طريق اللــــــــؤلؤ ـ رواية الفصول من 1 إلى 6
شكرآ ووردبريس1
هذه نشوتي وحبي لبلدي، منذ زمنٍ طويل لم أفرح، حتى لو أن عبدالحسين إختفى، والدوارَ هُجرَ وأزيل، لكن ديرتي ما زالت شامخة.
غصنا كثيراً من أجل اللؤلؤ، فقدنَا أعضاءَنا وقلوبنا، وعدنا بتمراتٍ وماء.
نحن سلالة الغواصين لا نتعبُ من أجلِ المحارِ واللؤلؤ.
مضينا في البحار، تهنا، أسرَنَا الأعداءُ، ضعنا.
وحين عثرنا على لؤلؤةٍ كبيرةٍ خرمَ بعضُنا السفينةَ وغرقنا.
تفجرُ الصخبُ بشكلٍ لم يسبق له مثيل، خلتُ أن البحرَ الذي هجرنا وذهبَ بعيداً، والذي سُرقتْ أمواجُهُ وسفنهُ ومواويله، هو الذي يتدفق، وأن الأحجارَ التي وُضعتْ في خلفيةِ الدوار، وزهتْ في الجسر، هي التي صارت تمشي.
عبدالحسين يتجمد عند التلفزيون، يطالعُ الشاشاتَ العربيةَ منبهراً، هذه أريافُ تونس التي يعرفها، ساحاتٌ واسعةٌ لأشجارِ الزيتون، بيوتٌ صغيرةٌ حالُها كحالِنا، لكنها أجمل بهذه الأشجار التي تبدو مثل نساءٍ أسطوريات، فنحن لم تبقْ لدينا أشجارٌ كثيرةٌ مثل هذه، عندنا نخيلٌ باقياتٌ وأشجارٌ خاليةٌ من الثمر. في تونس الأمر مختلفٌ، أراض لا تُحدُ من الزيتون، الشجراتُ النسائيةُ ذاتُ الجدائل الخضراء والسوداء.
بناتُ تونس الجميلات يظهرن على الشاشة ويصرخن، ونساؤنا مخبآت، مستترات، وعائشة مغيبة، نائية، ممنوعة على عبدالحسين، وها هو البائع المتجول الذي صار شهيراً يتحولُ إلى كتلةٍ من لهب!
عبدالحسين يقفزُ من على كرسيه! يَخرجُ من جلده، يَسحبُ الستارةَ عن النافذة، يفتحُ الزجاج، يعبُ الهواء.
يتطلعُ إلى بيوتِ القرية الكثيفةِ الكثيرة؛ منازلٌ هشةٌ، عتيقةٌ، بعضُها مرمم، بعضُها ينحني مترنحاً، وبعضُها جديدٌ يزهو بعيداً، والدروبُ ضيقةٌ، وساحاتُ الفضاءِ القديمةِ الواسعة نشبتْ فوق حواجز، إنغرستْ فيها جلاميد، أو سُيجتْ بأسلاك.
يريد عبدالحسين أن يشعل النارَ في روحه! كلُ الأوراق التي بثها رعبُهُ وجنونُهُ ما زالتْ في أدراجه. مضتْ في بريد، أخذها أبوهُ شهاب، سُلمتْ بأيدٍ عَرقة، لكنها ما رأتْ الحرية.
يرى البحرَ البشري يتدفقُ في شارع الحبيب بورقيبة، الناسُ تخرجُ من بين الصخورِ والأشجار، تُغرقُ الشوارعَ بأصواتِها وأنفاسِها، تملأُ الساحاتَ، حيث لا مكانَ لدراجةٍ أو مظلة، حيث تداخلتْ الأجسامُ حتى ذابتْ وصارتْ نهراً.
يقول عبدالحسين لكريم مهدي:
– مازالتْ الناسُ تأكلُ وتشتري الخبز في حشدٍ هنا، ما زالتْ تتغلغلُ في سوق السمكِ والفواكه وتساوم!
أقولُ لهُ بنشوةٍ خفيةٍ لا أعرفُ كيف غمرتني:
– الشاشاتُ تشتغل هنا مبهورة بذلك الشعبِ الجريء، الأخبارُ تتداول. والجماعةُ هادئة، كراسٍ في المجلس ورواتبٌ عالية وسيارات فارهة، هؤلاء هم الذين يختارهم السيد ميرزا علي، صبية، وجماعةُ حزبِ هارون تعرفهم!
