عبـــــــدالله خلــــــــيفة الرواية في البحرين : ينابيع البحرين .. ملحمة طويلة ونشيد بطولي
على مساحة واسعة عمقاً وسطحاً يجمع عبـــــــدالله خلــــــــيفة عُقَد الخيوط بيديه، يشدها، يمَّدها، أو يُرخيها، بامتداد فضاءات حكائية سردية مترامية، تشبه إلى حد كبير القصيدة الملحمية المطوَّلة، أو النشيد البطولي الاسطوري، حيث تتوالي وتتقاطع وتلتحم، تلك الفصول كحبات المسبحة كما تترى وتائر الوقائع والأحداث والناس والشخوص، وتحتدم الصراعات وتتضارب المصالح والطموحات والغايات.
الينابيع عمل سردي أدبي في المقام الأول، وان توسل التاريخ مادة وموضوعا ومضمونا. الينابيع ليست رواية توثِّق التاريخ بما يعنيه مفهوم التاريخ من مناسبات حركات وأحداث ووقائع وتحولات، بقدر ما توثق الفن السردي والحكائي بتوظيفها واستثمارها لتلك الوقائع والأحداث التاريخية.
وباعتبار الينابيع عملا فنيا وجماليا قبل كل شيء، ينبغي قراءتها ومقاربتها انطلاقا من أرضية الرؤية الجمالية الفنية، وليس عبر حقيقة الوقائع والأحداث التاريخية، وهذه القراءة الجمالية لا ينبغي لها أن تلغي أو تمنع أن يكون هذا العمل الفني الجمالي شاهدا، أو شهادة أكثر صدقا وأمانة من التاريخ ولا سيَّما أن هذا العمل الفني في معناه العميق يصدر عن لا وعي فردي وجمعي وعن بصيرة حدسية، وشفافية كاشفة، وبالتالي فهو لا ينفي الحقيقة التاريخية بقدر ما يبلورها بطريقته وبأسلوبه الفني الخاص، كما أن اعتماده لتلك الأحداث والوقائع لا يخرجه أو يعفيه من ضرورة التزامه بالشروط الأدبية والقيم الفنية والجمالية.
من هذه الأرضية الفنية لرواية الينابيع، لا تتطابق شخوص الرواية مع شخوص وأدوار وأفعال الواقع التاريخي وإن تبدت لنا في قرينة أو ملمح أو سمة تسم أثرا أو معلما من ذلك التاريخ شخصا كان أم واقعة، أم مكانا فالرواية في نسقها العام لا تستهدف فردا أو ذاتا تاريخية محددة، وما تلك الملامح والقرائن والأفعال والتحولات إلا جزء من آلية فنية لإيهامنا إيهاما روائيا فنيا، إن صح التعبير، فمحمد العواد، وهو من الشخصيات المدارية في الرواية، وإبراهيم زويد، ومي وفيَّ وشمَّاء وزهرة، ومهدي والشيخ ناصر وابناه محمد وحامد، وسالم الرفاعي، وسلطان المزين وأكبر مرتضى ومحسن، وجمعة الحادي وفارس جابر، وسعيد المناعي وبدر الوزان والميجر بيلي والمستشار وزوجته مارجريت، إن هي إلا أسماء روائية متخيلة مبتكرة، وقد وظفت لتلعب أدوارها المنوطة بها في دراما الحياة الروائية وفضاءاتها، ولتدفع من مواقفها المختلفة بالفعل الدرامي في وتيرة تصاعدية إلى غاياته المرسومة بذكاء وإتقان.
تجسد رواية الينابيع فصلا من ملحمة طويلة، تلك هي أرض البحرين بكل ما تعنيه من موقع جغرافي محاصر بالبحر ومن فوق البحر بسياج من بوارج الحديد المدججة وما يعوق ويحيق من مآزق سياسية واقتصادية واجتماعية…
“.. البحر، السفن، الأشرعة، الأمواج، الرجال محروقو الأجساد، والنساء بثيابهن الملونة يخضن زرقة البحر، ويصدحن بعويل الأغنيات وهي تغدو أيدي ممدودة لرجال يذبون في الماء“ ص 15.
