أبشالوم أبشالوم، أيّها الجنوبي، اُسرُدْ لنا رواية الحرب والعبودية – مقالي في ضفة صالثة – باسم سليمان

تحاول الروايات المعاصرة أنْ تمحو الثيمة المتكرّرة في القصص القديمة، التي تقوم على الرغبة بإخبار القصص، وكل ذلك من أجل موضوعية متوّهمة! لم تكن القصص القديمة تخفي هذه الرغبة بل تعلنها صراحة كي تتحصّل المعرفة والاعتبار، كما في الإلياذة والأوديسة وألف ليلة وليلة وغيرها الكثير. هذه الرغبة الملحاحة للقصّ والاستماع لم يبعدها وليم فوكنر في روايته، أبشالوم أبشالوم، الصادرة عن دار المدى لعام 2022 بترجمة سيزار كبيبو، بل أظهرها في العديد من المرات في روايته، وبشكل واضح عندما طلبت روزا كولدفيلد من كونتن أن يروي حكاية توماس ستبن، ومن خلاله تسرد حكاية الحرب الأهلية وتاريخ العبودية. وحدث ذات الأمر عندما أراد الطالب الشمالي شريف أن يعرف ما هو الجنوب الأمريكي، فوجه سؤاله لكونتن؛ هذا الجنوبي: ما هو الجنوب؟ إن سؤال شريف الآتي من الشمال، ليس إلّا سؤال وليم فوكنر المولود في الجنوب الأمريكي. هذا المنشأ هو الذي يبرّر تلك الرغبة في أن تسرد الروايات وتقصّ الحكايات، لتتحقّق المعرفة بما حدث.   

هذا التركيز على حكاية الجنوب الأمريكي لا يمكن أن تعقل، إلا من أجل إدراك وفهم الأسباب التي أشعلت حربًا أهلية في منتصف القرن التاسع عشر، وما تزال تومض من بعيد بإمكانية تكرارها. إنّ وعي هذا الخطر، هو ما دفع وليم فوكنر لتناول الجنوب الأمريكي في روايته هذه وسابقا في رواية الصخب والعنف، حتى أنّه أحيا شخصيات من الصخب والعنف لتكون شاهدة وراوية لسيرة حياة توماس ستبن الشيطانية، وكأنّه يقول: هل عرفتم السبب في فنائكم الآن! لقد مات كل من الشاب كونتن كمبسن ووالده في رواية الصخب والعنف وانتهت عائلتهما نهاية مأساوية، وبشكل آخر، هذا ما حدث مع عائلة توماس ستبن، فماهو المرض المستعصي الذي يضرب عائلات الجنوب ويحوّل بيوتها ومزارعها إلى ظلام وعنف؟   

تبدأ رواية فوكنر في أوائل القرن العشرين، عندما كان كمبسن الابن يستعد للالتحاق بالجامعة عبر استدعائه من قبل روزا كولدفيلد لتحكي له – بعد 43 سنة- كيف ظهر الشيطان توماس ستبن من العدم مع زنوجه. وذلك في صباح الأحد من شهر حزيران عام 1833، ليأسّسوا مرزعة ستبن، التي تمتد على مساحة مئة ميل، كان قد استولى عليها بطريقة ما من أحد زعماء الهنود العجائز، ومن ثم بدأ بالتقرّب من عائلة كولدفيلد لينال القبول الاجتماعي وكان له هذا، فتزوج من إلين كولدفيلد، وأنجب منها ابنًا وابنة؛ هنري وجوديث. تأخرت ولادة روزا كولدفيلد كثيرًا عن أختها إلين، فقد كانت أصغر من ولديها هنري وجوديث، ويأتي طلب إلين التي كانت على فراش الموت من أختها روزا الصغيرة أن تهتم بولديها الأكبر منها سنّا، القطبة التي رتقت روزا بشكل قدري عنيف إلى عائلة ستبن. تريد روزا من كونتن أن يكون شاهدًا وراويًا على حياة توماس ستبن الجهنمية، لكن في الوقت نفسه راويًا لأسباب هزيمة الجنوب، فروزا التي ملأت الصحف في ذلك الوقت بالأشعار البطولية والرثاء لمن ابتلعتهم الحرب كانت تريد من كونتن الشاب الذي مازال في مقتبل العمر، أن يلعب دور الأنثروبولوجي الكاشف عن أسباب هزيمة الجنوب، وخاصة مع الاعتقاد في ذلك الزمن بأنّ الحروب تربح على أساس أخلاقي.