صرخَ عبدالحسين:
– إلى ماذا ينتظرون؟ حتى يفنى هؤلاء الناس؟ صرنا أقليةً في بلدنا، صرنا هنوداً حمراً!
أصدمهُ، أحاولُ أن أخفف من هياجه:
– لا تستعجل، حاولْ أن تقرأ. شِعركَ الأخير لم يعجبني.
– ماذا به؟
– أشياءُ غائمةٌ، دوائرٌ غامضةٌ، وأنتَ وحدكَ في البستانِ المهدمِ والمحروق، تصطادُ أشباحاً، ملفاتٌ من الدخان وغيمٌ يأخذكَ في البهيم. ما هذا؟ أين الزخمُ الهادرُ؟ أين الجلجلة التي تمشي فيها مضرجاً بدمك؟
كريم يحتج:
– أنتم تثرثرون في الشعر، الذي لا أقرأهُ ولا أحدَ يقرأه!
هذا النمطُ الغريبُ من المتعلمين ككريم كان دائماً معنا، لكن بحرَ المعرفة بعيدٌ عنه، ومع هذا يقودُ ويملأُنَا بالجراح!
يسترخي كريم على الجدارِ المشوهِ، حفرياتُ البحرِ وأصابعُهُ فيه، لا ينقصُ كريمٌ المال، لكنه مغروسٌ في القريةِ لبخلٍ عريقٍ لديه، كلُ الدكاترة وأصحابِ النظاراتِ المقعرة، والشهادات المزورة غادروا إلى الصحراء ينشئون بيوتاً فارهة، لم يسمعْ أصواتَهم إلا متقطعةً في الهواتف أو يراهم يتحدثون في التلفزيون عن الانجازات.
أنهضُ وأسكبُ شراباً لهما، يدفق عبدالحسين السائلَ البارد، ينتعش، يهتفُ بجرأة عاطفية:
– سأقولُ لكما حكايةً غريبةً حدثتْ لي، في نفس الوزارة، في نفسِ الممراتِ الخائبة، ونفس الموظفين المصنوعين من الملح، حدثَ شيءٌ غريبٌ جميل.
برعونةٍ يقول كريم:
– هل يمكن أن يحدثَ في الوزارات شيءٌ جميل؟
– كلمتني فتاةٌ، فتاةٌ جميلةٌ أخذتني لمكتبها، جلستُ في مواجهةِ طيفٍ ملائكي، كثيرٌ من الشوكِ الذي أحملهُ من غاباتِ القرى تناثرَ هناك، إحترقَ، ذاب تحت الرموش، تمددتُ. وودتُ لو أظلُ إلى الأبدِ أطالعُ هذا الوجه. ثم مرةً ومرةً أخرى، وصار مكتبينا أجمل بقعتين في العالم!
– أبهذه السرعة وفي الجانب الآخر من البحر الأهلي المضطرب؟
– ما هذه الكلماتُ المحبطةُ يا كريم، لم أجدك يوماً تمدح لي قصيدةً فما بالك بمشروع حياتي الراهن؟
– كيف لا وأنت مثل الأدباء القدامى الرومانتيكيين الهائمين بين جذوعِ النخيل والغابةِ المقطوعةِ وكل هذه الكلمات العجيبة، أصحْ، استيقظْ من رقدتك!
يبتعدُ عن كريم ويقتربُ مني ويكادُ ينحني ليس لي ولكن للأرضِ، لجذورِ النخيل اليابسة:
– علاقةٌ غمرتني، خفتُ أن أبوحَ بها لأحد، لا أصدق أن كلَ هذا الجمال يحبني، رحتُ أعملُ في المجلة، وأقرأ، شجعتني عائشة على الحياة، غمرتْ روحي محبةٌ عظيمة!
2
لو أنهم يَصرخون لعرفتهم، هذه الوجوهُ تمشي إلى الأبدِ في الطرقِ الغامضةِ، بين القبورِ، تَدخلُ القلاعَ القديمةَ وترفعُ الأعلامَ. منذ أن هُزمَ الحسينُ والدوائرُ كلُها تشتعلُ، مخاضُ الأمةِ يتجددُ في كلِ ربيعٍ من الدمِ والأزهار.
