حـــُلــــــــــمٌ في الـغـســـــــــــــق
عبـــــــدالله خلـــــــيفةحـــُلــــــــــمٌ في الـغـســـــــــــــقهمسَ له السكرتير:
(الرفيقان عزيز وحسين يريدان مقابلتك يا صاحب السعادة. هل أسمح لهما بالدخول؟)
يرتفعُ صوتُهُ:
(يا رفيق أوقفْ هذه الطريقة ودعهما يدخلان بسرعة، وأنا لستُ صاحب السعادة!)
هل كان له أن يتخطى كلَ حماماتِ الدم وخنادق النارِ والهياكل العظمية التي ما تزالُ تأكلُ البشرَ، ثم يقبعُ في هذا المكتب الفخم، الذي هو أكبر من شقته؟
الرفيقان احتضناه وقبلاه بودٍّ عميق. قال عزيز بعتاب:
(لم تحضر الاجتماع الهام والكل كان مذهولاً لغيابك!)
(كادت السيارةُ أن تقتلني، فجأةً لم تعد فيها فرامل وحدث اصطدام، ولحسن الحظ كان في شجرة!)
صاح حسين:
(بين يديك كل هذه المؤسسة وخيرات البلد ثم تركبُ هذه السيارةَ العتيقةَ وتسكنُ في العاصمة بشقةٍ في منطقة رثة؟)
غضب.
لو تُعطى ما تُعطى من الأملاك ومن الأفلاك من أنت؟ حبةُ رملٍ في الكون، وبدوي يحملُ كلَ تواريخ النسورِ والجِمال التي حركتْ صفائحَ الأرض.
في غارِهِ المنحوت في صخرةٍ بامتداد أصابع بيته وتتراءى الخرافُ والمراعي والنخيل والفخاخ المطبقة على أعناق الطيور. صارَ في ملكوتِ الأولياء.
يتجول في الأزقة، لا أحد يعرفه، طرق رثة، وجوهٌ من العظام والأقنعة، حمالون في جوف الليل، وباحثون عن الطعام في القمامات المدنية الواسعة.
في الصحراء البدوية قدرَ قاسم أن يوزعَ الأرض، وما زال التناءُ يحبونهُ رغم الرصاص الذي اشتركَ في نشرهِ في جسده، كان جسداً نحيفاً صوفياً هربَ من المقامات العليا حتى نزل في بدلة عسكرية مخرومة من كل ثقوبها الدموية.
وهم ماذا فعلوا؟ سبحوا فوق الجثث حتى وصلوا القلاعَ، ودخلوا القصورَ بعباءاتِ شيوخ القبائل، وباعوا اللوحات والتماثيلَ ولآلئَ السومريين الأخيرةَ على تجارِ السوق السوداء.
في هذه الحارات لا أحدَ يعرفه، ويطلُ الرفيقُ من جُحرٍ ويعانقه، ويهمسلا في أذنه:
(ماذا فعلنا؟)
(نحن في البداية، أصبرْ، مؤسستُنا تعمل بهمة.)
أكتبْ من سبخِ الزنج، من شموخِ (العيارة)، وراءك ثلاثون قرناً من الحضارة.
على الورقِ، بين الكتب، والشخصيات المضيئة، والمجالس الهادئة، والسمك المسقوف والبيرة ونافورات الكلام، تكلمْ وتألمْ، حشودٌ ولا أحد، ثرثراتٌ وعقم، لا يشرب ولا يدخن، ولا يأكل إلا ليبقى رمحاً!
رفيقه، تلميذه شوكت، حرون، غريب، متوتر في مرآه، هذا النصلُ الذي اخترقَ أجسادَ الأعداء من صنعه، يجتمع في الكهوف، والأقبية، ويأتي ببدلةِ دم، وهو يقرأُ وهو يوزعُ الأرقَ والورق، هل يؤسسان فجراً؟
يكتبُ، يطيحُ بالمغارات والأتاوات، حين يذهب للبدلات الزرقاء المتشحمة دماً وعرقاً تمنعه الحواجزُ، تبعده المهماتُ والمكاتبُ عن الألق، تحبسه في دفتي كتاب، وضفتان تتدفقان حمماً.
يكتب، الورق يتألق، الكائنات في مستنقعات الملح تظهر، تلبس بدلاتها للسهرات في أضواء المدينة، خرق الحارة تعود للقصور.
عبدالخالق لم لا تكون خالقاً للخير؟
يكتملُ البيانُ النهري، يضرب الطوفانُ الضفافَ والمتاجرَ المغلقة والخلايا النائمة على العسل، والمخازنَ المهربة، يمشي بين الجموع الهادرة، يلتحم القلمُ الرصاصُ بالسحب الممطرة.
يتطلع المجتمعون إلى الورق بذهول.
صمتٌ عميق.
يكلمه عزيز:
(ماذا بك؟ أي كلام هذا؟)
(هذا ما كنا نريده. جئنا من الطمي إلى هنا. تذكر البدو الذين أوصلونا إلى ضفةِ المدينة، ونحن نكادُ نموتُ جوعاً؟ أتذكرُ الحصادَ والجثث المتناثرة؟)
يلتفلا حائراً قلقاً.
(أهدأْ، تكلمْ بصوتٍ خفيض!)
الكلماتُ والأشواكُ تنهالُ عليه. أحسَّ بخطواتٍ تتبعه.