البيت المظلم، أو أبشالوم أبشالوم:

لم يكن عنوان رواية فوكنر بداية، أبشالوم أبشالوم، بل البيت المظلم! هذا الاستبدال تم بسبب سطوة المضمون في الرواية على عتبتها العنوانية، فالتناص بين أبشالوم ابن داود في التوارة وهنري ابن توماس ستبن يتبدّى تدريجيًّا في الرواية مع ظهور تشارلز بون الأخ غير الشقيق لهنري وجوديث من ثنيات التاريخ الغامض لتوماس والذي سيلعب دور العريس المستقبلي لجوديث، حيث تظهر ثيمة زنا المحارم، فقد اغتصب أمنون الأخ غير الشقيق لأبشالوم أخته ثامار وبسبب ذلك قتله أبشالوم، فهرب على إثر ذلك من وجه أبيه داود الذي أغوى امرأة أوريا الحثي، ودفع بزوجها إلى مقدمة الجيش كي يموت كما جاء في سفر صموئيل 1- 2. تنتهي قصة أبشالوم في التوراة بقتله على يد جنود داود وساعتها يُسمع صراخ داود متفجعًا على ابنه: أبشالوم، أبشالوم، يا ابني أبشالوم. لم يستحضر فوكنر التناص مع التوراة إلّا ليؤكد أن تعاملنا المقدس مع الماضي هو الذي يعيد إنتاجه، وكما يقول في روايته، قداس لراهبة: “الماضي لم يمت أبدًا. إنّه ليس ماضيًا”.                                                                  

لم يكن تصوير مجيء ستبن إلى بلدة جفرسون، على هيئة قادم من المجهول، ومن ثم بناء مزرعته عبر كفاح لا يلين، إلّا لإظهار الرغبة القاتلة في وجدان ستبن أن يُلحظ كرجل عصامي لا شائبة تعكّر ماضيه، لكن ظهور ابنه تشارلز بون قوّض مشروعه عبر ارتداد ماضيه على حاضره. هذا المستنقع المأساوي لا يختلف كثيرًا عن الأرض التي استصلحها ستبن، وبنى عليها بيته الفاخر الذي دخل الحرب ضد الشمال من أجله وعاد خاسرًا، ليقتله أحد عبيده المخلصين.

لقد كانت كل شخصية في الرواية تنتج نسختها الخاصة مستبعدة ومدمجة في الوقت نفسه مع روايات الشخصيات الأخرى. هكذا كان ستبن وفق رواية جدّ كونتن رجلًا يستحق التقدير، وفي حكاية روزا  كان كالشيطان، أمّا لدى كونتن، فلا تستطيع الحكم على توماس ستبن، فالتاريخ لم ينته بعد. قام أبشالوم  بقتل أخيه أمنون بعد اغتصابه ثامار، لكن لماذا لم يُغضب هذا الاغتصاب داود، وبدلًا من ذلك صب جام غضبه على حامي الشرف! هل لأنّه كان قد دفع بأحد جنوده المخلصين للموت كي يتزوّج زوجته، وينجب منها سليمان ملك الملوك؟ مهما يكن، فلقد أراد فوكنر من هذا المستنقع السردي أن يدفع بالقارئ أن يلعب دوره، فيصبح مثل كونتن في آخر الرواية قارئًا وراويًا، وناقدًا أيضًا.

هذه المأساة التوراتية تعيد ذاتها وفق قاعدة الماضي الذي لا يموت أبدًا، ليس ماضيًا. عاد ماضي توماس ستبن للظهور، لأن حاضره يستند إليه وفق آلية ارتباط الفرع بالأصل وسنسمع من جديد صرخة توماس ستبن المتفجعة على ابنه: هنري، هنري، يا ابني هنري.