“كان الغناء وصوت النهامين وهدير السفن المتوغلة في البحر، وثياب النشل القزحية، والغزالات العائدات، كلها تتأجج في قنواته، فيحس بسكرة أين منها عزلة البرية، ومصادقة الذئاب“ ص 16.
“الغناء البحري يتسرب من بين حصى البحر الصلد، فتنهمر حبالا وقواقع وجنيات، وتصير المدينة قبة بحر لا متناه زرقاء مضاءة بشمس في الداخل“ ص 22.
غناء محمد الصادر عن بئر الأعماق، والأنغام النازفة من اوردة العود، وصدى القصف والعصف والجروح المفتوحة على شفة النهام هذا هو الطاقة الروحية التي تهب الرجال القوة والقدرة على اجتراح الخوارق وتحمل ما لا يطاق…
“وعلى هدير وخرير صوته ويجرُ الرجالُ الحبالَ والآلامَ والسفنَ والمدن البعيدة وقروشَ البحرِ النهمةِ والأجسادَ الميتةَ، وتحترقُ الأيدي بالسكاكين والمحارِ والشمسِ الواسعةِ المهيمنة ، وبالسياطِ التي لا تتوقف ، والمياه التي لا تهدأ ولا تنفتح، وبالتمراتِ القليلاتِ والدروبِ الفارغةِ ونياحِ كربلاء والبيوت السعفية المبتلة بالغيوم“ ص 23.
وثمة مشهد آخر للبحرين المدينة من الداخل في العشرينيات:
“.. ليس ثمة سوى الطرق والكلاب والقمامة، والسير في العتمةِ المترنحةِ على الوجود. الجوعُ يمزقهُ، يعوي، والحراسُ يثقبون الوجوهَ والدروب، ومدينةُ البحرِ والغناء استحالتْ مصيدةً من الأحجار والأنفاق، وليس ثمة عود ولا نار خيمة.
يجد بضعةَ مقاهٍ موحشة، لفها الظلامُ والفراغُ، فيجثمُ على كرسي طويلٍ فيها. ويضعُ نعلَهُ تحت رأسه، وقبضتيه تحت معدته.“ ص 16.
وللبحرين البحر والأمواج والأنواء والسفن:
“.. شهد الميجر بيلي البحر والأمواج والأشرعة والسفن والجماجم والأيدي المفقودةِ والعيونِ المفقوءةِ والضحكِ والبكاءِ والنسوة والصبيان والصبايا والفتيات“ ص 20.
تلك هي بعض صور تزخر بها الينابيع، وهي صور حية نابضة زاخرة بالألوان والحركة والحياة، ونرى لتلك المشاهد والصور على اليابسة وفي الشواطئ والأسياف وفي أعماق البحر حيث السفن والأشرعة والصواري والأجساد وحيث تهدر الحناجر باليامال والهولو، وتتراقص القروش فرحة بفرائسها اللذيذة.
صور نرى فيها إلى الناس في مزارعهم وأكواخهم، في بكائهم ومآتمهم ونرى للغواصين في طقوسهم البحرية التليدة في مواسم اعيادهم، في نفراتهم تأهبا لموسم غوص جديد، أو (قفلتهم) عودتهم مثقلين بالجروح والعاهات والإعاقات والعبودية والديون، نراهم في الأزقة وفي الأحياء والحواري والأنفاق الضيقة المتعرجة، في المقاهي، في مجالس الطواشين وأصحاب الحوانيت والبخاخير والأغذية، في دور الغناء وحلقات الطرب السرية والرقص الشعبي في الأفراح, الأعياد، في أغاني الأصوات الخليجية، مواويل النهامين وأبوذيات العشق والعاشقين، في إيقاعات ورغاءات البحر والأمواج والأنواء، في بكائيات ومراثي ودموع ودماء كربلاء، في الجلود المسلوخة والأيدي المفقودة والأعين المفقوءة.
