الماركسية

إنجازات وقصور كارل ماركس

قدم كارل ماركس مقاربةً اقتصادية لرأسمالية زمنه، وكشفَ قوانيَن نموها وتطورها لحد نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وجاءت الاحتمالاتُ الكبيرة التي تصورها لرأسمالية زمنه، بأن تدهوراً عميقاً سوف يحل بقوى الإنتاج، نظراً لنزول معدل الربح الوسطي، وبالتالي سيؤدي ذلك أما لتدهور الإنتاج أو لتوسع المصروفات القاصمة لظهر كل منتج، وإنه بالتالي فإن المجتمعات الرأسمالية سوف تشهد ظهور معسكرين لا ثالث لهما، معسكر نخب الأغنياء القليلة الباذخة، ومعسكر البروليتاريا المدقعة في الفقر والمتهيأة للثورة. لقد اكتشف سلسلة من قوانين الإنتاج الرأسمالي التي تمثل ثورة معرفية مثل فائض القيمة، وطرق إعادة الإنتاج الخ.
كانت هذه القراءة العميقة لجذور نمو الرأسمالية تمثلُ معجزةً معرفيةً لرجل واحد مضح، كرسَّ أربعين سنةً من سنواته الأخيرة من أجل القراءة والكتابة في بلد لا ينتمي إليه، وفي عائلة فقيرة وبين كثرة أولاد، لم يعتمد سوى على صديق واحد، ولم تكن له لجان أو مؤسسة دراسات خاصة به.
لكن الرأسمالية الغربية لم تقتصر على جذورها وعلى أوضاعها في القرن التاسع عشر، وراحت تتطور كأسلوبُ إنتاجٍ ديناميكي لم يتوقعه ماركس، وظن إنه سيكون محصوراً في أوربا الغربية وأمريكا النامية بقوة وقتذاك.
إن السوق الضيقة التي توقعها ماركس توسعت كثيراً، وشملت قارات العالم كله، وبهذا فإن الأنظمة الغربية حولتْ العالمَ إلى تابع لها، فما عادت القوانينُ المتعلقة ببنيةٍ اقتصادية ضيقة تشمل غرب أوربا بمماثلة لسوق كونية. وبهذا فإن دورَ الربح الوسطي المتآكلِ والمتدني والمضعفِ لقوى الإنتاج، والذي يعبرُ عن مجتمع واحد لا امتداد متوسع له، والمحكوم بآلية اقتصادية غدت ميكانيكية في رؤية ماركس؛ إن هذا الربح المتراجع تلاشى، وظهرت آفاقٌ لا تحدُ من الأرباح!
لقد توسعت الشركاتُ الغربية، ووجدت عالماً فقيراً تابعاً يمدها بالمواد الخام، وأسواقاً كبرى، ووجدت قوى عمل هائلة في الشرق، بأجورٍ شديدة الانحفاض وهذا هيأ لها الانتقال من عالم الثورة التقنية الميكانيكية إلى عالم الثورة المعلوماتية.
فمن المصانع الكبرى والتلوث وثورة الحديد والفولاذ والمدن المكتظة إلى عالم الأجهزة الدقيقة والكومبيوتر وثورات الفيزياء والكيمياء وتصنيع الزراعة والثورة البيولوجية وغزو الفضاء الخ.
ومن بعد الحرب العالمية الثانية توافقت الرأسماليات الغربية على منظومة واحدة، تجعل الصراع بينها سلمياً، تقنياً، وعبر غزو الأسواق الأخرى وهذا يعني مزيداً من التغيير في السلع والتقنية.
إن رأسمالية كارل ماركس القديمة لم تعد تحكمها قوانين الربح الوسطي وعجز القوى الإنتاجية، لكن تحكمها قوانينُ العالم الواحد الذي صار كتلةً اقتصادية واحدة، متعددةَ المستويات؛ غربٌ غنٌّي مسيطرٌ وشرقٌ ناهض، ذو آفاق في الرأسمالية أكثر توسعاً وتقنية وفتوة وأقل تكلفة من رأسمالية الغرب الكهل.
ظهرت قوانينٌ جديدةٌ للرأسماليات الكونية، رأسماليةٌ غربية حرة قديمة وذات مستوى عريق من التقنية والمستوى المعيشي الجيد ومن السيطرة على البيئة، ورأسماليات شرقية متنوعة تسودُ فيها الحكوماتُ المسيطرة والمتحكمة في الإنتاج والتي تقومُ بالتخطيط وبفتحِ الأسواق معاً، وهذا بسبب تأخر نمو هذه الرأسماليات وبضعف وعي الشعوب وتراثها الاجتماعي المحافظ، مما يجعل الصناعة بأجور شديدة الانخفاض وبدون شروط بيئية كبيرة، وهذا أدى كذلك لنقل صناعات كبيرة إلى الدول ذات النمو المتسارع كالصين والهند وشرق وجنوب آسيا.
فنهضت هذه الرأسماليات الشرقية نهوضاً لا سابق له، بسبب اتساع أسواقها وعوز أهلها وضخامة أعدادهم وكبر ساعات العمل فيها، وجلبها للتقنيات الغربية التي تعبتْ فيها الدولُ الغربية، فحصدتْ مكاسباً من التطور العالمي متنوعةً، وبهذا قامت بغزو أسواق المسيطرين السابقين عليها وانتزعت منهم الأرباح في عقر دارهم.
إنها رأسمالياتٌ كونية متعددة الأقطاب، متنوعة المستويات، وهذا لا يمنع من بقاء التناقض الكبير بين مستويات الغرب والشرق.