الحصادُ التونسي من الجثثِ كان رهيباً، الطاغيةُ وراء الأسوارِ والمدافعِ والمكاتب، بوجهٍ مصنوعٍ من قناع دبق، كأنه إحدى العرائسِ المتحركةِ لكنها تنفثُ أعاصيرَ الملاريا ورياحَ الطاعون، الشجرُ مشى محتجاً، الزيتونُ صار قبضات، والفتياتُ صرنَّ ربيعاً، وبائعاتُ اللذةِ في الأزقةِ الداخلية رحنَّ يسرقنَّ سجلات المخبرين.
بيتُ عبدالحسين ضيقٌ وغرفتُهُ يشاركُهُ فيها أخوتُهُ الصغار، ويعودُ بعد أن يناموا ليقرأ، وأصواتهم وشخيرهم الرقيق تفتتُ أنسجةَ الشعر.
يقول لي:
– كريم لا يفهمني، بل غضب عليّ لأنني أُعجبتْ بفتاةٍ من مدينةٍ بعيدة، يقولُ لي كيف تحب وأنتَ عاطل؟ فأصرخُ فيه قلبي لم يُوضع في سجلِ التأمين بعد! ماذا تقول يا شيخنا، أنت هنا متوحدٌ، غريبٌ، لا تؤنسكَ سوى الكتب والموسيقى والنبيذ، ألا تخافُ من أهلِ القرية يقتلونك؟
أردُ عليه:
– أشعلْ قلبكَ بهِ، هو الضوءُ الكبيرُ لنا.
– أتعرفُ يا شيخنَا كيف أفادتني نصائحك، كأنكَ جربتَ الحبَ كثيراً! كنتُ أبحثُ عن وظيفةٍ حقيرةٍ في الوزارة فإذا بي أقعُ في شَركٍ كبير. لا مالَ، ولا بيتَ مثل بيوت الناس، ولا وظيفة، ولا كتبَ مؤلفةً أتباهى بها، ولا زاويةً في جريدةٍ أرفسُ فيها كالبغل، ثم يتم إصطيادي في شباكِ فاتنةٍ لا أستطيعُ أن أمزقَهُ أو أخرجَ من بين ثغراته. لكن الكلماتَ التي أمطرتْ فوق روحي، الكبريتُ الصغيرُ الذي يضيءُ غرفتك، مشيتُ بهِ على أهابِ الحسِّ العاطفي، دخلتُ به في عيني الفتاةِ التي تشرقُ في تلك المدينة مع الشمس. قلتُ لها: هاكِ نفسي فداءً، وضعتُ حياتي تحتَ أناملِها وشِعري تحتَ ظفائرِها. فلم تقدمْ لي وظيفةً فحسب بل قلبَها كذلك.
3
لا يمكنُ لهذا الفتى الطفلِ إلا أن ينغمسَ في اللهوِّ ويطيرَ بين الزهرِ، ويعودَ بكتابٍ يقرأهُ على ضوءِ شمعةٍ، أو عند مصباحٍ لبيتِ رجلٍ ثري لا يشكُ فيه فيتصلُ بالشرطةِ ولا يأبهُ بفواتير الكهرباءِ الثقيلة.
وعليَّ أن أمضي بين أزقةِ الوحشةِ أتنصتُ لما يقولهُ الشيوخُ المجتمعون بدأبٍ مقلقٍ، تضطجعُ سياراتُهم وتهزُ الأحياءَ الهادئةَ المسكينة، في ذلك الخلاءِ الكبيرِ الذي يشرفُ عليه بيتُ السيدِ ميرزا علي، لا يمكن لنأمةٍ أن تتسللَ من بين تلك الأجداثِ الغلاظِ، أو أن يتمكنَ عصفورٌ من تناولِ قشةٍ ليصنعَ عشَ حبٍ بدونِ أن يدفعَ ضريبةً، لكن عليّ أن أخطَ الأثرَ، وأنصتُ للمحطاتِ السريةِ، وأتجلى للنخلاتِ الباقياتِ بعد عواصفِ الشيطان هادياً للروحِ الأخضر.