اجتماعٌ حاشدٌ، البدلات قليلة وعباءات الصحراء تمطرُ غباراً، والجبالُ تتغير وتوضعُ في المدن، شوكت يتقدم الصفوف، يقف له، لكنه يتخطاه، في الذروة، نظرات التلميذ والبائع المتجول والرفيق الهارب من المطاردة واللاجئ في منتصف الليل بحثاً عن وجبة وفراش، تزول، يتذكر أنه وجّههُ نحو خصوم واختفوا، وكان شوكت يكتبُ أوامرَه كل يوم، وتنطفئ مصابيح، وتسود ظلمةٌ في حارات، ويتدفق أشباحٌ، ويُنتزعُ رجالٌ ونساء من أسرتهم، وكان الكتف ملتصق بالكتف، وعيونه تنتظر الكلمات لتسود هزة أو هبة، كل يوم يجثم متطلعاً إليه وهو يفكر، ويتساءل هذا الذي عبرَ المستنقعات والبراري أمن أجل الحرية أم من أجل ذاته؟ هذا المسكين المغمور بالسفر والغربة والجوع والذي آوتهُ الذئابُ في أوجارها والضباعُ في جحورِها أرأى عيونَ الرعاة المساكين؟
جلدُهُ الأسمر الملتهب بالشمس المنقوعُ في الخانات، الحابسُ أنفاسه بين الجثث والقتلة يبحثون عنه، أيمكن أن يكرهه؟
كتفان التصقا في أزقة ضيقة وكاد يخترقهما الرصاصُ، أيمكن أن يغدرَ به هو؟
يحسلا بشيءٍ يسحبه، كائنٌ دخلَ في جسمه، كراتٌ كبيرةٌ حارة في وجهه، ينزل على البلاط المشتعل، يكشفُ الملثمُ عن وجهه، جمجمة وفراغ أسود، ثم رصاصات في عنقه، يتدفق سائل!
يصحو، مبلل، الكهرباء توقفت، الناسُ تضج في الشوارع والحاراتُ القريبة تستيقظ في جوف الحوت السابح في اللجج.
ضربات على بابه، كأنها كعوب البنادق، الكائنُ الحديدي الذي كان يراه طوال سنين ويحميه طوال سنين ويلتهم عنه الرصاص والغازات، يتصدع.
الثلة تهجم بضراوة عليه، ولا يزال نظره يحدق في الباب الذي إقتُلعَ من جذوره!
يتطلع فيه، من يكون هؤلاء؟ أحدث انقلاب؟ يحاولُ أن يلملم شظايا رأسه وأمكنة أصابعه واليدان تُسحبان للخلف ويُطبق عليهما قيد يحزلا ظهرَه.
من أنتم؟ لأي جهاز تعملون؟ هل حدث انقلاب؟!
المشاوي التي لم يرها، البنايات الغريبة الدراكوالية المتصاعدة والحافرة لأعماق الأرض، الممرات المعتمة، والصرخات، والوجوه العظمية التي على حافة الجنون، ثم الزنزانة بحجم حقيبة سفر. الطوابيرُ التي تمشي نحو صحراء حارقة، تبدو السلاسل في الأرجل خطوطاً من النار.
كم مضى عليه؟
كيف اختلط الطعامُ بسم الأفاعي؟ أهذه جدرانٌ أم مادةٌ من لحمِ الرفاق والآخرين؟ أي رفاق هؤلاء؟ ذابَ عظمُهُ في خطوط الأعداء. يضحكون عليه من قبورِهم. يخرجون من مستنقعاتهم السوداء حاملين ورداً وكلمات! وصيحاتهم تتعالى في الكابوس:
يهذي، يضرب ضلوعه:
(ابتعدوا عني يا خونة!)
سواعدٌ قويةٌ ترفعَهُ من حضيض سبخ الأشياء وسطح الدم اليابس، لا يزال يهذي بالحلم، النورُ الساطعُ يضربُ عيونه، يمسكُ الثيابَ الخشنةَ عساه يقف، يرتفع نحو الوجوه الأسمنتية، لا ثغرة فيها، يجرّونه على أرض مسطحة، يقف، يُصعدونه نحو ذروة مبنى:
(يا للهواء المنعش، هذه رائحة بلادي!)
يرى نفسه صبياً وهو يركض حاملاً الورقَ الذي يتخضبُ بدمهِ لكنه يوصله!
يمشي بين الردهات الواسعة، كان قصراً، لوحاتٌ كثيرةٌ لشوكت، وجهُهُ يتدفقُ منه نور.
وقف أمامه، بين ثلة من أحبائه، بين أصحاب عمره، لكن أين عزيز؟ وخالد وماهر؟ أين…؟
بدلاتٌ من جلد قروش البحر، وأسلحة، وشوارب كثة، ونظرات ميتة، كلهم يخافون من لمسهِ وهو المقيد الرث في بقايا ثوبه.
صمتٌ ثقيل. كأن البحر أُصيب بالخرس، وسكتتْ كلُ تلك النهارات والليالي الحافلة، ولم يبق فرقٌ بين الخلية والمقبرة.
سمعَ دوياً في أذنه، والمحكومُ استقبلَ رصاصاتٍ في قلبه.
يفضلُ هذه الرصاصات الجبانة، ويكرهُ الحبلَ الذي يلتف حول رقبته.