فرأسمالياتُ الغرب لديها كذلك عمقها التقني ولشعوبها مستويات حضارية أكبر، وهي لا تزال مسيطرةً على ثروات كبيرة من الشرق، خاصةً من المناطق الضعيفة التطور، والتي لا تزال تقدمُ الموادَ الخام وليس في شعوبها تطور صناعي أو تقدم تقني كبيرين.
ولكن العالم كله تشمله رأسماليات متعددة، مُقادة من الغرب، الذي لم تعد تناقضات كارل ماركس الاجتماعية تجري فيه بتلك الصورة المبسطة، ولكنه لم يخرج من ذلك التناقض المحوري بين البرجوازية والبروليتاريا، وهي برجوازية اصبحت ذات سيطرة عالمية، والبروليتاريا لم تعد البروليتاريا الصناعية المدقعة الفقر، بل تطورت مادياً ومعرفياً، وظهرت بروليتاريا جديدة ذات معرفة تقنية، وانتقل عصبُ قوةِ العمل إلى الدماغ بدلاً من التركيز على اليد كما كان سابقاً، فهي بروليتاريا مثقفة تتطلعُ لمستوى معيشة مرتفع، وتجمع في نضالها بين ورقة الانتخاب والأضرابات الاقتصادية المؤثرة، وآفاق تطور هذه الطبقات العاملة كبير، ليس على مستوى العمل الاقتصادي بل كذلك في دورها السياسي، وفي تغييرها لحياة الاستغلال والثقافة المحافظة، ولا يستبعد في العقود التالية أن تحكم عبر أحزاب ووزارات.
أما البروليتاريا الرثة المدقعة فقراً ذات العمل اليدوي فانتقلت إلى الشرق وأمريكا اللاتينية. إن برجوازيات الغرب تنقل مخلفاتها الصناعية إلى الشرق كما تنقل الوظائف الدنيا في مجتمعاتها، أو تستورد العمالة اليدوية المتدنية، فتصاعد التناقض بين الشرق والغرب وغدا كتناقض كبير يحكم العالم، فغدا سكان العالم الثالث كبروليتاريا عالمية متدنية الأجور وتعيش في أوضاع سيئة وبخدمات رثة، وبدت الفروق بين الأجور والظروف على مستوى العالم مخيفة.
وبدت سيطرة الدول دائم العضوية ودول الشرطي العالمي الغربية كجهاز عسكري يؤبد الفروق بين التكوينين المختلفين ولا يبحث هذه الفروق التناقضية الخطيرة ويحلها.
إن التطور الرأسمالي العاصف خلال القرن الجديد سيكون ذا احتمالات خطيرة، وستظهر رأسمالياتٌ شرقية كبرى تريد أسواقاً وموادا متناقصة باستمرار، ولا يستطيع هذا العالم المكتظ بهذه الرأسماليات المتصارعة إلاستمرار إلا عبر تغييره وتشكيل مجتمعات إشتراكية ديمقراطية تنقله إلى تعاون إنساني أرقى.

جانبا التشكيلة يمرضان

مفكرو الرأسمالية والماركسية كانوا في صراعهم المطلق ضد بعضهم بعضا يقعون بين تضاريس لحظات تاريخية محدودة ونسبية في فهم نمو التشكيلة الرأسمالية وتناقضاتها، فكانوا ينفون بعضهم بعضاً، لكونهم رأوا خواص أيديولوجية لا حركةً تاريخية مفتوحة، وأسقطوا مصالح قومياتهم ونخبها العليا على الواقع الحقيقي.
رأوا رأسماليات حكومية شرقية فتصوروها اشتراكيةً قادرةً على إكتساح أنظمة استغلالية وتقديم البديل، فيما رأى الآخرون أن رأسماليات الشرق الحكومية التي أسموها شيوعية، تستغللا المنتجين لصالح بيروقراطيات فاسدة، وشمولية، تتفاقم أزماتُها في نهاية المطاف، لكنها أزمات بنيوية كاسحة لا أزمات الغرب المؤقتة التي يتعافى منها ويصير أقوى.
هنا رأسمالياتٌ شرقيةٌ بدائية متدرجة وهناك رأسمالياتٌ متطورة بفضل الاستنزاف الكبير للأولى.
كان أي انهيار وضعف لأي من الجانبين هو في التصور السائد في الحرب الباردة هو لصالح الرأسمالية الأخرى لكونها هي الباقية والأخرى عابرة.
وكما يقول المفكر الألماني مانهايم ناقداً:
(الماركسية تركيبٌ بين الحدسية وأقصى إرادة العقلنة). أي أن الماركسية هي كذلك بها نسبةٌ من اللاعقلانية، خاصة حين تغيبُ الأبحاثُ الاجتماعية الدقيقة، وهذا كلامٌ قيل قبل عقود طويلة، قبل أن تظهر الماوية وبول بوت، فمن دون ترافق بين الماركسية والأبحاث الموضوعية تتحول إلى لاعقلانية، وتسكنها الأوهامُ الفكريةُ ثم المغامراتُ السياسية الخطِرة. وهذا أمرٌ مطروحٌ في كافة الأفكار والأيديولوجيات بما فيها الرأسمالية الغربية.
الحدسية تَنتجُ من عدم تراكم التجارب الاجتماعية العقلانية في مجتمع ديمقراطي حر، فتقوم الأجهزةُ بقفزة في الاحتمالات غير الواضحة.
والحدسية هي شكلٌ من الوعي غيبي غيرُ محددٍ علمياً، بسبب تصورها إمكانية قيام نظام اشتراكي في التشيكلة الرأسمالية، فهي تشكيلةُ نقدٍ وفائض قيمة ودولٍ واستغلال وأجراء وإدارات متنفذة فكيف تكونُ الاشتراكيةُ ممكنةً فيها؟ لكن حين تكون الاشتراكية سياسات وليستْ نظاماً وتتشكل لدعم مصالح المنتجين وقد تبنتها الأحزابُ في حراكٍ ديمقراطي ونفذتها وصعّدتها على مر السنين تكون تلك هي الاشتراكية، وهي الاصلاحاتُ المكرسة للعاملين والأنظمة التي تتغير مع مرور العقود.
