّ المرض من طبائع الحياة ومصادفاتها العبثية، لكن أليس في رفض خلية السرطان الموت وتكاثرها رغبة في الخلود؟ فما الطفرات التي قادت نظرية التطور الداروينية إلا أمراض أصابت الكائنات الحيّة؛ ومن صبر على مرضه نجا؛ وشكّلَ جنسًا جديدًا.

هكذا كان النبي أيوب صابرًا على مرضه حيث أكل لحمه الدود في أرض تُسمى أرض «عوص» وعوص تعني الشجرة / العصا/ العكاز حتى منَّ الله عليه بالشفاء وتكاثر كرمل الشواطئ.

المرض توأم سيامي، يُفصل بالشفاء وماذا عن توأمي أو توائمي، فالعكازان توأم ثالث لنا، أخبئ أخوتي وأدّعي أنّي وحيدٌ هكذا تقول السجلات المدنية، فأتهرب من الخدمة العسكرية؛ ومن إنجاب قاتل وقتيل مقلّدًا المعري قائلًا: «هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد» لكن هيهات..هيهات.. فمن الصعب أن ألعب بالبيضة والحجر أمام سحر الاشتقاق اللغوي حيث المثل يقول ويضرب مثلًا: “العصا لمن عصى”.

ألم يغو الشيطان آدم بأن يذق الشجرة التي ستعطيه الخُلد ومُلكًا لا يبلى؟ وما الملك والخلد لكائن قُدِّر عليه الموت إلا قهر الموت بالتناسل، فالعكازان ليسا أخيْن لي؛ بل ولديي اللذين حملاني كما فعل إينياس بأبيه أنشيز عندما سقطت طروادة وهرب به، أفكر بابنيّ وماذا أورثهما غير أبطين لم يتأبطا دودًا.

الكائنات ذوو العكاكيز تتكاثر الآن في بلدي؛ أشعر بأنّني الآن بين شعبي حيث الحرب تنجز مهمتها الديمقراطية؛ وتلغي احتكار الأصحاء للأكثرية العددية، فنحن الأقلية المريضة التي لم تعطِ من سوق العمل؛ إلّا أربعة بالمائة من عدد الموظفين؛ فيما الأصحاء يتمتعون بالبطالة المقنّعة؛ وسيسمع صوتنا بأن المرضى يريدون إسقاط لعبة الأسماء بين المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة؛ وبدلًا من البنادق والأعلام ستُرفع العكاكيز في السماء؛ معلنة انتهاء حرب الأصحاء على السلطة.

العكاكيز

احتفظ بعكازاتي جميعها، تلك القطع الخشبية اليابسة منحتني حرية الغصون عندما تهبّ الريح. إنّها تشبه الآثار التي يجتاحها دود التاريخ الآن -آه- كم تعكّزنا، نحن، أولاد الآني على آثار تدمر وقلعة حلب..

كلّما فكرت كم من أرجلٍ بترتها الحرب؛ أتذكر أن أقدم ناي في التاريخ صُنع من عظمة الظنبوب في الساق. إلى الآن لا أعرف لماذا لا تصنع صواري الأعلام من العكاكيز، فالعائدون من الحرب هم الأولى أن تُسقى أخشابهم لكي تنبت الغابات من جديد، لكن من سينتبه لرجل بساق مقطوعة أو مشلولة؟ مادام المرض عورة يجب سترها؟ ألا يكفينا أن نعلم أن أجمل بيت غزل في الشعر العربي قد تمّ تحويره هو في الأصل : «إنّ العيون التي في طرفها مرض.. وليس حوراً».

كان أبي أستاذاً للفلسفة وفي ذلك الزّمان كانت العصا من مكملات المعلّم وفي كلّ صفٍ كان هناك عصا؛ فعندما يتكاسل الطالب تطاله العصا، فهي بيد السلطة تنمو إلا أن أبي كان يضرب الطاولة فيها؛ ثم يخرج إلى خارج الصف؛ وفي ساحة المدرسة على الحدّ الشرقي، غرسها في التراب، ومضى.

مضى الزمن ونمت عصي الرّمان شجيرات يلتهبن بزهر الجلنار؛ وفي الصيف يمر طائر الشقراق السوري ويتناول رمانة، يفرّغها من حبها ويملأها عنبًا ويمهلها زمنًا ولمّا يحين الوقت يعود لها وقد تحوّل العنب خمرًا، فيشرب كأبي نواس.

يشتد الألم قليلًا أتناول حبّة أسبرين من شجرة الصفصاف وأحلم؛ كم من الرّمان والصفصاف والقصب والعكاكيز تحتاج هذه البلد لتشفى من أمراضها؛ فيما يتسلل النعاس إلى محجر نومي، تومض فكرة قديمة من عمر الكلمة: السّلام هبة العنف والصحة هبة المرض.

نص قديم نشر في السفير اللبنانية

نص قديم نشر في السفير اللبنانية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 14, 2023 13:59
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.