اليسار في البحرين والانتهازية

عبـــــــدالله خلـــــــيفة
‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي
𝓐𝖇𝖉𝖚𝖑𝖑𝖆 𝓚𝖍𝖆𝖑𝖎𝖋𝖆
𝖆𝖚𝖙𝖍𝖔𝖗 𝖔𝖋 𝖘𝖙𝖔𝖗𝖎𝖊𝖘 𝖆𝖓𝖉 𝖓𝖔𝖛𝖊𝖑𝖘
21.10.2014 | 1.3.1948

#المنبر_التقدمي

البورجوازيون الصغار الانتهازيون

هم أساسُ العيارة والجمبزة والانتهازية وتخريب التطور، المنافقون المعاصرون، لهم في كل حزب موقع، ولهم في كل ثورة نصيب، ولهم في كل ثورة مضادة نصيب، وهم مع الفقراء والأغنياء، وهم مع اليسار واليمين، وهم مع الدينيين ومع الملحدين، وهم مع الحكم وأعدائه، وهم مع الحقيقة والباطل، كيفما شئت والمهم أن تدفع!

المهم أن تغذيهم بالأموال، أو بالشهرة والمجاملة والنفخ، فالأموال والجوائز والعطايا والكراسي تغذي النشاط الفكري لديهم، تجعل مكوناتهم العقلية فجأة تتفتق بالاكتشافات المبهرة، والثلاجات المليئة باللحوم والسيارات والأراضي.

هم متخلفون في الفكر وإنتاج الكتب، نتاجهم مزيف، ليس فيه أي تحليل للصراعات الطبقية المعاصرة، لأنهم يرفضون أن يتخذوا موقفاً بين الفقراء والأغنياء، بين العمال والإقطاع والبرجوازية، عيارون جدد، ثم يتشدقون بالكثير مع الخرافات الحديثة والقديمة، وهم جبناء انتهازيون يهتمون كثيراً بجيوبهم، وليس بالدفاع عن الحقيقة والناس. من هنا لا يتعمقون في المعارك الاجتماعية والسياسية، فكيف يواصلون ذلك وفيها قطع أرزاقهم الوفيرة؟

فتجد دائماً أن كلماتهم تنصب في اتجاه معين وحيد، مستمر أبدي، لا يتحول ولا يتبدل، وكأنهم آلات ممغنطة وكائنات موجهة، تقرأهم وأنت في البيت دون الحاجة للقراءة، يخافون من أي توجه آخر، مدارون إلكترونياً من أقمار صناعية ومن مخافر كونية، كأنهم وُضعوا على سكك الحديد، لا يلتفتون يمنة أو يسرة، يدافعون عن حكومات، أو عن اتجاهات سائدة بالشعرة مهما ناوروا أو أدعوا، ولهم البنوك والمعاشات والكراسي والجوائز والمنافع والمناصب   والبلاعات، فهي أفكار مدفوع لها سلفاً، وهي كتابات مأجورة مقدماً، وسخافات لانفع فيها وضررها كثير على العقول.

بين عشية وضحاها يتقلب البرجوازيون الصغار الانتهازيون، من العلمانية والثورة التقدمية إلى مساندة التخريف الديني، التخريف الديني والشعوذة وليس إلى  تصحيح هذه المفاهيم وإنتاج عقلانية دينية مفيدة مهما كانت كذلك مصائبها، وينتقلون من الدعوة للثورة العمالية وانتفاضات الكادحين إلى خدمة الملالي والمجرمين المطاردين دولياًً، وتبرير الأرهاب بكل اشكاله لكن دون أن تصيب حصالاتهم وعائلاتهم المقدسة أي ضرر، ويعملون لخدمة الطائفيين وأجهزة الاستخبارات للدول القومية والدينية الدكتاتورية، (يا إلهي كيف يبيع هؤلاء الناسُ أنفسَهم بين عشية وضحاها ؟!).

والأدباء واللامبدعون لهم نصيبهم الكبير الوافر من هذه الانتهازية، وقد كنا ننتظر نضالهم وفضحهم للاستغلال وجلب العمالة الأجنبية الرثة والتصدي للدكتاتوريات وحكومات السرقة، في قصصهم وأشعارهم ورواياتهم، ولكن لا خبر جاءَ ولا نشرٌ نزل!

لكنهم يتعللون أن الأدب والفن ساميان لا يتلوثان بهذا الأسفاف الشعبي، وأنهما نائيان عن المادة، وعن الجمهور البسيط ومحدودية إدراكه وسذاجة مفاهيمه، ومع هذا فنجد أنهم مشغولون بالمادة الذهبية كثيراً، خاصة في شراء اللوحات وكسب الجوائز وطباعة الكتب مجاناً والحصول على تذاكر السفر وحضور المهرجانات بأبهة، ويقولون إن ليس لهم علاقة بالأجور والسفاف الدنيوية فهم من مادة صوفية أثيرية تضحوية خالدة إلا إذا انخفضت مرتباتهم الكبيرة، فسوف يجأرون بالشكوى كثيراً، لقد جفت أشعارهم ولوحاتهم وكتباتهم فقد نأوا عن نضال الشعب، وصارت الكلمة هي الحصالة، وصار الموقف تبعاً لأسعار البورصة، وقل أعطني شيئاً أكتب لك ما تشاء، ثم صار الهراءُ الشعري المادة السماوية التي منها يمتحون كل سخافاتهم وأعمالهم المسرحية والفنية وبراءتهم من دم يوسف! دم الشهداء والمناضلين! وتجدهم يهرجون في المسرح وفي الكتابة وفي السياسة ويظنون أن القراء والمشاهدين جهلة لا يعرفون ما وصلوا إليه من إنحدار ومن عجز عن المقاومة! هل إفادتهم كلماتهم ولوحاتهم وأصنامهم شيئاً إلا ما هو عابر؟