بين مارغريت ميتشل ووليم فوكنر:

صدرت رواية فوكنر في عام 1936 وهو ذات العام الذي صدرت فيه رواية ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل، التي نالت عنها جائزة البوليتزر. تعتبر رواية ميتشل من الروايات المناهضة لرواية كوخ العم توم لهارييت بيتشر ستو، التي فضحت العبودية، فعندما التقى أبراهام لنكولن بهارييت، قال لها وفق جوناثان غوتشل في كتابه؛ الحيوان الحكاء: “إذن، أنت المرأة الصغيرة مؤلفة الكتاب الذي أشعل الحرب الأهلية”. إنّ رواية ميتشل رواية تصالحية وتجميلية مع تاريخ الجنوب والحرب الأهلية، لكنّ فوكنر لم يكن من مؤيدي هذا الاتجاه، فهو مازال يرى الماضي حاضرًا والعنصرية والعبودية لم تنته، بل تتمظهر بأدوار أخرى، لذلك لم يجمّل ماضي الجنوب، بل فضح الجميع من بيض وسود، وفق نسبة مسؤوليتهم عن الذي حدث ومازال يحدث. إنّ ثورة الزنجي ووش على سيده ستبن وشطره إياه نصفين بالمنجل، جاءت متأخرة جدًا، حتى لو كان سببها أن ستبن لم يفكر للحظة بتلك الصغيرة السوداء التي راهن عليها لتنجب له ذكرًا غير أصيل العرق! فأنجبت له بنتًا، ستصطف مع ابنته الأخرى الزنجية كليتي في زريبة أحصنته الخاسرة.

لا يريد فوكنر تنقيح تاريخ الجنوب الأمريكي، لذلك سمح للجميع أن يسرد زاويته من الرؤية، تاركًا القارئ/كونتن ينبش في ركام سرد وريثة بيت الظلام روزا المتقطّع والمفكّك. والسرد الخطي مع الجد كمبسن ومن ثم إعادة تشكيل سردية عائلة ستبن مع كونتن وصديقه شريف، وكل ذلك لأجل أن لا يعاد بناء بيت الظلام في أمريكا.  

لا يحسم فوكنر شيئّا في روايته، إنْ كان حقًا يسرد سيرة حياة توماس ستبن، لكنه يؤكد أنّ العَوْد الدوري للتاريخ الأمريكي، سيتكرّر ما دام الماضي يُعاد إحياؤه كمستقبل بشكل أو بآخر. هذا ما أدركه كونتن القارئ وشريف المستمع للحكاية، فرويدًا رويدًا يدخلان كشخصيتين فاعلتين في سرد فوكنر تحقيقًا وفهمًا لرغبة روزا بأنْ يحمل كونتن وصية، أن يروي الحكاية ليفهم، لماذا هُزِم الجنوب من خلال قول روزا الذي كشف عن العطب الوجودي في حياة الجنوب الأمريكي: “فالرجال الجنوبيون، كانوا من ذوي الشجاعة والقوة، لكن من دون شفقة أو شرف!”.                                                                                                لقد كان كونتن وريث هذا التاريخ مثله مثل أي أمريكي آخر، مهما بدا له أنّه بعيد تمامًا عن أحداث الماضي، فاستفسار كونتن في البداية من أبيه عن الأسباب التي دفعت روزا لاختياره، لتقصّ له حياة ستبن، يلقى جوابه أخيرًا عبر إدراك لماذا حمّلته روزا هذه الوصية السم/ الترياق، كي لا يكون هناك أبشالوم آخر، والأحرى توماس ستبن جديد.

إنّ أبشالوم أبشالوم، هي رواية عن الجنوب الأمريكي والحرب الأهلية والإرث السيئ للعبودية، وعدم قدرة الجنوب على المضي نحو المستقبل، ما لم يتقبّل حقيقة أنّ الصراع بين الأعراق مقتل وجودي.

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2022/12/18/%D8%A3%D8%A8%D8%B4%D8%A7%D9%D9%D9%D8%8C-%D8%A3%D8%A8%D8%B4%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%A3%D9%8A%D9%D8%A7-%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D9%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D9%D9%D8%A7-%D8%B1%D9%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%D8%A7%D9%D8%B9%D8%A8%D9%D8%AF%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR1xrLt-HZAI0aR1wGML9QfYTBa8bQ2ct4p5bz46haQCzoQHwkWXY2c9ZvQ

خاص ضفة ثالثة        

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 18, 2022 00:30
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.