إرادة العقلنة تتناقض مع الغيبية والحدسية والأفكار غير المجربة المدروسة، سواءً أكانت اشتراكية أم رأسمالية شرقية رافضةً لأسس التشكيلة، ويكون نتاج ذلك فوضى ومشكلات لاعقلانية هائلة. مثلها مثل الأنظمة الدينية العربية والاسلامية تتصور أن تصوراتها الأيديولوجية باقيةٌ بشكل مطلق، وأنها قادرة على الخلود بسبب تلك الآراء، وليس من خلال علوم الحساب وفحوص الأبحاث الاجتماعية.
بعضُ غيبياتِها تحولهُ إلى نظام اجتماعي، وفي هذا لاعقلانية وتجريبية خطِرة، لأن الأنظمةَ يجب أن تستند إلى ما هو مُجرب ودقيق في نتائجه، والمغامرات بالشعوب مكلفة. ونحن نرى الآن في الثورات العربية استفحالَ التجريبية فتختلطُ معها أشد مظاهر الهوس اللاعقلاني!
تصورت بعضُ القوى الغربية أن الرأسمالية مطلقة وذات هيمنة قطبية واحدة في مجتمعاتها وفي العالم، وهو أمرٌ مدمر لها ويسبب عواصف اجتماعية؛ فساد بذخي وضياع ثروات ودفع العالم الثالث للانهيارات الاقتصادية والتغرب والصراعات الدينية، ولكن الاشتراكية الديمقراطية تقدم بديلاً آخر لكلا الجانبين الغرب والشرق، كما يقول مانهايم عبر اعتماد سياسة لصالح الأغلبية الشعبية مستندة الى دراسات العلوم الاجتماعية المُراقِبة والديمقراطية السياسية.
والأبحاثُ الغربية كذلك تسيطر عليها أدلجات مغرضة، ولا تحلل سبب هذه الكوارث المالية وتفاقم الفقر والأمراض في العالم الثالث.
رأسمالية غربية ترحل شرقاً حيث الاستنزاف والأرباح، وعمالة ورساميل ترحل غرباً، وحراك الرساميل هو السائد ذو المصلحة المسيطرة، بينما حراك العمال حراك فقر وبحث عن أجور أفضل، وحمل المعتقدات الدينية من مستوى إلى مستوى آخر مختلف مقلق وقيام اضطرابات عالمية بسبب ذلك.
الرأسماليات الغربية استنزافية للشرق، وتتراكم لديها الفوائض الهائلة، والشرق يفتقر ويضطربُ ويبحث في الاشتراكية مرة والدين مرة، ويعيش حالاتَ جنونٍ اجتماعية واسعة، لأسباب التركيبة العالمية المختلة ولعدم وجود أنظمة غير مؤدلِجة وغير معبرة فعلاً عن درس الأوضاع فيها بموضوعية ومن خلال اليسار واليمين المنتجين المتعاونين، ولأن هذه الأنظمة تخلط بين أوهامها الأيديولوجية والواقع وهذا الخلط هائل وواسع في الشرق.

تناقضات الماركسية – اللينينية

تقوم الأفكار الماركسية اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين . إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوروبية هامة، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجا لذروة التطور التقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة.
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا، القوميون الروسيون، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لانحلال رأسمالية الدولة الشمولية الروسية، بالجمع بين هذه الماركسية الأوروبية مع استبداد الدولة المركزية، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه (الماركسية – اللينينية).
علينا أن نرى بادئ ذي بدء، أن هذا الجمع المتناقض، هو افتقار هذه الماركسية الأوروبية في نشأتها، إلى أن تكون نظرية إنسانية، أي أن منشأها الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً، يمنعها أن تكون نظرة لمختلف التجارب الإنسانية، فلكي تصل أن تكون نظرية إنسانية يلزمها أن تدرس تجارب مختلف الشعوب ومستويات تطورها، وهذا هو الأمر الذي لم يتوافر.
فحتى القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوروبية خاصةً كبديهية مُلزمة، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين. أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه، وهو يخضع للبحوث المستمرة. ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوروبية الغربية، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوروبية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية، أما اللينينية فأمرُها يختلف، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية، من دون أن تُرفد بتجارب الأمم غير الأوروبية، وبهذا فإن السيادة الأوروبية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءاً منها، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوروبية ممكناً، بفضل هذا التفوق.
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسية وتفحصها وتنقدها، في العالم الثالث، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية.
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية، ومن هنا لعبت (اللينينية) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وإفساد الماركسية على المدى العالمي.
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوروبي ديمقراطي شعبي؛ وبين الفكر المعارض الروسي، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوروبا الغربية لها، وأمانة روسيا في احتضانها.
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة، في حين أن أوروبا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية.
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات (العلمية) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف.
كان من أولى الخرافات (العلمية) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي (نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي)، فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية، وبين المسارين تضيع روسيا.
فأوروبا الغربية حين انتقلت إلي الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون، فبدءاً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابويه وظهور البروتستانتية، ثم مجيء عصر النهضة، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ..
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاع وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمي عصر نهضة روسي، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوروبا الغربية وروسيا، وإذا أمكن لأوروبا أن تنتج الماركسية ضمن نظريات علمية عدة، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلي ايديولوجيا، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وان تخنقها.
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أي نظرة علمية أخري أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ٠..