ثمةَ ناطورٌ مسكينٌ يدلي بأخبارٍ بعد التحياتِ التي يطلقُها هو بادئاً، ويرجعُ أصداءَ تمتماتِ السادةِ وسواقِهم الغامضة وتلاميذهم الأوفياء، وحتى البراميل لا يمكن أن تُدلي بشيءٍ من قصاصاتِ أوراقِهم المحروقة، لكن إحدى الخادمات الجارات التي تقدمُ الأطباقَ الكثيرةَ بتعبٍ لا يتوقف هي وحدها من يمكن أن تسربَ بعضَ الجملِ والأخبار المفيدة.
كلهم يتكلمون إلا السيد ميرزا، يظلُ يرمقُهم بوجههِ الصغيرِ وعينيهِ الخرزيتينِ المضيئتينِ كأنهما نصلانِ تحت الماءِ الشفاف.
يتكلمون ويَعرضون الأسى العامَ الذي يسببُهُ غيرُهم، لكنهم لا يتحدثون عن المخازنِ الوفيرة المتسعة، وحملات تغذيتها تجنباً ربما للخطوب القادمة، وعن التحويلاتِ النقديةِ الكثيرة التي تصاعدتْ فجأة لجهاتٍ شتى.
لا أستطيع أن ألمسَ شيئاً، وأمضي في تجوالي، في ذاتِ الأزقةِ الموحشةِ، وبين دروبِ البساتينِ الصامتةِ إلا من ثرثرةِ الجنادبِ المزعجة، وكثيراً ما صادفني عبدالحسين فيُفاجئُ من وجهي في الظلام. يهتفُ: توقعتُ كلَ البشرِ إلا أنتَ! وكان يجب أن يقولَ لم أتوقعْ أحداً إلا أنت! ولكن من أين لهذا الفتى أن يعلمَ؟ وهو لم يرَ الخطوبَ. أمضي، أشقُ دروبي، تطالعني الأقمارُ الصناعيةُ وتحددَ خطاي، أجنحُ نحو النُهيرِ الضيق، تحسبُ خطواتيَّ الحشائشُ. بيوتُهُم عملاقةٌ في هذه الزروعِ الوفيرة، قصورٌ على مدى النظر، وبيوتٌ فوق المرتفعاتِ الشامخة، وعندهم أضواءٌ جامحةٌ، أصغي للأسلاكِ تنقلُ ذبذباتِنا، أرهفُ السمعَ للصرخاتِ القادمةِ من مدنِ الصفيح، تغمغمُ إعلاناتُ التوفيرِ القاسية في بيوت الظلمات والأسى، تبكي تسريحاتٌ إضطراريةٌ في أوقاتٍ صعبة، نهرٌ من المعدنِ المضيء ينسحبُ من عينِ قصاري إلى مدينةِ الأضواء وناطحات السحب، أطفالٌ يبكون في المزاداتِ العلنية، تنشل قواي، لا أستطيع أن أسير .
4
كيف لي أن أغيرَ من شابٍ كـ عبدالحسين الوسيم العطر في بيئةٍ رثةٍ مليئةٍ بالسماد؟ هذا الذي لم يرحلْ لبلدان بعيدة؟ يسألني: كيف هي تونس؟ كيف هي مصر؟ كيف هي سورية؟ ويدوخُ حين يقولُ كيف هي أوروبا؟ لم يذهبْ سوى إلى الكويت، حيث إشتغلَ في فندق، وأحسَّ أنه في مصيدةٍ حجريةٍ نارية، فشربَ وسجنوه ثم سفَّروه!
لم يرْ أزقةَ تونس الرفيقةِ بالماشي. الأحجارُ تندى بالماضي وتمدُ أغصانَ الياسمين لروما، الدروبُ تحنو عليك، والجبالُ الرفيقةُ مفروشةٌ بالعشبِ الأخضر، والنساءُ مثل الخوخ في الشوارع، وعلى المقاعد في الشارع الرئيسي، وحاناتُ الشغيلةِ في كلِ أزقة شارع الحبيب، حيث الزنود والهياكل العظمية التعبة، وسحابات من الكلام والدخان.