ولا يقل مواطنوهم وأقران السؤ الآخرون (الدينيون) عن هذا المثال (المشع)، بل لقد سبقوهم في العيارة والنصب على السذج، وهؤلاء تاجروا في الدين وهذه من أعظم الكبائر، وجعلوه مصيدة وحصالة فبئس ما يصنعون! إلا من ناضل  جاهراً قوياً من أجل حقوق الناس لا تهمه في الحق لومة لائم وإذا صار لا يُدفع له شيء واصل طريقه، وليس نضاله متوقف على دخله الرفيع، أو على رئيس وكرسي بائس!

البرجوازيون الصغار الانتهازيون ليس لهم من مال كبير يحفظهم من السؤال، ولا من موقف متجذر يرفعهم عن الانحدار، ولا من عمق الفكر ما يسمو بهم عن التسول، ولا من عمق الدين ما ينأى بهم عن التجارة بما هو ثمين لا يُقدر بمال!

خسروا الموقف وهو جوهر الشخصية وتراكمها الأخلاقي الرفيع وقدرتها على النمو والتأصيل والتحليل والبقاء الشامخ والنقد الشجاع الذي لا يطلب مكأفاة ولا رعاية من لصوص، ولا تقدير من الحقير ذي الجاه والمال.

انتهازيةُ التحديثيين

تعددت علاقات فئات البرجوازية الصغيرة بالإقطاع وهي تعتمد على طبيعة العصر ونمط الإنتاج. حين نقرأ كيف يتدهور وعي هؤلاء ويتراجعون من الحداثة إلى المحافظة والطائفية  فلا بد من قراءة ثقافة المرحلة، وزمنية الإقطاع السياسي فحين تكون الدولةُ العربية أقوى من نفوذ رجال الدين ممثلي الإقطاع الديني، هنا تكون لديها من الموارد ما يكفي لشراء ذمم هؤلاء وحين تفقدها يلجأون لغيرها.

 إن توجه مجموعات و- لا نقول تيارات فكرية سياسية- إلى النفخ في الجماعات الدينية الطائفية بشكل كبير ثم التراخي عن ذلك بسبب قلة الدفع المالي لها من الجماعات الدينية التي صارت هي الممول الكبير يوضح طبيعة التدخلات السياسية الفوقية والأجنبية وحرف هذه الجماعات عن التجذر في أرضها والتغلغل في تحليله ودرسه وكتابة بحوث وبرامج  مؤصلة لقضاياه.

إن هذا الوعي المسطح التجهيلي يقود الناس للكوارث، سواء في اختياراتهم التشريعية أم في نضالاتهم اليومية المجمدة عموماً، ولهذا فإن مبدأية التحديثيين وتوجههم لنشر الخيارات الفكرية الوطنية والديمقراطية والتقدمية غدت طوق النجاة.

أثبتت المرحلة خطورة الانتهازية والكوارث التي سببتها والحصاد المالي الشخصي لبعض قياداتها التي لعبت على الحبال واختارت الدوائر الرسمية وعطائها فكانت مع الطائفيين ساعة صعودهم ومع المال والنفوذ ساعة قوته.

ونجد في انتقالاتها الجغرافية والحياتية والعملية غياباً لأي وعي متجذر وما هي سوى شعارات زائفة كتحبيذ الاشتراكية والدعوة إليها وأصحاب الدعوة همهم جمع المال!

وما تزال قواعد هذه الجماعات غير قادرة على النقد وطرد الانتهازيين من صفوفها وما تزال تعطي لهذه الوجوه المتراقصة على الحبال السياسية مكاناً مهماً.

وهكذا نرى الأشكالَ الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة كيف تتذبذب حسب تدفق البحر الاجتماعي، فحين تكون الدولة العربية قوية وذات موارد وتجزل لهم العطاء يؤيدون الكل التحديثي من التطور،  ويعادون الموجات الدينية، حتى إذا بدأت الموازين تختل وضعفت مواردُ الدولة العربية وتفاقمت أزماتُها انتشر الجرادُ الطائفي يأكلُ الحقولَ ويشيعُ القحطَ في الحياة وراحت هذه الفئاتُ نفسها تصعد يافطات مختلفة، تؤيد العودة للوراء وهدم التطور الوطني والحداثة والعلمانية.

وإذا كان الجماعات الدينية القديمة قد فككت الجماهيرَ العربية وقسمتها إلى فسيفساء وأهلتها للسيطرات الأجنبية فهذا ما يقوم به الطائفيون المعاصرون وتوابعهم من البرجوازيين الصغار الانتهازيين المتذبذبين، الذين وجدناهم في مرحلة يرفعون شعارات الثورات العمالية الحمراء والبندقية وسحق الأديان ولا يحللون أزمات الدول وعدم ضبطها للتطور والقيام بإصلاحات جذرية لصالح الجماهير العربية منساقين مع التدهور العام في وعي هذه الجماهير مكرسين التخلف فيها.