بمعنى أن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية، وهو أمر على سبيل المثال لم يتم حتى اليوم في روسيا، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل. وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم.
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكى يخرج من حالةِ القطيع التاريخي.
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ..، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية، المُجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي.
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقه، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة اُستبدلت بسهوله بمؤسسات جديدة، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون.
إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنية المتحولة من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً، فأبقت الكتل الجماهيرية من دون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع (الآسيوي) للجمهور، ولم يتأورب، أي لم يتحدث؛ ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ..

الليبراليةُ والماركسية

تتناقضُ الليبراليةُ والماركسيةُ تناقضاً نسبياً وليس مطلقاً، مثل قطبي المغناطيس، فهم تزولان معاً كذلك.
مثل طبقتي الإنتاج الرأسماليين والعمال، تتعاونان وتتصارعان وحين يحدث زوالهما تزولان معاً، يصير الناسُ عاملين والإنتاج لهم.
حين يحدث الإلغاء من قبل أحدهما للآخر يتشوهُ كلٌ منهما، فتلغي الليبراليةُ الماركسيةَ عبر القمع ومصادرة الحريات، فتغدو الليبرالية فاسدةً بيروقراطية وتتحلل من الحرية.
وتلغي الماركسيةُ الليبراليةَ حيث تنشئُ رأسماليةَ دولةٍ شمولية فتفتقدُ الحريةَ وتتعفنُ الماركسية.
مثقفون وسياسيون وأرباب عمل أفراد ليبراليون يلغون الماركسيةَ لكن لا يستطيعون، ومثقفون وسياسيون وأرباب عمل حكوميين ماركسيين يلغون الليبراليةَ فلا يستطيعون.
الماركسية والليبرالية تتصارعان وتنفيان بعضهما ولكن في أنظمةٍ غيرِ حرة، إستثنائيةٍ يتصاعدُ فيها الإرهابُ أو القمع، مما يؤدي لصعود قوى أخرى ما قبل الحداثة.
في توسع الحداثة من الغرب للشرق، نحو العالمية تتوسع النظرتان وتتغلغلان في كل مكان وتغيران أساليب الانتاج الحِرفية والمتخلفة والصناعات الملوثة وغير التقنية المتطورة، وكل التيارات ما قبل الحداثة تنصهر فيهما.
عبر القرون يتبدلُ نسيجُ البشرية، وتتفجر مشكلات التحديث التي يُقضى عليها بمزيدٍ من التحديث والعقلانية السياسية والديمقراطية وإنتشار الكشوف العلمية.
الليبرالية المشوهة والماركسية المشوهة نتاجا أنظمةٍ لم يتطور أسلوبُ الإنتاج الحديثِ فيها، تفرضُ أدواتُ التسلطِ الشرقية أو الغربية نفسها فتعرقل التطور، يغدو تداول السلع وتداول السلطة معرقلين بأسباب سياسية متخلفة. يتلكأ تطور قوى الانتاج المادية وقوى الانتاج البشرية.
البشريةُ تغدو منتجين، أو مالكين، وتتعمم التطورات الاقتصادية والتقنية والفكرية والأخلاقية حتى تصير أفقر البلدان منتجة تحديثية، وتصير الكرة الأرضية سوقاً واحدة.
حين تظهر أنظمةٌ تعادي هاتين الفكرتين تكونُ أنظمةَ ما قبل الديمقراطية، تتفجرُ بتناقضاتٍ تهدمها. لا يستطيع أي نظام أن يبقى في ما قبل هذه الثنائية. الذي يبقى يجرفه الأعصارُ التحديثي الصناعي الغامر.
الأسلوب الرأسمالي في عالميته يصلُ لقمة مداه، تصبح كلُ الشعوب منتجةَ السلع التي تفيضُ ويختنقُ الأسلوبُ بشكل تدريجي.
وأي هيمنة من قبل الفكرتين الليبرالية أو الماركسية تغدو تحسينات وإصلاحات، وليس هيمنةً أبدية، فالانطفاءُ تدريجي في الأسلوب الرأسمالي، لهذا فإن دكتاتوريات أي من هاتين الفكرتين هي حرب أهلية وجمود تقني وتوقف عن تطوير قوى الانتاج لكن قوى الانتاج لا تعرف الوقوف.
الليبرالية التي تتعرقل بالشمولية تنقدها وتغيرها الماركسية، والماركسية المتخلفة عن فهم الثورة العالمية الديمقراطية تجرفها الليبرالية.
والشعوبُ المتأخرةُ في الوصول لهذه الثنائية الصراعية الجدلية التعاونية عليها أن تحافظ عليها وعلى تطورها في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لكي تصبح منتجة سلع متطورة.
إلغاء الفكرتين أو أي منهما هي عودة للوراء، لصراع ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة.
كلٌ من أرباب العمل والعمال مساهمٌ رئيسي في الإنتاج، وكلٌ يلغي الآخر، لكن التطور الحقيقي يعتمد عليهما معاً.
الاستغلالُ مرتبطٌ بتخلف قوى الانتاج والمنتجون القوة الكبيرة فيه، وقوى الإنتاج مرتبطة بالعلوم والتقنيات السابقة والتطور الاقتصادي، ولهذا فإن زوال الاستغلال يتعلق بتطور المنتجين وتحولهم لقوى عاملة علمية متطورة، وهذه قضية تحتاج للكثير من الزمن والتطورات الاجتماعية والاقتصادية.
كما أن الاستغلال مرتبط بالمالكين ونظراتهم ومدى ضخامة ذواتهم وأنانيتهم، وهم يتطورون كذلك لأن الأنانية تذبل، ومشكلاتها تعصفُ بالانتاج، وتسبب الكساد والثورات الاجتماعية والفوضى، ويخفف منها الرقي الثقافي والتطور الأخلاقي، وتصاعدُ دورِ المنتجين في الحكم والحياة الاجتماعية والعلوم، لكن الاستغلال لا يزول إلا مع أسلوب إنتاج جديد ليس فيه عمال أو أرباب عمل.