تلك هي ملحمة الينابيع تاريخ شعب وبلد، نضال وتصد وإصرار على مواجهة طبيعة غاشمة وجبروت، وشروط حياتية عنيفة مجحفة وغير عادلة، توجهها المصالح والغنائم والأطماع ولا تحفل أو تقيم وزنا لإنسانية إنسان. من هذا الواقع وضرورته الموضوعية تنهض شخوص الرواية كإفراز طبيعي وموضوعي لشروط واقع مختل وغير عادل، فمحمد العواد يهرب وينخلع عن القبيلة هربا من جور أبيه وتسلطه وتمييزه في المعاملة بين أبنائه السود والبيض، وهذا الهروب هو أيضا نوع من الثأر السلبي لذاته المهانة، وأمه التي افترسها أبوه بين قطيع من العبيد ذات ليلة نزوة وحماقة.
جمعة الحادي، نموذج آخر للضحية الجلاد أو الجلاد الضحية.
“.. أنت السيدُ الآن ، صعَّدتَ من حضيضِ الحضيض، من عمقِ الدموع، وقرأتَ على ضوءِ شمعةٍ شاحب، وبين لكمات السادة وبصقاتهم، انتزعتَ أوراقاً وكتباً، وأدمنتَ المكوث في مكتبةِ الكنيسة ودهشتَ من الورقِ والأفكار. رحتَ تتعلمُ كلَ شيء. ثم تعودُ لحملِ القدور والأكياسِ، تصعدُ، وسياطهم تنخر جلدك.
والآن أصنعْ سوطاً غير مرئي، وأجلدْ هذا الرمل، والأشباح السائرة واستمتعْ! كلاب!) ص 51 ـ 52.
“يتذكرُ كيف رأى جسدَ أمينة الأبيض في بيت (أعمامه) وظل سنوات يحلمُ، ويدفنُ وجهه في ملابسها حتى رآها تتلألأُ في ليلة عرسٍ وتــُلقى في غبةِ غرفةٍ مضاءةٍ بالمرايا. الآن لا بد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه . يريدُ أن يملك ويملك حتى يبتلعُ كلَ شيءٍ!“ ص 52 ـ 53..
أكبر مرتضى ـ دودة أرضية قارضة مثال صارخ لنموذج الانتهازي اللدود، أسنان منشار حديدي قاطع، لا يرعى إلاً ولا ذمة أو رحما، ينتهز المجاعات والكوارث ليأكل لحوم الناس امواتا..
“.. كان أبوهُ عند الساحل الآخر يقولُ له:
– يا أكبر. . سوف تذهب إلى الأرضِ الجنة، كلها خير وبركة، ينابيع تتدفق في البحر والبر، والبساتين على مدى النظر، هناك ستغتني يا أكبر، يا من يبخل حتى على أبيه بثمن الدواء!“.
“ولكي يحقق أكبر مرتضى المزيد والمزيد من الجشع والتملك، يتقرب إلى جمعة الحادي، يحابيه، وينافقه ويتملقة، فلدى جمعة الكثير مما يمكن تقديمه من الخدمات الضرورية بحكم وظيفته في مكتب الميجر بيلي، لديه ما يدور في المجالس الكثيفة، وشبكات الخطط التي سمعها، والأسلحة الرابضة في اللواوين والدهاليز والأقبية، والرؤوس المثيرة للفتنة“ ص 38.
سالم الرفاعي ـ المطوع ـ معلم الكتاتيب، يطلق لحيته ويديه، وتلاميذته الذين كبروا وأطلقوا أيديهم في البلاد والعباد، يحتج ويتذمر من الميجر الذي جمع خيوط السلطة في قبضته، وضيق الدائرة عليه وحدَّ من سلطته المطلقة يقول متذمرا شاكيا: “– داسَ على شرائعِنا يا مولاي ، لم نعدْ نستطيع أن نحكمَ بالشرع ، فلا نجلد أحداً ولا نشتري إنساناً!“ ص 42.