في الزمن الراهن كذلك يتصاعد الشكلُ اللاعقلاني من الوعي والتطور، فلا تعرف الجماهير كيف تغير، وتتدفق جماهيرٌ متخلفة في الدرس والعمل على المدن وتطرح مستويات فهمها المتخلفة.

وتقود هذه المعارضات وطرح البرامج المحافظة إلى انقسام الناس وتأييد الفوضى وعدم التوحد، وتتوجه فئات البرجوازية الصغيرة لتأييد الصاعد الذي يزداد طائفية وتخلفاً وتفكيكاً للصفوف والعودة للوراء.

هكذا تنقسم النقابات والمعارضة والأشكال التوحيدية في العمل السياسي وتتوجه فئاتُ البرجوازية الصغيرة لتأييد اللاعقل في المعارضة أو الموالاة، ويغدو الإقطاع الديني هو الأقوى ولهذا نرى الاقسام بين الدول الإسلامية بمنحيين، طائفيين رئيسيين خطرين متصادمين.

ويغدو الخروج من العصر الحديث وتمزيق البلدان ونشر الفوضى والتخلف والحروب هو البرنامج الحقيقي لهؤلاء الذين يركبون الموجات ولا يقدمون حفراً عميقاً في الحياة ولا يضحون بل يريدون الناس هم الذين يضحون من أجلهم. ومن هنا نجدهم يقيمون علاقات مشبوهة مع كل الجهات حسب الفوائد التي يجنونها.

انتهازيةٌ نموذجيةٌ

منذ أن أخطأ بعضٌ من أفراد الجيل الوطني القديم في التحالف مع الطائفيين، نظراً لهشاشة جذورهم الفكرية السياسية العلمانية الوطنية، والأعشاب الضارة تتالى من هذا المنبت.

قام الجيل بتضحياته ومغامراته وكان من الضروري نقده، لكن الحالة النموذجية الانتهازية رغم تكرارها لأهمية العقلانية والهدوء التحليلي وبعد النظر تروح تصرخ هائجة وتحيل الموقف وتشريح الجيل القديم لحالةِ تشنجٍ شخصية بدلاً من تطبيق تلك المفردات الكبيرة في الموضوعية والعلمية لكون القائل الناقد لا يعجبها ولا يقترب من مستنقعها وانتهازيها.

ويمكن أن يستفيد بعض المتعلمين من خلفياتهم السابقة، ويتلاعبوا أكثر بقضايا النضال بدلاً من تجاوز الجيل القديم الذي لم تتح له فرص الدراسة الأكاديمية.

 خلطهم بين العمل السياسي والدين يغدو تلاعباً، فهم من المتعبدين ومن الانتهازيين. فأي جهة تجلب مصلحة ذاتية يمكن تسويقها. من حقك أن تصلي لكن ليس من حقك أن تلغي تاريخ التيار الوطني في العلمانية وفصل الدين عن السياسة!

حين يغدو الصراع السياسي الطائفي حالة اشتباك عامة يجري تصويرة كثورة وجر الوطنيين إليه، وحين يفشل يتبدل القناع، وتـُفضل المصلحة الخاصة. ولا تـُنقد هذه الأخطاء وتـُحلل بل تـُترك للاستفادة من غموضها!

حتى كوارث الشعب العارمة لا تنجو من الفلتر المصلحي الذي يقضم بعض خيراتها رغم الضحايا والكوارث!

كتاباتٌ هزيلة تستفيد من أي موقع، ويهمها التراكم المالي لا النقدي، لا تقوم بتجذير أي تحليل، وتحاول التقليل من شأن الكتابات الوطنية التقدمية وتخريب حتى أسماء أصحابها والتصغير من نتاجاتهم والتعتيم على وجودهم بأشكال صبيانية.

هذا الحقد نتاج تضخم ذاتي وإعطاء هذه الذات الهزيلة فكرياً مقاماً رفيعاً، فهي يجب أن تكون القائد الأول والزعيم المعترف به رغم الهزال الفكري والتلاعب السياسي وغياب النتاج الموضوعي الدارس للبنى الاجتماعية والصراعات الطبقية.

تخريب التيار هو جزء من المصلحة الذاتية فكلما كثر العميان المتخبطون في الليل السياسي كلما وجدت هذه الذات فرصاً للتلاعب بمصير الوطن والناس.

هي جزء من هذا الخراب الذي أمتد عقوداً وهو خريف اليسار حيث لا جدل عميق ولا شخصيات تؤصل الماضي وتصعد بإنجازاته، فهي مشغولة بمنافعها واستغلالها للماضي والحاضر، أو هي جامدة لا تقرأ وتدرس.

  قوانين الانتهازية

للانتهازية سواء كانت يسارية أم يمينية، علمانية أم دينية، في السلطة أو في المعارضة، قوانين مشتركة.

وقد عمل الانتهازيون في صفوف اليسار طويلاً لعدم توحده، ولتضارب شخوصه ورموزه وقواعده، ولعدم إنتاج فكر مستقل له، بهدف عدم وجود قوانين موضوعية لفكره ولكيانه على الأرض تحاسبهم، وبالتالي يمكنهم التحرك واستغلال تلك القواعد المهلهلة، لمصالحهم الشخصية.