هناك جلستُ في فندق وأحتضنتُ امرأةً جميلة، جاءتْ من الريف فأخذتُها إلى الخلاءِ الواسع، حيث تُذبحُ الأغنامُ ويُشوى اللحمُ كأنه الزبدة، كانت في كل لحظة تسرقني، تجمعُ رثاثاً نقدياً تافهاً، حتى تَركتُ لها كلَ شيء وأنا أسبح في الحمام أحسُّ بأصابعِها اللزقة وهي تنظف جيوبي!
هناك كانت رفقتي، بيت المعلمة عرضتْ عليّ سريرَها فجلستُ في غرفةٍ أخرى، وكان برداً، ودفئاً في المشاعر والسفر إلى الجبال ومدى الزيتون وأخذ التذكارات من مهاراتِ الحرفيين، كان البشرُ يظهرون معصورين، مثل قطع الصخور، صاحبي كان ينفضُ عليّ آلامَ الناس، كلُ قطعةِ نقدٍ تَظهرُ من مسامٍ ملأى بالدم.
نتطلع عبدالحسين وكريم وأنا للشاشة وهي ترينا البحرَ البشري في شارعِ الحبيب ملأ الآفاق، كتلُ السوادِ والدروعُ تخترقُهم، المياهُ الحارةُ تنصبُ فوقهم، شلالاتٌ هادرةٌ تفتتُهم، تمزقُهم، يتسربُ بعضُهم للحارات الجانبية، تتحملُ البقيةُ ضرباتَ العصي، تنهارُ على البلاط، تُقذفُ في الشاحنات، جمهورٌ آخرُ يظهر، جاءَ من كلِ مسامِ المدينةِ، إنتشرَ مرةً أخرى.
عبدالحسين مبهورٌ:
– ماذا يحدثُ؟ لماذا لا يتوقفون؟ لماذا يختفون فيظهرون من جديدٍ أكثر، وأشجع؟ الأزقةُ الصغيرةُ تفيضُ بالبشر وقد صاروا عملاقة؟
5
أطيرُ بأجنحتي وحبي نحو خلايا الرحيقِ في المدينة، الرفاقُ الذين إنقطعتْ خيوطي بهم، الأصدقاءُ الذين يشربون ويثرثرون ويدفئون الأجواءَ الباردة في الأحياء، يخلقون ألفةً في غربةٍ كثيفة كاوية، هم أنفسُهم لم يتغيروا، على مقاعدِهم، بنفسِ هيئاتِهم، بنفسِ شرابهم، وسحناتُهم إزدادتْ قدماً، وإسترختْ وملأتها الأطلالُ والحفرُ والتلالُ والأضواءُ الخاطفةُ وأغوارٌ ملعونة.
صديق قديم هو سلطان علي، ينظرُ بكبرياء شامخةٍ إلى الوجود، يحدقُ في كلماتِ الآخرين بتجهم، عبدالله عبدالوهاب ربعة وهادئ وذو لغة راقية، وداخله نيران، ويونس خلف يحتفظ ببدلته وربطة عنقه في كل الأوقات يكتب مقالة نادرة في كل شهر.
سلطان في حالة غليان:
– وماذا بعد؟ العالم يشتعل ونحن في برود غريب؟ نريد أن ينفجرَ شيء هنا؟ لماذا هذه الشوارع منطفأة؟
يجيب عبدالله:
– تركنا الناس والناس تركتنا. نحن لا نمثلُ شيئاً.
يأتي أناسٌ آخرون، تتكرر الكلمات، كم من الضحايا الذين سقطوا في تونس؟ الجيش لم يتدخل، الموجات البشرية تتدفق من أعماق الريف المثخن بالجراح، يصرخ سلطان:
– علينا أن نفعل شيئاً. أن نصدر نشرة، ان نوزع كلمة، أما هذا الخرس فهو مشين!
يرد عبدالله:
– من يتحرك هم هناك رجال الدين في الأعماق والذين لا تحبونهم!
ينهض سلطان بقامته القصيرة الهزيلة وكأنه سيف مشهر:
ــ هم الذين خربوا كلَ شيء!
نفس أنفاس الحارات، نفس البيوت القديمة، والدكاكين محنية الظهور، كم مرة مررنا بهذه الأزقة المحرقية الدائخة من المطر والحر وسلطان من العلب القليلة عند البحر حتى الشرب ظهراً وليلاً، كائن صغير يشفط الدخان ويتصحر، ولا يهدأ عن الطيران في الهواء.