مي، فيَّ، شماء، أمينة، زينب، زهرة، نماذج لصورة المرأة البحرينية في العشرينيات، في الأرياف والبلدات والمدن، ومن مختلف الذوات أو بنت الحمولة بحسب التعبير الشعبي الذائع، لا يعدو حب محمد العواد، ذلك الصعلوك المتشرد لها وحبها له إلا أن يكون كالفقاعة أو سبحة خيال، أو حلم يقظة رومانسي إذ سرعان ما تصطدم هذه العلاقة بصخرة الواقع، وتتم خطوبتها على محمد ابن الحمولة الكبار، ومحمد العواد شبيه في هذه العلاقة بعلاقة جمعة الحادي بحبيبته أمينة التي رآها تزف إلى رجل آخر. ص 52.
زهرة نموذج المرأة العاملة في المزارع والحقول “.. لم تعرف سوى العمل، تشققت يداها في حقل الأسرة، وكأن ثمة غابة من الأيدي والأرجل والقامات تدبُ في الأرض السبخة المليئة بالطين والماء والأحجار. لم يكن للوجود من معنى سوى انتظار الثمار ونوم الليل ودبيب النهار وكان الخارج غائباً، مخفياً، فلا تعرف ماذا بعد النخل والبحر، ماذا يوجد وراء التلال القصية المتوهجة بالدخان والصرخات. . وكان عاشوراء يعطيها قصة مليئة بالدمع والدم فتبكي أباها وأمها“ ص 78 ـ 79.
نماذج المرأة في الينابيع هي نماذج نمطية مستلبة، سواء كانت هذه النماذج في الريف أم في المدن، فهي ذلك الكائن الذي لا يملك من أمر كينونته أو مصيره شيئاً، أو لا ينبغي له أن يملك من أمره شيئاً، ولعل المختلف الوحيد بين تلك الشخوص أو الصور النسائية هو نموذج زينب زوجة أكبر مرتضى – والتي كان زواجها من أكبر مرتضى أشبه بزواج الصفقة بحساب الربح والخسارة والمحسوبة بدقة متناهية، لذلك لا يتردد أكبر مرتضى عن البوح لجمعة الحادي عما اصابه من غبن وخسران جراء هذه الصفقة الزيجة.
“. . تزوجت امرأة غنية، قبيحة، وبخيلة“.
“. . تطلع أكبر إلى زوجته وتساءل، من يستطيع الزواج بك وأنت ذات الوجه البشع واللسان السليط، ألا تدخلين القفص أيتها اللبؤة؟“ ص 107.
وكما تتوارى حقيقة الشخوص التاريخية وتنزاح خلف أقنعة ورموز سردية متخيلة لتتساوق وتتناغم مع البطل غير المعلن في الرواية وهو الناس أو إنسان البحرين، وهو يكتب تاريخ صراع بقائه بمداد من العرق والدمع والأجساد والدماء في صورة ملحمة شعبية طويلة شاقة ومؤلمة ممتدة عميقاً منذ ما قبل العصر الدلموني، كذلك تختبئ وتتوارى أسماء البلدان والقرى عدا المنامة والمحرق كونهما قطبي الفضاء الروائي لعموم الأحداث والشخوص والوقائع، ومع ذلك فهي لا تسمي الأحياء والحارات في هاتين المدينتين بقدر ما تشير أو توحي “.. في شرق المنامة تجمع هؤلاء السود والمجرمون السابقون واللصوص والبحارة، وتنامت الأكواخ من الشاطئ الشمالي الغارق في المزابل، حتى القرى الزراعية المتوارية وراء النخيل والأشجار في الجنوب..“ ص 84.