وهكذا هم اليوم يتعكزون على الدينيين أو على جماعات صغيرة شخصية وعديمة الوعي، من أجل وصولهم لكراسي السلطة بشتى أنواعها، وللثروة. فذلك النخر داخل الحركة اليسارية لإطفاء جذوة وعيها وعدساتها الضوئية الاجتماعية، من أجل حركتهم الفردية، وسطوتهم، وعلامات هؤلاء الفارقة هي الغرور والتضخم الشخصي وبث العداوة بين اليسار وربطه بالقوى المحافظة السياسية والدينية وقطف ثمار الثروة.

وهذا ما يقوم به الجيل الجديد من الانتهازية داخل الحركات الدينية، فهو يصعد على تضحياتها، وقواعدها، ولا يقوم بكشف قوانين الثقافة الإسلامية، عبر درس تجربتها، وأسباب انهيار حضاراتها، وتناقضات حركاتها، وكيفية توحدها بالجماهير العاملة، من أجل أن تظل القواعد عمياء، والتنظيمات بلا قوانين ديمقراطية، ولا يتم التفريق بين المضحين والشهداء وبين اللصوص.

إن انتهازيي اليسار يريدون أن يصعدوا إلى البرلمان والسلطة دون تيارات قوية على الأرض، يضحون من أجل زرعها وتكوين عقليتها الديمقراطية بل لعبوا دوراً كبيراً في تمزيقها، فيتعكزون على تضحيات غيرهم، الذي لا يوصلهم إلا بشروط هي أن ينكروا وعيهم اليساري، ويصيروا أفراداً لا يعبرون عن فكر.

 وبين انتهازيي اليمين الديني وأولئك علامات مشتركة، هي أن الانتهازيين في الحركات الدينية وقد استندوا على قواعد منتفخة كماً، عاطلة من الوعي كيفاً، يحبذون هذا النوع من الانتهازية اليسارية، فالدم واحد، وهم يقولون لقواعدهم نريد مثل هؤلاء الذين يعطلون قوانين الوعي والديمقراطية، وهم يعيدون إنتاج هذا النمط داخل حركاتهم، لأنهم غير قادرين على إنتاج ثقافة إسلامية ديمقراطية، تفترض الوحدة والعودة لجذور النضال الموضوعية والاستناد على حركة الجمهور المنظم المسئول السائل.

وكما عانت حركة اليسار من الانتهازية في صفوفها فسوف تعاني الحركات الدينية من الانتهازية في صفوفها سواءً بسواء، فهؤلاء يضعون نظاراتهم المكبرة على الكراسي والثروة، ولم يكن لديهم إنتاج فكري يحدد خطواتهم على الأرض، وبالتالي تغدو حركاتهم دائماً ذاتية كيفية اعتباطية، بلا دستور يؤطرها، ولا قانون يضبطها، ولا قواعد تحاسب عليها.

ولهذا تعتمد الحركات المصنفة بهذا الشكل على عدم خلق النتاج الفكري المؤطر المـُنتج بشكل طليعي والمُناقش بشكل جماهيري بل تعتمد على فلتات الزعيم دام ظله.

فهم يومٌ في أقصى اليسار وهم يومٌ آخر في أقصى اليمين، فلماذا جرى هذا الانتقال العنيف؟ وأين ذهبت التضحيات وكيف ضاعت ساعات العمل والجهود والزمان فهذا كله لا يهم والمهم أن الزعيم جاءته علامة، وحضرت له خاطرة بارقة عظيمة، فحول مسار القطيع.

وهذا الأمر نفسه في الدولة، فالانتهازية موجودة في كل مكان، والانتهازيون الحكوميون لا يريدون أن تكون للدولة قواعد، تحدد تقاسم الثروة وكيفية إجراء المناقصات وكيف تـُحدد الميزانية بشكل علمي وكيف تنـُاقش بشكل شعبي، ولا يريدون أن تـُعرف دخول الشركات وأين تذهب، وأن يظل هناك الخيط السري لتوزيع الثروة للبعض، وهم مثلهم مثل بقية الانتهازيين يقودون المجتمع للهلاك في سبيل صالحهم.

تتفق هذه القوى كلها  على إبقاء لعبة السياسة في أيديها، وكيفية توزيع الأدوار بينها، وتغذية بعضها بعضاً، وفي النهاية يبقى العمال عمالاً ومحدودي دخل بينما يصعد الانتهازيون ويحصلون على الفلل والبيوت والأرصدة ويذهبون للمؤتمرات ويصدرون الكتب عن إنجازاتهم ونضالهم الكبير من أجل الجماهير!

الانتهازية والموضوعية

من الصعب أن يكون الانتهازي موضوعياً، فهو يرى الجهة التي يستفيد منها كأعظم الجهات، والجهة التي يخسر منها كأسواء الجهات، ولهذا لا يرى أي جانب إيجابي في الجهة التي تعارض مصلحته، ولا يرى أن الجهة التي يستفيد منها تسبب الأضرار للآخرين.

وحين تصبح المصلحة الذاتية مُسيرةً لوجهات النظر الفكرية والسياسية، يتشابك الذاتي والموضوعي، وتضيع الحقيقة !