ينطفئُ هذا الأسلوب مع إختناق التصدير والأسواق، فلا يعود هذا الأسلوب قادراً على البقاء في قادم العقود والقرون فيتحول الناسُ إلى عاملين ومالكين معاً. يتحولون إلى أحرار وذوي نظرة موضوعية، ولا يتصارعون بشكلٍ تناحري، ويكون صراعُهم الأكبر مع الطبيعة ومشكلاتها.
تنطفئُ الليبراليةُ والماركسيةُ معاً، ويتم تجاوزهما معاً مع إنطفاء هذا الأسلوب الصراعي التناحري.
حين تزول الطبقات يزول الوعي الطبقي.

الأديان والماركسية

لا يمكن أن تُفهم الأديان والتراث السابق للبشرية بشكل موضوعي حقيقي إلا من قبل الماركسية. ولكن ليست أي ماركسية، فالماركسية غدت ماركسيات، مثلما أن الإسلام غدا مذاهب وتيارات لا حصر لها.
فالإسلام بكل أطيافه يظل متوحداً في بنية كلاسيكية لم يستطع المنتجون الفكريون والسياسيون المنتمون إليها تغييرها، وليس للإسلام كدين عريض لكي يبقى سوى أن يتحد بالمستقبل والتطور، في حين أن أغلبية المنتجين السابقين يقودونه إلى الماضي ويمنعون مقلديه من المضي إلى الحداثة، لأنهم لا يفهمون تركيبة الإسلام الماضوية الحقيقية.
وقد نظر الدينيون في الغرب والمشرق الإسلامي الى الماركسية باعتبارها أداة هدم وإزالة للأديان، خلطاً منهم بين الماركسية الارادية الذاتية وبين الماركسية الموضوعية، بين الماركسية كما تشكلت في دول الشرق الاستبدادية وبين الماركسية كما تنامت في حقول المعرفة الحديثة.
لقد تشكلت ماركسية القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية كتتويج لنزعات التنوير والإلحاد والنضال العمالي ضد الكنيسة وراس المال، بعد أن تم على نحو مهم إبعاد الدين عن العمل السياسي العام، وهي معبرة عن مصالح الطبقة العاملة تحديداً، التي ظلت تعمل من أجلها، فتوجهت للعمل السياسي مشكلة أحزاباً لم تستطع أن تصل إلى السلطة، بحكم أن طبقة رأس المال استطاعت أن تجذر سلطتها في نواحي الحياة كافة.
كما تشكلت أصولُ الماركسية بين نزعات الحداثة المختلفة، التي اتسمت بطابع معرفي متقارب، هو كون نظراتها كما تعتقد هي النظرات الوحيدة الصائبة، فالعقل لديها هو عقلٌ مطلق، وهو العقلُ المطلقُ الذي انتقل إلى روسيا والصين وغيرهما وصار نظاماً اجتماعياً متوحداً بالعقل الديني. فتغدو أحكامها نهائية، من حيث اعتبار دولتها أبدية، وثورتها مطلقة، ونظرتها باقية على مر الزمن.
فتشكلت في العالم المتخلف ماركسية أصولية، فهي تعتمد على أصول أبدية، خارج التاريخ، وهي نظرية تاريخية نسبية! ولا يمكن لهذه الماركسية الأصولية أن تختفي من الأحزاب التى آمنت بها، وهي ذاتها جاءت من مرتكزات دينية، كما لا يمكن بسهولة أن تظهر ماركسية تجديدية تاريخية نسبية، فتعتقد أن ما تقدمه من أطروحات وبرامج شيء نسبي وأن برامجها ونظراتها الفكرية هي نسبية كذلك.
يعوق ذلك الوضعُ الاجتماعي الذي تتشكلُ فيه هذه الأفكار، ومستويات الأعضاء القادمين من بيئات فقيرة محدودة التعليم، ومحدودة القراءة. وهكذا حدث للماركسية ما حدث للأديان، من حيث تفككها إلى مذاهب، فتقومُ كلُ دولة ذات نفوذ كبير، وكل حزب كبير، بصياغة ماركسيته المشكلة على مصالح سلطته، لا على تشكيل عقل ديمقراطي جماعي للتنظيم، نسبي في تاريخه، منفصل عن السلطة المطلقة، وسواء كان دولةً أو جماعة أو ديناً . ومن هنا كانت عبادة الأصنام والمناطق والشخصيات والتجارب، لا باعتبارها تجارب تاريخية نسبية يجب ألا تُعبد.
وهكذا ظهرت الماركسية العربية في تبعية للمراكز الخارجية، إلى أن بدأت تظهر عقولٌ نقديةٌ باحثة، ظلت هي الأخرى تشتغلُ تحت مظلةِ العقل المطلق، عقل الحداثة، لأنها تتصور أن عقلها قادر على إزاحة كل العقول المتخلفة المحيطة، فهو النفي المطلق للدين، والنفي المطلق للاستغلال، والنفي المطلق للقومية.
وحين ظهرت محدوديةُ العقلِ المطلق الماركسي هذا في تجارب روسيا والصين وكوبا الخ.. غدا الشك موجهاً للتطبيقات وللتدخلات العدائية القادمة من الخارج ضد بنيته النقية، وليس في نقد هذا العقل المطلق نفسه، ولعدم اعترافه بنسبيته ومحدوديته في زخم التاريخ.