أو وراء رمز لغوي لفظي، مثل مدينة (البيضا) والتي نستوحي عبر السياق السردي بأنها ربما كانت الرفاع أو الزلاق أو الجسرة من بلدات البحرين الراهنة. أم مثل (العين) بما يوحيه المدلول اللغوي لمفردة (عين) والتي يمكن أن نطلقها على عشرات القرى المنتشرة في شمال وشرق وغرب البحرين.. “مضت السيارة إلى طريق الريف المتربة الطويلة. رفع الفلاحون رؤوسهم من بين غابة البرسيم، وحدقوا في هذا الكائن العجيب الذي يمتطيه الميجر بيلي وحين يتوقف أمام مستنقع مليء بالبعوض، أو يتجنب حفرة أو كومة زبالة، فإن الأيدي القذرة تندفع للمس هذا الحديد العجيب، والتحديق في مراياه، والهجانة بإبلها العجفاء، ذات الرؤوس الساخرة المعتمة، تسبقهُ وتهتزُ السياط في الهواء، هذا هو طريق العين، تمعن في الخريطة، ليس ثمة لافتة ولا إشارة“.
أو عبر ملامح المكان البيئية والجغرافية.
“.. عبر البحر والبر حتى وصل إلى البلدة العالية ببيوتها البيضاء المتألقة كالحمام، والقريبة من صدر السماء، العربات القليلة لا تزال تدبُ بحوافرها وعجلاتها في طرقها الحجرية، والحمير البيض الناعمة، تنقلُ الخضار والأخبار والصبية..“ ص 46.
تلك هي البلدة التي فارقها غير آسف عليها (محمد العواد) ويمكننا أن نستقرئ المفردات البيئية في السياق بأن هذه البلدة ربما هي في قطر القريبة من جزر البحرين أو الدمام أو منطقة ما على ساحل الخليج.
اعتمدت الينابيع موادها الخام من معين تاريخ البحرين في العشرينيات من هذا القرن في وقائعه وأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسؤال الحاسم لقارئ الرواية هو: إلى أي مدى تمثلت الينابيع تلك الوقائع والمواد التاريخية ومن ثم إعادة إنتاجها وصياغتها في نسيج سدري فني إبداعي، ملبية بذلك مواصفات وشروط العمل الفني الناجح بمعايير وقيم الرواية الإبداعية الحديثة…؟
التاريخ بداهة التسجيل هو الأمين للواقعة والحقيقة التاريخية في الزمان والمكان المعينين وكنموذج للحدث والحقيقة التاريخية في الينابيع (الوضع المحلي في البحرين والتدخل البريطاني المباشر في إدارة البلاد، متمثلاً في المقيم السياسي أو من يمثله وهو هنا (الميجر بيلي ومساعده أو المستشار في الفترة من 1920 – 1930، وما تلا ذلك التدخل من أفعال وردود أفعال ومواقف مختلفة ومتباينة).
وحيث إن وظيفة الروائي هي وظيفة أدبية فنية جمالية (صورية متخيلة) لذلك نرى له هنا في الينابيع يرصد إيقاعات ذلك الحدث النفسية والشعورية والسلوكية ويصور عمق الصدمة وأصداءها وما تثيره من حيرة ودهشة تنعقدان على وجوه الناس وقلوبهم وأعينهم وألسنتهم، تلك الصدمة التي تشبه إلى حدٍ ما . . ما أحدثته الحملة الفرنسية على مصر في القرن الثامن عشر.
ومن تلك الصور الفنية العديدة صورة «الميجر بيلي».
“.. والآن هذا الأشقر، ذو الجلد الناصع المحمر، الأزرق العينين كالبحر الذي ألفوه، يقف بينهم حياً، باسماً، ينظرُ إليهم، لا كرسي يضعهُ فوق السحاب، ولا حراب عبيد كثيفة، مجرد كائن بشري سحري يمشي على الأرض ويومئ برأسه محيياً، وباتراً الصمت بكلماتٍ فكهة ليذهلوا، أيمكن للرب المسيطر على الغلال والظلال أن يضحك، وينزل من فوق الخيل، ليهز الورق ويرفع أصبعه متحدياً؟..“ ص 30.