ولهذا حين تصطف جمعيات عديدة مع الدولة لأنها تستفيد منها، وتختفي لغة النقد الموضوعي منها، حيث إذا رأت شيئاً سلبياً من الدولة صمتت، وإذا رأت شيئاً إيجابياً اندفعت تلهج بالمكاسب والمآثر.

وعلى العكس حين ترى شيئاً إيجابياً في الخصوم تسكت، ولا تشير إلى هذا الإيجابي وكأنه لم يكن، وحين ترى شيئاً سلبياً تندفع لإصدار البيانات والتصريحات.

بطبيعة الحال هم يستخدمون هنا لغة تتظاهر بالموضوعية، والصدق والوطنية، والحفاظ على مصالح الشعب العليا وضرورة رؤية التقدم والتسامح الخ..!

وتفعل الجمعيات الأخرى ذات الأمر ، وتتبع نفس الخط، ولكن لمصلحة مختلفة. فإذا قامت الدولة بشيء إيجابي سكتت، أو تحدثت عن النواقص الكبيرة في هذا الإنجاز، وتصبح أحياناً التحولات المهمة في الحياة السياسية بعد عقود الجفاف وكأنها تخلو من أي شيء إيجابي في المسائل المفصلية للحياة السياسية.

وحين يقوم أصدقاؤها بأعمال ما ترفعها إلى السماء، ولا تشير إلى أي جانب سلبي، وخطر على الحياة السياسية والاجتماعية، وكأنها تقدم هؤلاء كأنهم حملان أو غزلان، ولا ترى عمليات التحشيد السلبية أو تراكم الجهل في الجمهور وعدم تبصيره بالحقائق عن هذه الظواهر، فقط لأنها ظواهر صديقة، فصديقي منفوخ كالبالون وعدوي مخسوف إلى أسفل سافلين !

إن الرؤية الذاتية هنا، سواء عند مناصري الدولة الأشداء أو خصومها الأشداء، لا تنتج حالة سياسية وثقافية صحية، ولا تكون وعياً موضوعياً يتراكم عند الناس، بل تقوم على ثقافة الشحن الانتهازية التي لا تتبصر الطرق ومنعرجاتها القادمة، ويقودها سائق مسرعٌ لا يفكر سوى بالوصول إلى وجبته الساخنة، ولا يهتم بالمارة وإشارات المرور !

ولكن يظهر من هذه الحالات الذاتية المصلحية أناسٌ يتبصرون بموضوعية الأشياء، ويغدون أكثر حكمة وعقلاً، ويقومون بتغيير زوايا رؤيتهم ويكتشفون في خصومهم نقاطاً إيجابية، وفي أصدقائهم نقاطاً سلبية.

وعلى مدى نشاط هؤلاء الموضوعيين وتجميعهم للقوى السياسية، وتركيزهم على السلبي أياً كان مصدره، والإيجابي أياً كان منفذه، تتوقف العمليات السياسية والفكرية والتغييرات واتجاهها.

وكلما أزداد عدد هؤلاء في مختلف الجمعيات والتيارات وناضلوا بجرأة من أجل الموضوعية الفكرية والأمانة السياسية، كلما ترسخت خطوط العقلانية والدفاع عن المصلحة العامة، ويزداد انحصار أولئك الذين يكرسون مصالحهم الخاصة، باعتبارها هي الوطن والحقيقة والمستقبل.

لكن هؤلاء الذاتيين المصلحيين ليسوا ضعافاً، بل هم أقوياء، ويستمدون قوتهم أساساً من تفكك الموضوعيين وأصحاب النزاهة، ومن قلة المدافعين عن المصلحة العامة بشكل مستقيم وكلي، لكن النضال السياسي يعتمد على التغلب على هؤلاء بأدوات الوضوح والكشف والتعاون بين مختلف العناصر النزيهة.

إن الانتهازية تتكشف عبر التحليل الواسع والموضوعي وعبر النضال المشترك لتعرية الأقنعة المختلفة.

أسباب الانتهازية في اليسار

تعود أسباب انتشار الانتهازية في اليسار إلى عجزه الفكري عن التحليل، وفي الحياة السياسية تمثل تلك انتهازية من قبل القوى القيادية فيه، لمشاركة قوى الاستغلال في شيء من غنائم المال العام.

وهكذا يتم غض النظر عن جوانب والتركيز على جوانب، بهدف إظهار حسن النوايا سواء للإقطاع المذهبي أو السياسي، بحيث تبدو وجهة النظر المساقة متفقة مع نضال الشعب والديمقراطية والوطنية الخ، لكن من يطلقها يحسب حساباً طبقياً استثمارياً فهو يهدف لخدمة مصلحته.

حين يهاجم الدينيين بقسوة فهو يقصد هنا إظهار نفسه تحديثياً رسمياً وإنه يصلح للارتفاع إلى مقام الموظفين الكبار، وحين يهاجم الرسميين بقسوة مماثلة يريد مغازلة الدينيين لكي يصعدوه إلى مراتبهم العلية.

وتتشكل هنا أقسام جزئية أخرى داخلية ضمن هذا التعدد السياسي والطائفي المتنوع، فهذا يغازل طائفة وآخر يغازل طائفة وثالث يغازل جناحاً في السلطة وآخر يغازل جناحاً آخر، وخامس يغازل جناحاً في الجماعة المذهبية المنشقة وهكذا دواليك يقوم هؤلاء بجرنا إلى الخراب الطائفي..

