فيلم باردو، إيناريتو ضد إيناريتو! – جريدة الصباح – باسم سليمان

مقالي في جريدة الصباح العراقية العدد 5602 تاريخ 2023 كانون ثاني

يعود المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو إلى المكسيك بعد غياب دام أكثر من عشرين عامًا، من خلال فيلم Bardo, False Chronicle of a Handful of Truths)/ باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق). نال إيناريتو إثناء فترة غيابه عن المكسيك، جائزتي أوسكار عن فيلميه: Birdmanالعام 2014 و The Revenant العام 2015، فهل حان الوقت لتقديم سيرة ذاتية فيلمية، يناقش فيها؛ الوطن والهجرة، والعلاقة المحتدمة تاريخيًا بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، والأسرة والهوية، والحب والموت من خلاله شخصيًا؟ يعرض الفيلم قصة الصحفي المكسيكي ومخرج الأفلام الوثائثية سيلفيريو جاما- دانييل خيمينس كاتشو- الذي يرجع إلى المكسيك كي يكرّم عن فيلم، له ذات عنوان فيلم إيناريتو! لم يخاتل إيناريتو كثيرًا، فالشبه بين شخصيته الحقيقية، وشخصية سيلفيريو المتخيلّة شبه محسومٍ. كان إيناريتو عبر أفلامه، يستند دومًا على ثنائيات تضادية يجلو بها زيف انعدام ائتلافها عبر الخيال. فالخيال لدى إيناريتو يعتبر كحاسة، لا تختلف عن النظر واللمس، فعبره يتم اكتشاف علاقات الواقع الذي لا يمكن الإحاطة بها من دون الخيال. Bardo:

تعني كلمة باردو بالبوذية التيبتية، الحالة البرزخية التي يعيشها الإنسان في الغيبوبة التي تسبق موته. هذه الإزدواجية التي تعنيها كلمة باردو تقدّم انعكاسًا لحياة سيلفيريو/إيناريتو. فهو من جهة مواطن أمريكي يجادل بعنف موظف المطار عن أحقيته بأن يقول عن أمريكا، أنّها وطنه، رغم المفارقة بأنّ الموظف، هوالآخر، ليس من أصول أمريكية. ومن جهة أخرى يدخل مع ابنه في نقاش حادٍ، لأن الابن قد سئم من ازدواجية أبيه، فمن ناحية يدافع سيلفيريو عن المكسيك، ويطلب من ابنه أن يتكلّم المكسيكية مادام في بلده الأم. ومن ناحية ثانية لا يرى المكسيك بلدًا صالحًا للحياة!

إنّ التناقضات التي يحياها سيلفيريو تتبدّى من أول مشهد في الفيلم، حيث نرى ظل رجل يجري في صحراء، ليكتسب العزم كي يطير. وما إن يحلق الظل عن الأرض حتى يعاود الهبوط. ليتبعه مشهد ولادة ابنه ماتيو الذي همس للطبيب بعد خروجه من بطن أمه بأن يعيده إليه، فالعالم الذي جاء إليه قاس جدًا.

كان سيلفيريو متّهمًا من قبل المجتمع بخيانة مكسيكيته لصالح أمريكا، وهنا يأتي السؤال: من يحدّد الانتماء؟ الذي تأتي إجابته عبر نقاش بين سيلفيريو وهيرنان كورتيس القائد الإسباني الذي قوض مملكة الأزتيك عام 1521 ولولاه لم تكن هناك من مكسيك. كان كورتيس يجلس على هرم من الأجساد البشرية، وهناك أخبره سيلفيريو، أنّه قائد وحشي، وأنّه مكروه في إسبانيا والمكسيك، فيرد عليه كورتيس، بأنّه لو لم يكن موجودًا لم يكن هناك من مكسيك. وبالتالي ليس من سيلفيرو، ولا قضية الانتماء الشائكة التي يقع تحت تبعاتها.

ما بين الواقع والخيال على جسر من الرموز تمضي سردية إيناريتو السينمائية، لنكتشف بأنّ سيلفيريو كان قد أصيب بجلطة دماغية، تركته فاقدًا للوعي، وهو عائد في الميترو يحمل كيسًا فيه أسماك السلمندر لابنه تعويضًا له عن تلك الأسماك التي ماتت في حقيبته، عندما هاجروا إلى أمريكا. حيث تأتي دلالة سمك السلمندر من قدرته على تجديد أعضائه إن قطعت. إيناريتو أم سيلفيريو؟:

لقد ارتدى إيناريتو قناع سيلفيريو حتى لايقدّم حياته بشكل واقعي مبتذل؟ والاعتراف بأنّ محاولته جلب سمك السلمندر باءت بالفشل، فلا إمكانية لإعادة إنماء ووصل ما قطع من حياته، وما ترتب عليه من تناقضات لا حلّ لها، لكن من الممكن فهمها. هذه المفارقات المتضادة، التي تقوم عليها أكثر مشهديات الفيلم، نستطيع أن نستوعب أحد جوانبها كهجوم مضاد من قبل إيناريتو تجاه النقّاد والمشاهدين، سواء في بلد المهجر/ أمريكا، أو في بلده الأم/ المكسيك، فهناك من سيصنفه مبدعًا أو مدعيّا. وهناك من سيصنفه مرائيا، أو مرآة للواقع، وهو يريد أن يقول، بأنّه لا هذا، ولا ذاك، فالفنّ ليس كالسياسة والدين حتى يكون تأثيره شموليّا بإيجابياته وسلبياته، فما بين أنا الفنان وإنتاجه، وضمنًا حياته الشخصية، هناك الكثير من الحدود يجب أن تُقطع بشكل قانوني، أوغير قانوني، كأن يأتي اتصالٌ يخبر جماعة المهاجرين، بأنّ مريم العذراء، قد ظهرت لمن سبقهم، وهي تبارك مسيرهم نحو الحدود!

بين الباردو والسيرة الذاتية لإيناريتو علاقة زائفة، فهو لا يقدّم بالمعنى الحقيقي سيرة ذاتية والتي عادة ما تكتب على حواف نهايات العمر، بل يريد القول، بأنّ السير الذاتية تتعدّد، حتى من قبل صاحبها، كما التاريخ حسب من يكتبه، والحدود وفق من يضعها، والانتماء على هوى القناعة، والهوية ليست إلا قضية إدارية، والوطن مجرد جذر مخاتل، والمهجر هروب مفضوح، فلا شيء نهائي في تلك القيم، فالحقائق زائفة بقدر ما تدعي واقعيتها.

فيلم: باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق 2022، من إخراج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وتصوير داريوس خوندجي، وسيناريو إيناريتو و نيكولاس جياكوبون.

باسم سليمان

خاص الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 31, 2023 06:58
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.