الشعبُ يُجدد
أن الشعب ليس تكويناً أسطورياً أو عابراً للزمان والمكان, بل هو أناسٌ بسطاء في كل مرحلة تاريخية، يتأثرون بما يجري فيها، ويتوجهون لتحقيق ضرورات معاشهم وتكوين أسرهم، وهم أساس العمل والإنتاج والقمع والحرية!
فالبعضُ يحول الشعبَ إلى كائنٍ خيالي هو الخير كله، وهو الشر والتخلف كله، لكن هم أناس يخضعون لتحولات العصور وتبدل تشكيلات الإنتاج وتباين الدول وتوزيع الثروات وتعدد الطبقات، ومع هذا كله هم الذين يصنعون التاريخ!
إذا أردت أن تجدد حزباً متجمداً فإن العودة للشعب هو الذي يجدد الحزب الذي سيطرت عليه هواجس الحزبيين الذين انقطعوا عن زيارة الحارات والتعبير عن هواجس الفقراء والمرضى.
إذا أردت أن تجدد نظاماً وصل إلي مرحلة الأزمة فيجب أن تعود للشعب، عبر أصواته وقوى المستقبل فيه، لا أن تعيده للماضي.
إذا أردت أن تغذي الأسر النبيلة بالدماء الصحية فعليك بأن تجعل هذه الأسر النبيلة تفك عزلتها في أبراجها وتنفصل عن أوهام الدم الأزرق وتتغذي بالدم الصحي دم الناس.
إذا أردت للمذهب الديني أن يتجدد ويعود لأمته فافصله عن القوقعة المتحجرة وانفتح لاجتهادات جميع الفرق والأفكار، وضع مذهبك في مصلحة الشعب، لا أن تجعل الشعب خدماً ومستخدمين في شركات المذهب غير المحددة الأسهم والأرباح!
إذا أردت فناً حياً فانفصل عن انعزال الأشكال وغذ السطور بالصور والهواجس الشعبية واغرف من معاناة الحارات وعذاب الأمهات.
لكن الشعب المفكك لا يستطيع أن يخلق وثبة ديمقراطية، فيدخل عالماً من التصادم، تقوده غرائزه المعيشية للبحث عن أقرب صوت يجسد في وهمه أو وعيه هذه الغرائز، ويقوم مثقفو التفكيك المذهبي بقيادته نحو التصادم أكثر فأكثر ودخول أزمة أكبر، نظراً إلي جريهم وراء غرائز الشعب لا مصالحه الكبيرة، وإلى طفوّهم فوق قشور الحياة السياسية وليس عبر فهم أبعاد القوى الاجتماعية وتطوراتها التاريخية.
إن الشعوب العربية في مرحلة تفكك النظام التقليدي والدخول في النظام الرأسمالي الحديث، تفتقد أسلوب إنتاج تصنيعي طليعي، وطبقة إنتاجية قائدة تعيد تشكيل النظام التقليدي، وهنا تقوم الفئات الوسطى غير المنتجة بالتنطع لهذه القيادة معتمدة على أفكار مذهبية متخلفة، فتزيد أزمة التحول تعقيداً ، فيقوم التقليديون بالتصدي لعملية التحول والمطلوب تجاوز المرحلة التقليدية التي يقفون على رأسها !
كان كمال أتاتورك أكثر بعد نظر من زعماء السياسة العربية حين وجه الحياة السياسية التركية نحو تغيير الحياة الاقتصادية
والاجتماعية، وترك مسائل الخلافات الدينية وراء ظهر السياسة، فاقتربت تركيا من ضفة الحداثة، في حين تتوجه الدول العربية للحروب الطائفية، يقودها أناسٌ يرون سراباً.
إن إصلاح الحياة الدينية يحتاج إلي قرون في حين لا تحتمل حاجات الناس الملحة مثل هذا الانتظار، فيغدو الإصلاح صراعاً على السلطة.
إذا استطاعت قوى الحداثة العربية أن تفهم حاجة الناس، وخاطبتهم بأدوات فكرية تجمع بين التراث والمعاش، ووجهت الملكية العامة نحو الإنتاج ومصالح العامة، وليس لأدوات الحرب والقمع، سوف يتحرك الناس نحو هذا المخرج السياسي في زمن أزمة الانتقال من العصور الوسطى إلى التحديث.
أين تقع فاعلية الشعب هنا؟
يتوجه الشعب ضد نفسه، عبر الحراك الطائفي، وتقود الأقسامُ الفقيرة هذا الحراك، الذي يتبدي وهماً بأنه حراك رجال الدين، نظراً إلى نقص معرفتها بالحياة الاقتصادية والسياسية المركبة، وعجزها عن إدراك الأشكال الدينية، فتقوم بتصعيد خصومها الطبقيين إلى دوائر النفوذ السياسية والحكم، مما يجعل دائرة الأزمة تستفحل كما رأينا في تجارب إيران وفلسطين ومصر الخ.. فتحتاج إلى تضحيات أكبر للتخلص من أوهامها، لكن ذلك يحتاج إلى قوى سياسية طليعية تعيد الجمهور الأكثر معرفة وتجربة إلى سكة الكفاح الصحيحة.
والمثقفون مهما كان تنورهم لا يستطيعون صنع التاريخ، إلا عبر هذا التفاعل بين الوعي والناس، بين الإدراك الموضوعي لقوانين التاريخ والعلاقة الوثيقة بالجمهور وحاجاته وثقافته.