عقوداً جلسوا هنا، حاصروا أنفسهم بين الدخان والجدران والعلب والكلام والشجار، نفس الحارات والبشر والمدن تنمو وتتوغل في البحر والفنادق والعمارات وناطحات السحب تظهر بدون دخل لهم، الأحجار تتنامى في كل مكان وغرفهم هي نفسها، سلطان كان في بيت كبير ثم بيع وتقاسم الأهل المال، وأجر شقة صغيرة ثم سكن مع صديق.
عبدالله كون أسرة وعاش في الوزارات الحكومية وما يفتأ يهاجمها ويقبع في العتمة، يقرأ كثيراً، ويصمت كثيراً، وكون لنفسه ثروة صغيرة ويطير مع الثورات الكبرى وهدم الأبنية العتيقة ويتبدل الهدوء فجأة بعاصفة ويريد حرق كل شيء!
يتسلل عبدالله بسرعة إلى البيت، مهتماً بالدوام، والاستيقاظ المبكر والصحة. في حين يدع سلطان نفسه للسهر والتدخين والثرثرة، يتعبه في دورانه على ذات الجملة، (يجب أن يحدث شيءٌ يهدم هذا الجمود)، السيجارة تشتعل وترتفع إلى وجهه، تدور في هذه التلة الصغيرة الضامرة، ذات المنخفضات والعظام اليابسة الأخيرة والعينيان الصغيرتان التائهتان بين الجمل والجهات، والحانة راحت تغسل نفسها من الورق والبشر وتقلب الكراسي والحضور، وهو متشبث بعلبه:
– هل نقبل أن يحكمنا أصحاب اللحى المتخلفون هؤلاء.. القادمون من عصور الظلام.. يتجمدون في الحلال والحرام.. ماذا نفعل بهذا الهراء كله؟
يقوده في السيارة إلى بيته وتداخلت الدروب والأشياء والكلمات، ويعرف الشارع العام، وتاهت الأزقة الجانبية وهو لا يزال في جملته الدائرية المحورية، والسيجارة تنفض رمادها على الأرصفة والدموع والأغلفة التي لم تقرأ، وحتى حين أنزله كان لا يزال يتكلم.
6
عبدالحسين محباً صارَ فراشةً، يقفزُ على جذوعِ النخلِ الميتِ ومصائدِ الأولادِ المطبقةِ على أعناقِ العصافير بخفة، يصنع قارباً لوحاً لوحاً، صارَ لديه مكتب، في مجلةٍ بائسة لكنه لا يتحمل مسئولية النشر فيها، ويدخلُ وزارةً بين حرس، ولديه بطاقة تُوضع على صدره، وصار يستلم رواتب، ويرى عائشة كل يوم، ويلتقيان في مقهى، وثمة شرارات تتفجرُ بين أصابعِهما، حمامتانِ طائرتانِ في الأعالي ثم نزلتا لتضاريس الأرض، وجدتا نفسيهما بين طوابق عماراتٍ ضارية، قرب مكيفات صاخبة بالهواء الحار، في مربعات صغيرة محفورة بين الجدران فكيف سيبنيان عشاً؟
الآن قميصه المفتوح يرتعش، الريشُ يلامسُ النارَ، حِكمُ الشيوخِ تبخرتْ في رمادِ العقودِ البنكية، ويسألهُ أن يمدهُ بحكمة، ومن يستطيع في الحب أن يكون حكيماً؟!
– حين قلتُ لأمي أن اسم حبيبتي عائشة فَزعتْ! قالت بسخرية منفرة: ألم تجد إلا واحدة اسمها عائشة؟ عائشة أم الذباب؟! وسنية وأخوتها ضباط وأبوها لا أعرف ماذا يكون! وأمامك كل هؤلاء البنات المصونات المحجبات الطاهرات النقيات! رحتُ أحاولُ إقناعَها: هذه فتاة طيبة جداً، نقية، ما دخلي أنا بأبيها وأخيها وجذور اسمها؟ ضحكت أمي، جذور؟ (ويش هذه الجذور؟)، هل أنت سوف تزرع أم تتزوج؟!