إن الأنظمةَ والجماعات الدكتاتورية التي شكلت إسلاماً دكتاتورياً بعقل مطلق وأبدي كما حدث ذلك في الماركسية، والإسلام والماركسية كفكرين ثوريين من عصرين مختلفين، يحويان بذور التفكير النضالي الإنسانى بأدوات تعبيرية ومنهجية مختلفة حسب مستوى العصور، لكن الأنظمة والجماعات الشمولية تسيطرُ على ذلك المضمون وتحوله إلى شكلٍ مفرغٍ من دلالاته الكفاحية.
كان الإسلام والمسيحية واليهودية ثورات في أزمنتها وحسب مواقع ومستويات تطور شعوبها التي ظهرت فيها، وكانت الماركسية نظرية للثورة العمالية فى العصر الحديث، لكنها كذلك تحوي نظرة لرؤية العالم مختلفة نوعياً عن طرائق فهم الأديان للعالم.
وبسبب ذلك تشكلت صراعات معقدة بين الأديان والماركسية، وأخذ ذلك مجرى الصراع الإلغائي بين الماركسية المطلقة، أي الماركسية الشمولية، وبين الأديان كما جيرتها الأنظمة الشمولية على مر التاريخ.
إن الأدوات المعرفية والتعبيرية في الأديان هي نتاج تاريخ طويل للبشر، ففكرة الإله الواحد أو فكرة الآلهة المتعددة والأقانيم والأرواح المتحكمة والسماء المسيطرة على الأرض واليوم الآخر والثواب والعقاب الأخروي وغيرها هي أدوات تُفهم على أنحاء مختلفة، ففي حين يفهمها المؤمن بها على أنها أجزاء موضوعية حقيقية من العالم، يفهمها الماركسي على أنها تعبير عميق معقد عن ظروف الشعوب وكفاحاتها المجسدة بالمفاهيم، فاليوم الآخر هو تعبير عن سلطة أخلاقية فوق الزمن، تحاكم المجرمين والاستغلاليين بشكل نهائي وحاسم عما اقترفوه. وبغض النظر عن الغيب والواقع، فإن اليوم الآخر كفكرة حكمت الملايين بضمير أخلاقي وبتفكير في الثواب والعقاب قد هذبت من انحرافاتهم وجرائمهم في وقت ظهرت فيه سلطاتٌ مطلقة تقفز فوق الخير وتتلاعب بالخيرات، وحين تظهر العدمية تجاه الدين فإن غرائز الإنسان تنفلت، ويعتبر نفسه فوق الخير والشر، فلا يؤمن بإله يراقبه، وبضمير يحاسبه، وإذا كانت قوى الاستغلال الشرهة العديمة الضمير لا تؤمن في حقيقة الأمر بإله يراقبها ويحاكمها في خاتمة المطاف، فإن الجمهور يؤمن بذلك، وتدفعه الفكرة إلى التمسك بالأخلاق، بشكل نسبي بين الجماعات والأفراد، حسب مستوى الإيمان بالإله المعبر والمجسد لهذه الأخلاق. وهكذا فإن قوى الاستغلال الدينية والحكومية الشرهة للمال العام والخاص والعدميين التحديثيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع، تلتقي كلها في عدم الإيمان بالإله العادل وبالشعب الذي يجب أن يتملك خيراته. إن العدالة الإلهية والديمقراطية الشعبية هما مظهران لمضمون واحد.
إن الثورة الشعبية الإسلامية الذي ظهرت في ظروف إنسانية معينة، تماثل النضالات الشعبية والعمالية في الزمن العربي الحديث، حيث قوانين التحالف الشعبي بين التجار والعمال لتشكيل دول عربية ديمقراطية مطلوبة، للتخلص من عصر تقليدي تفكيكي متخلف سابق.
وإذا كانت أقسام من قوى هذه الثورات تؤمن بالغيب وبالتاريخ الماضي بكل ألوانه وتنغمس فيه لدرجة نسيان الحاضر، فإن أقساماً أخرى تندفع بشدة إلى الحاضر، وترفض الماضي.
لكن شكلي الوعى مختلفان، فالأديان ثمرةٌ لتفكير البشر في ظروفهم ولتغييرها ولكن عبر ركائز غيبية، وتتجسد عبر عبادات ومعاملات، في حين أن الماركسية والآراء الديمقراطية الحديثة وجهات نظر دنيوية منقطعة عن الغيب وما بعد الطبيعة، وتسعى لتغيير حياة البشر كذلك.
وإذا كانت الماركسية الأصولية توحدت مع منهج الأديان محولة نفسها إلى بناء كلي وسيطرة شاملة، فإن الأديان كما صاغتها قوى الاستغلال عبر مئات السنين السابقة، كانت مثل ذلك، وليس الأمر يعود لبنائي التفكير المختلفين بل للبناء الاجتماعى السياسى الشمولي الذي يحول كل فكرة سواء أكانت دينية أم حديثة إلى شكل للسيطرة المغلقة.
وهو أمرٌ لا يتبدى في الدول بل في الجماعات والأسر والتكوينات الفكرية والثقافية، فالماعون الفاسد يفسد كل الطبخات. لأنه ماعون يقوم على ذلك العقل المطلق الذي يعتقد انه كل الوعي والوجود والمصير. ومن هنا تتحول الكتب الدينية والسياسية الحديثة إلى كلمة أخيرة للإنسان.
وتحوّل قوى الاستغلال الحكومية – الدينية الثقافةَ إلى بناء يلغي كل أسئلة الإنسان؛ ويحول حياته وإجاباته ونمط عيشه إلى طقوس لا تخرق، لكن التغيير يشق طريقه سواء عبر كنسية التضامن البولندية العمالية أم عبر أفكار اليسار اللاتينى، فالجمهور يبحث عمّن يدافع عن مصالحه التي تُخنق عبر مؤسسات الإفقار والقمع الشاملة، ثم يدرك الجمهور أن قوى الكنسية غير قادرة على النضال من أجل العمال، كما تدرك شعوب أمريكا اللاتينية ضرورة وجود برجوازية حرة صناعية مستقلة عن هيمنة أمريكا الشمالية بضرورة تصفية إرث الإقطاع في الملكيات الكبيرة الريفية.