وصورةٌ أخرى ترتسمُ في عيون هذا الغريب، القادم من أعالي البحار.
“..سحب الميجر رأسه، وبدا يتأمل هذه الوجوه، التي تشبه شخصيات شكسبير بأزيائها الغريبة، ولحاها الضخمة، وأيقن أن بساطتها الظاهرية تخفي مكراً بدوياً عريقاً، وأنها ثعالب تكونت في البراري المفزعة، ورافقت الصقور في تحويماتها وانقضاضاتها الرهيبة“ ص 83.
ثمة حدث مفصلي تاريخي مروع، كان له فعله السحري الأسطوري المدوي في الذاكرة أو التاريخ الشفوي في الذاكرة الشعبية في البحرين، حيث ظل هذا الحدث ولمدى عشرات من السنين محوراً تنسج في مداره المخيلة الشعبية الكثير من القصص والحكايات العجائبية الغريبة، وتتناقل هذه الحكايا الأبناء عن الآباء والأجداد، هذا الحدث الدرامي أو المأساوي الضخم، الجسيم في فعله التدميري الكبير إذا ما قيس ببلد صغير كالبحرين، يمثل تربة سردية خصبة هائلة، وفضاءً واسعاً رحباً لقوى الخيال والتصوير واجتراح الحكايا الغرائبية. ذلك الحدث هو الإعصار المدمر الذي ضرب مياه الخليج في العشرينيات من هذا القرن.
كيف تمثلت الينابيع هذا الحدث الواقعي/ الأسطوري وإلى أي مدى استفادت من اسثتماره في معمارها الحكائي السردي؟
“.. كان الليل العميق في كل مكان، على البر البعيد، وفوق المدن والبلدات مليئاً بطلٍ رطب ساخن، فغرق الجميع في النوم وكابوس العرق والبعوض.
ومن بعيد ظهر مسمارٌ كبير من الهواء الملتف، يحفرُ في الأرض والماء بسنه (1) الهائلة الحادة، فيأخذ كل شيء إلى قلبه الدائر الصاهر، ويعيدُ الأشياء محطمة، متناثرة، ويعصر الأجساد والخشب (2).
اندفعَ المسمارُ الكبيرُ نحو المياه، هزَّ طبقاتَ الهواء، وكسرَ الصمتَ الصلدَ، وراح يحفرُ في البحر، ويثقب قاعه البعيد، ولم يحسْ الرجالُ بالأصابع القصيةِ الرهيبة ، لكن المسمارَ الذي تحول إلى حفارةٍ ضخمة ، اتسع وجمعَ إلى باطنهِ نثارَ الأشياء المحطمة المفزوعة ، واقترب من البحر والسفن الراقدة .
عندما رفعَ الرجالُ المفزوعون رؤوسهم من آبار النوم، رأوا عملاقاً ضخماً مضيئاً، كماردٍ شرير، كشيطان، يقلبُ خشبهم ويحطم صواريهم فوق أجسادهم ، ويمزقُ هذه الكتلَ الهادئة الساكنة، ويبعثرها في اليم، فيغوصون مهشمين، ويرقدون في القبور، ويطفحون على وجوه الماءِ، وتندفعُ إليهم قروشُ البحر سعيدةً هانئةً بهذه الوليمة الكبرى.” ص 116.
هذه صورة بنوارمية تضم في فضائها البر والبحر على السواء لحظة الإعصار وهي صورة انفجارية كلية عظمى، تتفجر من بؤرتها عناقيد من الصور الجزئية والتفاصيل التي كانت تروي شفاهاً على ألسنة الناجين من هذا الطوفان الساحق، سواءً من كان منهم في البحر على ظهور السفن أو على السواحل فوق اليابسة.