رمادُ سيجارتهِ يظهرُ من دائرةِ قلبه، يدخلُ تضاريسَ الأزقةِ القديمة، يَرى خِياماً وقوافلَ ودماءً، وصحراءَ تنبضُ بقصور عملاقة زُرعتْ فوق جماجم وأسواق، ويظهرُ ورقٌ وشعرٌ وحكايات وأقمارٌ محترقةٌ في السماءِ ونيازكٌ غامضة تنشرُ المعرفةَ والسحر، والقافلتان تتحاربان، تظلان في الرمال، تدفنان الجماجمَ والتعاويذ وتراسلان الأجيالَ عبرَ المخطوطات وأوراق البردى والإنترنت، توصلان الدمَ والعظامَ المحروقة والخرافات إلى الأسرة ومهود الأطفال.
– ماذا أفعل يا شيخي؟ ما دخلي أنا بكل هذا التاريخ؟ ولم تختلف ردودُ أسرة أحمد العلاف العالية، ذات البيوت الكبيرة والدائرة المالية والسيارات عن عائلة شهاب عمران! عن هذه الأسرة ذات البيت الرث والأولاد الكثيرين الذين يذهب بعضهم للسوق لتسفيط السمك وحمل الأغراض في العربات!
أجنحتهُ لا تستطيع أن تطيرَ به، أجنحتهُ تضربُ الصخور ، يسمعُ الكلماتَ الغريبة، تجرحُ أذنَهُ، تقولُ الأمُ: أتتزوجين شخصاً اسمه عبدالحسين؟ هل ضاقتْ الدنيا حتى تذهبين تتسولين في قرية من أجل زوج؟ لو أنك جلبتِ لنا كلَ أموال الدنيا وكل جمال الشباب لن يخطو هذا الكائن نحونا أبداً! ليذهب ليصلح اسمه أولاً ويجد أصلاً غير هذا الأصل حتى يمكن لبنات الأشراف أن يرضين به!
حاولْ أن تطيرَ، أن تجدَ صخرةً تنزلُ عليها غير هذه الصخرة الموحشة الناقعة في البحر، تضربها الرمالُ الموحشةُ البليدةُ من الخيامِ وغاباتِ الماعز والإبل، وتجرفها زجاجاتُ القرى الجائعةِ المسكينةِ المليئةِ بأسماكِها الصغيرة المتعفنةِ وبالمدمراتِ الشامخة التي تسبحُ فوق عظام المساكين.
أخو عائشة الضابط خثلان ينتفض غضباً، تطير النجوم من على كتفيه وتصيرُ أسهماً نارية، ويَضربُ حذاؤه وجهَ الرصيفِ تاركاً فيه علاماتٍ من الصوتِ والصولجان، ويقتربُ من طاولةِ الغزلِ العفيف، ولقاء البحر بالنخيل، ورفيف العصافير الشعرية على القواربِ التي تكادُ أن تغرقَ في بركة.
– لا أسمح أن تقتربَ من أختي ثانية!
– أرفعْ يدكَ عن كتفي!
– سوف أجركَ لزنزانةٍ تقبعُ فيها نصفَ عمرك!
– أنت شقيقُ حبيبتي ولهذا لن أردَ على جرحِ أظافرك لكتفي!
– لا تقلْ مثل هذه الكلمات البذيئة.
– لا تفعلْ ذلك يا أخي! أنت تعتدي على القانون أولاً!
سيدي تونس تمضي في الشوارع كلها، لم يبق أحدٌ في بيته سوى الطاغية وأتباعه، خائفون أنزلوا كلَ العساكرِ والمروحياتِ والسياراتِ تمطرُ رذاذاً ساماً وإشاعاتٍ وأكاذيب وتملأ الإسطبلات والملاعب بالمقيدين والمجروحين، والفارون يملأون الزوارقَ والسفنَ ويلوذون بشواطئ أوروبا، ويغرقون، ويسبحون، ويتمزقون بين الصخورِ وأسماكِ القرش، ولا يجدون أطواقَ النجاة، وينتشر المعلقون والناشرون والأفواه المفوهة ويتحدثون عن حقوق البشر، ويجد روادُ المطاعمِ على شواطئ البحرِ قلوبَ التونسيين في الأطباق محمرةً لذيذة!
اطلب الرواية عن طريق النيل الفرات : https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb291574-278294&search=books