إن الجمهور يتحرك ضمن إرثه الديني ثم يكتشف عبر معاركه الاجتماعية أهمية التركيز على فهم الواقع، ورؤية مشكلات الاقتصاد الحديث، ولكنه كذلك يحتفظ بدينه ويحافظ على صلواته!
إن الأديان والماركسية والتوجهات الديمقراطية الحديثة عموماً تتعاون على تغيير حياة إنسان هذا العصر، عبر مناهج مختلفة، وتغدو مقاربات متعددة، وعقول نسبية، يحتفظ كل منها بمساراته وفضاءاته الفكرية متعاوناً على ما هو مشترك ومعوق للناس.

الإمبريالية والماركسية

إن ظهور الاستفادة الواسعة من قبل الإمبريالية للماركسية هو ما يمثل المفارقة التاريخية الكبيرة، حين عجز (الماركسيون) عن الاستفادة من نظريتهم.
لقد أصبحت رؤية الماركسية في صراع الطبقات وظهور التشكيلات ورؤية القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، حقيقة لا يجادل فيها إلا أناسٌ خارج العصر، وغدت هذه مادة إجبارية في الجامعات الغربية، بعد أن عجزت البنيويات والتخريفات كافة في تفسير الصراعات السياسية والاجتماعية، وما غياب الماركسية عن الجامعات العربية والإسلامية إلا فى عجز العقول العربية الرسمية المتخلفة عن الاستفادة من الحداثة الحقيقية.
واعتراف الإمبريالية الامريكية بالماركسية حزباً سياسياً ونظرية، يجيء منذ ان رفع الرئيس كلينتون يديه عن العقل الأمريكي الشمولي واعترف بأن الماركسية تشكل قوة فكرية كبرى في العالم المعاصر وأن التقدميين فى الولايات المتحدة هم حزب شرعي.
ولعل فى غياب المنظومة «الاشتراكية» سبباً آخر في الحيوية الفكرية التي عادت إليها هذه النظرية بعد أن فشل الاستبداد القومي الروسي فى تدجين هذه النظرية لمواصفاته المتخلفة، ولهيمنته السياسية.
لقد استفاد الإمبرياليون من الماركسية أكثر من الماركسيين، وخاصة في مسألة التشكيلة، ولهذا أدركوا أهمية أن يتجاوز العرب المنظومة الإقطاعية التي تهيمن عليهم، وذلك لمصلحتهم ولهيمنتهم في السوق.
إن صراع الرأسمالية الأمريكية الرئيسي ليس مع التقدميين العرب أو مع المتخلفين منهم، أو مع إيران أو غيرها من دول المنطقة، فصراعهم الرئيسي هو مع اليابان واوربا الغربية.
تمثل اليابان وأوربا الغربية، 15% و١٦% من إنتاج العالم الصناعي، والولايات المتحدة ٢٩% من إنتاج العالم، أي أن الولايات المتحدة تقوم بسياستها الحربية فى توسيع الأسواق أمامها خوفاً من العملاقين الآخرين، وقد قرأت النظرية الاجتماعية وعكف خبراؤها على التحول إلى«ماركسيين إمبرياليين»، أي أنهم يستفيدون من قراءتهم لظواهر التطور والصراع الاجتماعي بموضوعية، ولكن ليوظفوها لمصلحتهم الطبقية.
ولهذا ليس ثمة إثم سياسي في اتفاق التقدميين العرب أو الدينيين، مع هذه الإمبريالية إذا كانوا يعملون من أجل إحداث تقدم للعرب والمسلمين، وفي النهاية يريدون التخلص كذلك من هذه الهيمنة الاجنبية.
إن الاتفاقات المرحلية إذا كان خيرها واضحاً جلياً، وباطنها مختلفا عليه وخاضعا للمستقبل ولميزان القوى، فهي اتفاقات إيجابية، لأنها تجعل العرب والمسلمين في القطر المعني بحالة أقوى وأكثر عدة للتصدي لعدوهم، فيما لو كانوا خاضعين لنظام دكتاتوري دموي مدمر لقواهم.
إن العرب أو إخوتهم من القوميات الأخرى التي تشاركهم الوطن، ليسوا معنيين بتطبيق أهداف الإمبريالية أو الماركسية، بل بشق طريق نهضوي ديمقراطي يوحد قواهم في كل قطر، ويتجاوز الطائفيات، وهذا لن يتحقق إلا بنظام رأسمالي ديمقراطي، يقوده الغربيون للاسف الآن!

تآكلُ الماركسيةِ في البحرين

كان الشكلُ الأولي لتآكلِ الماركسية في البحرين شيعياً. فالانقسامُ الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج، بين الطائفتين الشيعية والسنية، ظهرَ مُجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه. كانت ولايةُ الفقيهِ شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهرُ مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئاتُ الريفيةُ المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقودُ العملية التحولية الجديدة، وكان الشكلُ الديني هو بالضرورة عودةٌ إلى الوراء، إلى زمنية الإقطاع، والصراعات المذهبية بين الدول الإسلامية وتجميد تطور المجتمع الإيراني الحر.