وبدلاً من نشر الوعي الديمقراطي بين الناس كوعي أساسي يجري نشر الوعي الشمولي وتغليب العناصر الانتهازية..

إن الذين أيدوا إنجازات التحولات نسوا سلبياتها لأنهم قبضوا ثمن السكوت عن السلبي وركزوا على الإيجابي..!

والذين ركزوا على السلبي سرعان ما قفزوا لاستثمار إيجابياتها دون ذكر هذه الإيجابيات، لأن الجمهور الذي صنعوا وعيه على كراهية النظام لا يستسيغ مثل هذه القفزة البهلوانية!

وهو إذ يريد معارضة السياسة السائدة يريد تحولات في رواتبه ومساكنه وأحجام عمالته، لكن الذين يتسلقون على نضاله ومشاعره يريدون الوصول لأهدافهم الخاصة مع بعض البهارات النقدية.

وإذ استطاعت قوى اليمين أن تزيف تحركاتها الاستغلالية تحت غطاء كثيف من البخور الديني، لكن قوى اليسار تاهت ووضحت انقساماتها القائمة على الأهداف الذاتية، فشاركت في التقسيم الطائفي وتعميقه بين فئات الشعب المختلفة.

وصار الوصول للكراسي بديلاً عن إنتاج ثقافة سياسية ديمقراطية تحديثية توزع على كافة السكان، لأن التقلبات في السيرك السياسي كانت كبيرة لا تتيح خلق وعي، فيظهر  موقف حاد ثم يعقبه موقف مناقض، ولا تردم الهوة بين الموقفين من خلال مواقف عقلانية صبورة في كل المواقف.

وهذا كله يفتت جبهة المعارضة وجمهورها الذي يبدأ بالانحسار والتشتت والتمزق وربما التضارب مستقبلاً!

وظهر هناك اتجاهان أساسيان في اليسار الاتجاه الأول هو اتجاه انتهازي، ويتوجه لدعم اليمين الديني، مقابل رشوة سياسية، واليمين الديني أثبت خواء تجربته السياسية سواء لدى المقاطعين أم المشاركين، بل وخطورة تسيده على القوائم والكراسي، لما يقود إليه من أخطار.

والاتجاه الثاني حائر متصارع متذبذب، بين حدة في الهجوم على التيارات الدينية اليمينية، وبين الخشوع لهجومها الخطر على التقدم الوطني.

والاتجاهان يكملان بعضهما، وهما نتاج خطة خفية مشتركة، تمهد الدروب للمتطرفين الدينيين لكي يتقاتلوا ويخربوا..

 ضعف اليسار وانتشار الانتهازية

 وهاتان السمتان تمثلان وجهي العملة، فقوة اليمين المذهبي تستندُ إلى ضعف اليسار وضعف اليسار يقود إلى قوة اليمين الطائفي بفصائله المختلفة.

 والفئاتُ الوسطى المرتكزة على هذا الوعي اليميني المنتشر تقود بالضرورة إلى التهاون في قضايا العمال والموظفين عموماً، فالوعي المذهبي السياسي غير ملتزم بأي برنامج لمصلحة الشغيلة، وهو عبر هذا الغموض الاجتماعي يصَّعدُ بعض افراده لحيازة المكاسب.

 إن الوعي المذهبي السياسي كوعي انتهازي عميق يحتاج إلى مثل هذا الغموض لعدم الارتباط بالقوى الشعبية وتغيير أوضاعها الاجتماعية، ولبقائها في خدمته.

 ويجرى هنا استغلال الإسلام لخلق مثل هذا الدخان الاجتماعي لتصعيد الانتهازيين.

 وبالتأكيد يجرى ذلك عبر الطائفية وليس عبر التوحيد الإسلامي.

 فنحن نتمنى أن يسيروا على درب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في مكافحة الاستغلال، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟

 والطائفية بحد ذاتها إعلان عن توسع تمزيق الشعب وتوسيع هذا التمزيق إلى مستويات سياسية عليا.

 وضعف اليسار هو الوجه الآخر لقوة اليمين، فاليسار بذيليته لقوى الطائفية، قام بتمزيق صفوفه، لعدم قدرته على الارتقاء إلى مهمات الإسلام التوحيدية، والوطنية، والإنسانية، وتبعيته للطائفيين.

 وتمزيق صفوفه تشكل لملاحقته الشعبية السطحية لهذه القوى، وبدغدغة عواطف الجمهور الجاهل بمصالحه، الذي يقود نفسه للكوارث، كما تشكل ذلك بالضعف التنظيمي الداخلي والصراعات الذاتية، التي شكلها أفرادٌ مرضى معقدون منفصمون عن معارك الناس، ومهووسون بذواتهم الفارغة المريضة. إن طرد هؤلاء من صفوف اليسار صار مهمة ملحة للقواعد بأسرع وقت ممكن.

 ومن هنا فالوعي الوطني الذي علامته البارزة هو اليسار في هذه المرحلة والمرحلة السابقة، لم يجد ممثلين بارزين له. ومن هنا ستتواصل اللعبة الذاتية في استخدام قضايا الناس لتعبئة الجيوب.