فصور المردة المسربلين بالنيران والحراب والحديد، والشياطين الذي يقلبون البحر، وأمواج الجبال هي صورٌ من مخزون الذاكرة الشعبية والدينية كما وردت في قصتي الطوفان والنبي سليمان (ع).
وتنفتحُ صورُ الإعصار الكبرى على صور تخيلية غرائبية تضاعف من مأساوية الحدث، فإبراهيم زويد يجدُ نفسَهُ على قطعة خشب طافية، والماء المالح والبقايا والألم كانت تتوزعُ للاستيلاء على جسدهِ، ويسمعُ ثرثرة قروش البحر وهي تتلذذُ بلحم ربعه.
وسعيد المناعي – النوخذا المعروف بطيبته وكرمه وشهامته، يقدرُ له النجاة هو وبحارته، وتلك اليد التي يمدها سعيد للمحتاجين أيام العسرة، امتدت والتفت لتنقذ سعيد وسفينته وبحارته.
“يمسك دفة سفينته المتلوية مع الموج الهادر، يساعده الرجالُ والأيدي الكثيرة الملتفة حوله، عرفوا الماء من الأعماق، وأمسكوا بعضهم وخوفهم ونجوا“ ص 116.
وهكذا تنثالُ الصورُ وتتواتر الأحاديث.
وبحارة العنود (3) يبتلعهم البحر، وينجو بينهم صبي بأعجوبة فوق خشبة.
قرية كاملة لم يعدْ رجالهُا، غابوا كلهم في البحر، لم تأت جثة ولا ناجٍ، ولا يزال سكانُ القرية يحدقون في الموج لمرأى سفينة أو قطعة خشبٍ طافية.
فيْ زوجة سعيد المناعي ترقب البحر كل يوم من مصيدة السمك، وتتطلعُ إلى غول البحر بحثاً عن أبيها الذي أصر على دخول الغوص في هذا الموسم الأسود النحس.
“.. رأت شبحاً، نقطة رمادية في الأزرق الشفاف، كأن يداً تمتدُ في الهواء وصرخة تندلعُ في النهار المعتم، وبدا الناجي مدفون الرأس في التراب والطين لا قطعة قماش تغطيه، بل الصبان وامتدادات الجروح والرضوض والملح والتراب.
مدفون في كتل من الدم والأعشاب والإضاءات الغريبة. إنه ليس أباها، إنه إبراهيم زويد“ ص 122.
وهكذا يجثمُ على البلاد ومن الماء إلى الماء ليلٌ أسود كثيفٌ قاتم مشحون بالحزن والتعازي والنواح والبكاء والقبور والدفن وهوس البحث عن الجثث والأشلاء والأعضاء في مصائد الأسماك والأسياف والبيوت الخربة المهجورة على السواحل والساحات الفارغة والأرياف القصية، وتتواتر الحكايات والقصص والأخبار والتفاصيل في صورٍ مرعبةٍ مخيفة.
ولكي لا نغمط المؤلف عبـــــــدالله خلــــــــيفة حقه الأدبي والفني والذي لا تخفى معالمه وملامحه في رواية (الينابيع) أقول:
إن هذه الصور السردية الفنية والجمالية الأخرى، ومن أبرزها الأسلوب اللغوي الذي استظهر الشعر في مجازاته واستعاراته وانزياحاته، ولعل ما يميز لغة الرواية، هي تلك اللغة التي استثمرت، وإلى حدٍ بعيد، مفردات بيئة البحرين البحرية والريفية في معادلة تنمُ عن عمق التجربة وأصالة الموروث الشعبي.
وتبقى الينابيع مفتوحة لقراءات أخرى . . تستحقُ المغامرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوسف حسن : شاعر وأديب بحريني كبير
1 – السن: المرساة
2– الخشب: السفن
3ـــ اسم السفينة