وهكذا فإن تسربَ ولاية الفقيه في حركاتٍ مختلفةٍ بحرينية منذ الثمانينيات من القرن العشرين كانت تصطدمُ بالمحافظة السياسية المذهبية السنية بالضرورة. حيث ليس في داخلها مضمون ديمقراطي وطني، وليس في قدرتها الانفتاح وتكوين شيء مستقبلي توحيدي بما أنها ماضٍ، وأوجاعٌ قديمة تُستعاد، ومظاهر طائفية اجتماعية تُسترجع، وأوراقٌ صفراء تُنشر، وأساطير تُقرأ ثانية، وأشكال عبادية تغدو روابطَ سياسية.
ليس في إمكان مثل هذه العودة أن تتلاقح مع طوائف إسلامية أخرى، إلا عبر خضوعها لها، وليس في إمكانها أن تنتج ديمقراطيةً وتحديثاً، ولهذا تقيمُ حواجزَ وتصعد حزازات ومخاوف لدى الطوائف الأخرى.
ولهذا فإن تسييس هذه الولاية أو هذه العودة لأقسام الطائفة السياسية للعصور العتيقة لا تنفعُ فيها طلاءاتٌ سياسية فوقية.
وحين تقبلُ المنظماتُ الوطنيةُ البحرينية في المنفى أولاً هذه العودة وتدخلها في البيتِ الوطني وتعملُ معها، يبدأ مسلسلُ انهيارِ الإيديولوجيات التحديثيةِ المبحرنة خلال عقود.
إن ولايةَ الفقيه تبدأ في تحطيم مشروع إيران التحديثي العلماني الديمقراطي الداخلي أولاً ولا تقبلُ بالتالي تأثيرات تحديثيةً وعلاقات أخويةً في السياسة الخارجية، تصبحُ السياسةُ الداخلية والخارجيةُ وجهين لعملة الدكتاتورية الطائفية، ومن يدور في فلكها يغدو جزءًا منها، ومظهراً من تجلياتها بالضرورة.
وهكذا غدت الأعمالُ المشتركة مع المنظمات الطائفية السياسية من الاتجاه الشيعي هدماً لداخل المنظمات الوطنية، التي كانت في حالةِ تآكل على مدى طويل.
إن الجيلَ الأول التحديثي من المنظمات الوطنية البحرينية يغلبُ عليه الانتماءُ القومي العلماني التنويري عامة، وكان انتماء أهم قياداتها إلى الطائفة السنية، وإلى المناطق المدنية، جزءًا من القيادة التحديثية لمشروع البحرين التحولي العميق الذي تقلقل بعد ذلك.
لكن هذا الجيل يتآكل نظرياً وسياسياً، ويعجزُ عن فهم الماركسية وتطويرها خاصة، والجيل التالي الأكثر فهماً لها يتآكلُ عملياً، والتطورُ النوعي الواسع للأعضاء لا يحدث، وتصبحُ القواعدُ شيعية أكثر فأكثر. لأن الزخم الجماهيري يتوجه نحوها، لهذا تغدو قياداتُ الانقسام والانتماء لولاية الفقيه تتويجاً لهذا التحلل.
لكن لماذا يصير زمن الانفتاج والوعود الديمقراطية زمن الطائفية السياسية المتصاعدة؟!
كانت إعادة تشكيل الجماعات وخاصة الجماعة الماركسية عفوياً وتجميعاً للعضوية غير الرسمية وغير المتطورة على مدى سنوات، ولكل من كانت له صلة، رغم تقطع الصلات وذوبان السمات النضالية خلال سنوات الابتعاد وعدم تطبيق الشعارات والبرنامج السياسي.
لم تكن الإعادةُ في بدء الانفتاح بحثاً عن العضوية المميزة والشخصيات النوعية القليلة ولكن المعبرة عن التجربة التراكمية النضالية لعقود، بل للتجميع العشوائي، ولهذا فإن هذه العضويةَ الهشةَ الواسعة، ما كان لها أن تصمد أمام الاختراقات السياسية الطائفية المنتشرة بقوة.
في هذه الفترة كان الاختراقُ الطائفي الشيعي السياسي هو الأول. فبعد فتح الباب له من قبل قياداتِ الجيل الأول وعدم فهمه وحصاره، تسربت مفاهيمُهُ إلى دواخل الجماعات التحديثية، ولكن كانت المشاركة في الدورة الأولى للبرلمان البحريني من قبل اليسار ورفض المقاطعة دليل على بقاء حسٍّ سياسي مميز كان لا يزال وقتئذ، كما أن مشروع دولة ولاية الفقيه البحريني لم يكتمل بعد، حتى تفجر في (الربيع العربي).
وقد بين ذلك عدم القدرة على خرق جدران الجماعة المغلقة لتشكيل مجتمع ديمقراطي وطني. الأمر الذي انعكس على تمزق الجماعة الماركسية طائفياً وتمايزها شيعياً وسنياً.
والشكل السني تصاعد هو الآخر بعد هذه السيطرة، تعبيراً عن تحلل واسع للجماعة ليقوم بنفس الآلية تحت إطار مذهبه. وسوف يعتمد على مقاربة الدولة ومؤسساتها، والتداخل مع الجماعات الطائفية السنية، وغالباً ما يجري طرح الحداثة والسمات الحضارية هنا لكنها غير مكتملة فشرطُ العلمانية المحوري يُرفضُ بقوة، ولهذا نجد اتحاداً نقابياً شيعياً في مواجهة اتحاد نقابي سني.
ويُفترض عدم تمزيق حتى الروابط الهشة بين الجماعة، وإعادة النظر في كل هذا التاريخ، وعدم القيام بنفس الطائفية السياسية بشكل سني هذه المرة، وإعادة اللحمة وكتابة دراسات حول مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وإثراء الوعي الوطني والإعلاء من سمات الحداثة وخاصة العلمانية والديمقراطية والوطنية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 11, 2023 22:18
No comments have been added yet.