 كما يتضح ذلك في ضخامة أعداد المستقلين، الذين لم يحسموا الخيار التاريخي بالصراع الوطني ضد الطائفيين وضد الاستغلال على أغلبية الناس والعاملين؛ والذين يتمسحون بأذيال الطائفيين لتصعيدهم إلى الكراسي، وليس في نضالهم من أجل مصالح الجمهور، التي تترابط مع النضال الوطني ومع قيادة اليسار في هذه المرحلة من التاريخ.

 وأقول اليسار لأن الفئات الغنية العليا صمتت عن الكفاح خلال العقود السابقة، ومن يحمل خطها الآن في المعركة، لم يثبت موقفه بشكل ملموس ومتجذر في الأرض.

 ومن الواضح أن قوى التضحية تضعف مع ضخامة الجهل الشعبي، ولهذا فمن الصعوبة في هذه المرحلة هزيمة القوى الطائفية، لكن يجب عدم الاعتماد عليها حتى في هذه المرحلة؛ وبضرورة عدم خداع الناس بأن هؤلاء سيفعلون أشياء مهمة؛ والخوف أن يفجروا معارك مجانية داخل البرلمان، فنرجو أن يواصلوا التعقل الذي بدأوه مؤخراً بالركون للوحدة الوطنية والنضال السلمي الداخلي المتأني. وتتضاعف المسئولية في الخليج مع طرح الملف النووي الإيراني وما سوف يحدثه من كوارث على المنطقة.

 إن ظهور برلمان وطني توحيدي يكرس نفسه للولاء الوطني ولا يكون تابعاً لقوة سياسية خارجية يصعد الأزمات والصراعات تبعاً لريموت كنترولها، هو الخندق الأساسي الذي يجب أن نصطف فيه، مدافعين عن التطور الديمقراطي الداخلي في أي بلد، وبضرورة رفض التدخلات الأجنبية وإعطاء الشعوب حقوقها كذلك.

إن مهمات النضال الوطني التوحيدي ومعالجة المشكلات الكبيرة من تدني الأجور وسياسة سيادة العمالة الأجنبية وضخامة تلوث البيئة وعدم وجود تخطيط عمراني — اقتصادي متكامل الخ، ان كل هذه المهمات وغيرها يجب أن تكون بؤرة عمل البرلمانيين. لكن توجه المذهبيين السياسيين هو توجه طبقي بخدمة شرائح صغيرة في المجتمع.

الانتهازيون والفوضويون

مع غياب التيارات العقلانية الوطنية الديمقراطية انفتح الباب للفوضويين والانتهازيين للسيطرة على الساحة العقلية المعطلة للجمهور.

انتشار الوعي الديمقراطي توارى بسبب هذا الكم من الفوضويين والمسعورين سياسياً والحمقى فكرياً، فهؤلاء كانت مهمتهم الحقيقيةخلال سنوات عديدة سابقة هي تخريب ساحة النضال، ففي أيام العمل السري كان تجنيد الأعضاء ودفعهم في معارك غير متكافئة، وجر الشباب لأعمال تفوق فهمهم، وكان شعارهم (اعترفْ وأخرجْ من السجن) مما صحر القواعد وغيّب المناضلين والتراكم الديمقراطي والتماسك النضالي والصلابة السياسية والأفق الفكري المنفتح.

أعتمد هؤلاء على لغة الصراخ والانفعال الشديد مما جعل سياسة الحماقة هذه تولد(قادة) فوضويين عنفيين كل قدراتهم تكمن في الصراخ وعدم فهم الواقع والمستقبل، مما أدى إلى انتشار مدرسة الحماقة هذه خاصة في الجيل التالي الذي أجدب يسارياً ووطنياً ووسع من الدينيين الطائفيين الذين أوصلوا هذه الحالة للذروة،  وقسموا المجتمع، وهدموا الفكر والتطور.

ما زال هؤلاء المغامرون الفوضويون يحكمون الصفوف الأولى في الجماعات السياسية، ويكرسون نهج الحماقة حتى بعد أن أُصيب الجيل الأول بالخيبات والاختفاء والهزائم.

هذا صّحر الواقع السياسي من الوعي، ومن رؤية المستقبل والانضباط العقلاني السياسي، وجعل الجملة الحادة الصاخبة، واستعمال الأيدي والألفاظ البذيئة والادعاءات السياسية المراهقة حتى في البرلمان بديلاً عن العقلانية والتراكم السياسي الطويل وتكوين الجماعات المعتدلة المتنفذة ذات المشاريع السياسية وفهم مشكلات الجمهور والبلد والمساهمة في حلها.

هذا مكن الانتهازيين من جهة أخرى من فرش نفوذهم في الواقع السياسي المريض، فهؤلاء لا يملكون أي وعي وأي رغبة في إصلاح المجتمع بقدر ما يسعون لتكوين مصالحهم الخاصة وتكوين شلل الفساد العامة الخاصة.

وقد حصلوا على فرصهم مع غياب العقلانيين والوطنيين المخلصين بعيدي النظر وأصحاب البرامج والثقافة السياسية العميقة فعطلوا البرلمان والصحافة والوعي عامة.

وهكذا بدلاً من دحر الفوضويين واستخدام ما في خطاباتهم من نواة عقلانية وفرزها عن الفوضى والصخب والعنف الذاتي، يقومون برفض كلَ شيء وعدم طرح البديل وعدم التعبير عن مشكلات الناس والمجتمع، مصورين أنفسهم بأنهم دعاة العقل وليس قوى الفساد السفلى المشاركة القارضة للمال العام.

