كائنات مستأنسة
في الوجود التاريخي المتضاد للكائنات المستأنسة في منطقة الجزيرة والوطن العربي عموماً، خاصة للمصير المختلف بين الحصان والحمار، يتكشف الوضع المتباين كذلك للبشر وللمنتجين والمالكين.
فلم يكن الحصان أبن المنطقة، بل كان غريباً قادماً من مناطق قامت بترويضه واستئناسه، خاصة القوقاز، بل وحتى الجمل لم يكن أبن المنطقة كذلك، ولكن الحصان واجه مصيراً مشرقاً ومتطوراً باستمرار، بسبب الخدمات الحربية التي يقدمها للشعوب في المنطقة، ومن هنا اعتمدته الإمبراطوريات والشعوب البدوية، التي تطور لديها تطوراً كبيراً، فحافظت على سلالاته.
لكن هذا الكائن الجميل والسريع والمرافق الدائم للجيوش، لم يكن يؤدي خدمات إنتاجية، بل كان مرفهاً مدللاً، في حين قام بالدور الإنتاجي بدلاً عنه كائنات مستأنسة أخرى، خاصة الإبل والبقر والثيران والحمير.
وقد ألقى التطور الإنتاجي بثقله على هذه الكائنات الأخيرة لتغدو كلها مقدسة معبودة لدى هذه الشعوب، نظراً للدور المحوري الذي شكلته في الحياة اليومية لهؤلاء الناس.
لكن الإبل والحمير واجهوا أكثر من غيرهم المصير السيئ للمنتجين والعاملين عموماً، فاذا كانت الإبل هي التي أسست الأمة العربية في حفرها لخطوط الصحراء، ولوضعها العلامات الحضارية بين الكثبان والمفازات الضارية، فإن الحمار هو الذي شكل القرى الزراعية، فبدونه لم يكن بالإمكان الحديث عن الحرث والسقي وحمل الغلال والأدوات والصخور، كان الحمار هو الرفيق المستمر للفلاح الشرقي والعربي عبر العصور، ومن هنا كان هذا الكائن المسالم الصابر على العمل والعسف معبوداً في الحضارات القديمة، ولا غرابة في أن ملكاً كبيراً مؤسساً للحضارة وهو [حمورابي] أعلنه إلهاً له!
ولكن مكانة الحمار كانت مرافقة لمكانة الفلاح، والوضعان كانا يتدهوران عبر العصور، في حين كانت مكانة البادية والبدو في ارتفاع مستمر، ولهذا فإن الكائن العسكري الجميل الذي يرافقهم وهو الحصان شهد ارتفاعاً في مكانته الطبقية الحيوانية على بقية مملكته، فتم الاعتناء بسلالاته وتدون أسمائها وصار أرستقراطياً يوضع في أفضل حالة من العيش!
في حين إن الحيوانات التي كانت ترافق البدو الفقراء والفلاحين راحت تتدهور أوضاعها، فحين قامت الجمال بمهامها التاريخية القومية العظيمة، بتأسيس الجزيرة العربية والبوادي المختلفة، ونقلت البخور والثروات والسلع والأشعار والأفكار، انحطت مكانتها وتقلصت أعدادها، وغدت غير شهية للأكل وغير مفيدة للاتصال، فلم تغد سوى كائنات مسكينة للسباق.
أما الحمير فقد واجهت مصيراً مأساوياً بل كارثياً في الواقع. إن العداوة بين البدو والحمير هي قضية تاريخية وجغرافية وسياسية لا تخفى على أحد. وهى ليست قضية جمالية، بل قضية طبقية، لأن الحمير ككائنات ريفية كان عليها أن تواجه مع الفلاحين الغزوات المستمرة على مدى التاريخ للصحراويين، الذين يستولون على القرى وإنتاج الزراعة، مما يتسبب بالتدهور لأسعار الحاصلات الزراعية وظروف الإنتاج المختلفة، وقد نظرت الكتابات التي تُدون في المدن ومن أجل المصالح نظرة احتقار للريفيين وثقافاتهم وحيواناتهم، تعبيراً عن تجميد مستواهم الاجتماعي، وإلحاقهم بالسيادة الدائمة للمدينة والمركز السياسي. ولهذا فإن بعض الأدباء النهضويين الكبار الفلاحين كتوفيق الحكيم حاول أن يلغي هذه الدكتاتورية للحصان على الحمار.
وفي هذا الصراع الاجتماعي الطويل، والذي لم يكن للحمار دخل فيه، أو فهم له، ضاع هذا الكائن الشغيل الصابر في حروب البشر السياسية، وتدهورت سلالاته، وتبدلت ألوانه البيضاء الزاهية، وغرق في المستنقعات والمحاجر وتلاشت أعداده وتناقصت إلى حد يقترب من الانقراض.
وحين جاء أمين الريحاني إلى المنطقة قال في كتابه ملوك العرب إن أفضل الحمير في العالم هي حمير البحرين، ولكن أين هي الآن؟!