تقوم الفوضوية والانتهازية بدور متكامل مشترك وهو منع الوعي السياسي الناضج من التكون ومن تشكل قوى الإصلاح الشعبية، وتحولها لتيارات مؤثرة.

وبهذا يفقد الجمهور أمل التغيير، وينتشر فيه اليأس ويفرز ذلك قوى التطرف والعنف والجريمة.

بدون النقد وتكوين البديل الإعلامي وطرح النماذج السياسية المركبة الجامعة للنقد والمسئولية التعبيرية والحكمة العملية، فإن هذه النماذج المخربة للعمل السياسي الوطني سوف تنتشر وتمنع التطور مستفيدة من الفوضوية والمراهقة السياسية.

 تفكك الثقافة الفاعلة

حين نرى المسار المؤلم للجماعات التحديثية التي بدأت حادة مخيفة في أطروحاتها ثم انتهت وهي تبحث عن المال بأي صورة، لا بد أن نقوم بدرس ذلك، فهو مسار معقد وقد يتكرر لدى المجموعات الدينية كذلك وربما بطريقة أكثر حدة وتعقيداً.

 لنلاحظ ان الاهتمام بالأشكال والجوانب التحديثية المفصولة عن مضمون تغيير أحوال الناس، أي الاهتمام بالأنا على حساب النحن، وكذلك لغة الهجوم الحادة على الإرث والتقاليد وتوجيه المجابهة بين قوى المعارضة، تماثل الطرح قبل عقود أن حل كل المشكلات يمكن عبر البندقية ولغة النار.

 ولكن مجموعات الفئات الوسطى المعبرة عن تجربة أقصى اليسار، كانت وهي تدفع ثمناً باهظاً من حياتها لمثل هذه الأفكار، لم تتعلم منها أثناء التجربة، وإذا غدا الحرمان مكروهاً، وتطوير وعي الذات الحزبية بالواقع وبالفكر غير ممكن لأسباب كثيرة، لهذا كان الاتجاه نحو النقيض، نحو المال والمراكز والشهرة والصداقة مع الأنظمة والحركات الشمولية ومع المهيمنين بشتى ألوانهم، والمهم خدمة الأنا.

 كان هذا الإفلاس الفكري يتجلى بالوقوف عند المرتكزات الشمولية للنظام الشمولي القديم، (الاتحاد السوفيتي، والصين وكوبا) أو بالارتهان كلياً للتجربة الغربية، وتأتي عدم القدرة على فهم النظام العربي التقليدي الراهن، وتشجيع الأنظمة كذلك لانفتاحية الفئات الوسطى، في التوجه للانتهازية اليمينية هذه المرة، أو التشدق بألفاظ اليسار عبر جمل باترة وامضة؛ مع غياب الموقف التوحيدي لليسار والقوى الديمقراطية عامة..

 إن هذا ينطبق على انهيار أنماط الوعي المستخدمة، كغياب الدراسة العلمية، وتخثر الشعر، وجمود القصة، وشكلانية اللوحة التشكيلية وموتها، وسفر الأغنية الثورية إلى الصمت والتجارة، وانتهازية القانون حسب مواقف الجماعة الخ..

 إن العجز العميق عن التطور يولد أمراض جنون العظمة، وتشجيع الشلل لتخريب الثقافة الوطنية ومعاييرها الموضوعية، وتكريس النجومية وحب المال، وتفكيك الجماعات اليسارية والوطنية عموماً.

 إن الخراب كان كبيراً في العمق، وهو خرابٌ غير مدروس، وغير معروفة آثاره، ولكن ظاهرة العجز عن الفعل، وتكرارية اللغة الميتة، والعودة للمأتمية، والاصطافات اللامبدئية، والعجز عن النقد العميق، هي وغيرها تشير إلى تخثر فعل ممثلي هذه الفئات الوسطى، وعجزهم عن العمل الاجتماعى الفاعل.

 ومن هنا نجد أن الثقافة الرسمية السائدة في بعض الدوائر تشجع على كل ما هو منقطع عن الموقف المبدئي، والاحتفاء بالخارج، ولهذا فهم يشجعون ثقافة من موزمبيق لكن لا يمدون ايديهم للمنتج المنهار المحلي، إلا إذا تخلى عن ثقافته الوطنية المنتجة وتحول إلى أراجوز سياسي أو شعري أو تشكيلي أو مسرحي، فالمهم هو الاستعراضات.

 لغد قامت القوى (التحديثية) بتقزيم بعضها بعضا، فتلك الجماعة تحتكر أغلب جوانب الثقافة المفيدة المدرة للأرباح، ولكن إلى ماذا قاد ذلك؟ إلى التخلي عن نقد الواقع، وعدم قدرة النتاجات ان تعري الأخطاء، وهذا الجانب لم يتغير حتى بعد أن أخذت الدوائر الرسمية تنقد نفسها. وتغدو التحالفات غير مبدئية، فالسياسي الذي ينقد بقوة وحِدة الواقع السياسي، يصمت عن نقد الواقع الثقافي الفاسد، فلم يمتلك منهجين مختلفين؟

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 13, 2023 18:38
No comments have been added yet.