الفداء … مقطع من روايتي جريمة في مسرح القباني 2020 عن دار ميم الجزائر – باسم سليمان
انصرم ثالث أيّام العيد دون نتيجة. نال التعب من المحقّق هشام، وأمسى مرهقاً جداً ،فاستسلم للنعاس، ولم يصحُ إلا في فجر اليوم التالي، آخر أيام العيد. كانت السماء مكفهرّة، وهناك احتمال كبير لهطول المطر. أمضى كامل وقته في مكتبه، لا يستقرّ على هدى! وفي خضم سيلان ذاكرته، وأفكاره وجدله، انبثقت قصّة النبي إبراهيم، كأنّها جذوع أشجار اقتلعها سيل عرمرم، فبدأ بالتمسّك بالجذوع محاولاً الوصول إلى ضفة الطوفان. استذكر الآيات التي تخصّ خليل الله إبراهيم، ومنهجيّة النبيّ في التفكير، فالذي يقول:(لا أحبّ الآفلين ) لا يمكن أن يركن إلى مجرّد حلم يأمره بأن يذبح ابنه الذي كاد ييأس من أن يهبه الله إياه بعدما أصبح شيخاً وامرأته قد فاتها زمن الخصوبة، ولا يعقل أنّ من انتخبه الله خليلاً وأنجاه من النمرود والتحريق بالنار، وكيف يحيي الموتى، أن ينحدر لوثنية سابقة كانت تسمح بتقديم الأطفال كأضاحي!؟
هل شعر النبي إبراهيم المحتاج إلى الله، أنه قصّر وسمح للشيطان أن يدخل إلى نفسه، ويوسوس له كما أغوى أباه آدم من قبل بأن يأكل من الشجرة المحرّمة؟ فالله أمر آدم وزوجته حواء بأن يأكلا من كلّ ثمار الجنّة، وأن يمتنعا عن شجرة مخصوصة أشار الله إليها، وآدم الذي عرف الأسماء كلها وصار سميعاً بصيراً، أدرك أنّه ليس خالداً كالله، أو الملائكة أو حتّى الجان؛ فمصيره الموت بعد الحياة وسيطويه النسيان.
كيف أدرك آدم حتمية الموت، والموت كحادث للمخلوق البشري لم يكن مطروقاً في الجنة!؟ هل علم الغيب وهذا غير ممكن وليس مؤهلاً له!؟ هل سرّب الشيطان من خلال وسوسته له هذه المعلومة، وأقسم له أنه من الناصحين!؟ لربما يصحّ ذلك لكن من أين جاء الشيطان بتلك المعلومة!؟ في عاصفة النقاش الدائر في ذهن المحقّق، طفا موضوع الاصطفاء، فردد الآية في فضاء مكتبه: ( إِنَّ اللَّه اِصْطَفَى آدَم وَنُوحًا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عِمْرَان عَلَى الْعَالَمِينَ ) وكما ردّد الآية، كلّم نفسه: الاصطفاء يكون من مجموع متشابه ومتماثل، كأن تقوم بانتقاء كيلو تفاح من صندوق التفاح عند بائع الفواكه، وهذا يصحّ على نوح وإبراهيم وآل عمران لأمثالهم من البشر، لكن آدم كان بداية الخلق، فليس من أحد غيره كما تقول التفاسير. يبدو الأمر على غير ذلك، وما إشارة ( مواراة السوءات ) التي خضع آدم لها إلا دلالة على عدم تعلّق معنى السوءات بالعورات، فالعورة واضحة المعنى ودلالتها الفروج التي يجب سترها أمّا السوءات، فكثيرة، ومواراتها تعني إخفاءها تحت طبقات من التحسين والإصلاح. لنفترض أن آدم لم يكن أول البشر بل كان هناك مجموعة بشرية تعيش على الأرض ومنها تم انتقاء آدم ومن ثم تهذيبه عبر مواراة السوءات، وتحضيره كخليفة وما إن تنتهي حضانته في الجنة وتأهيله، يعاد إلى الأرض كي يعمّرها، وهذا يقود إلى السبب في عداوة الشيطان له، فالشيطان على ما يظهر كان وكيلاً للسماء في مرحلة الأرض التي كانت فيها تلتهب وبعد أن بردت وصارت جاهزة لقدوم المخلوق البشريّ، الذي سيصبح وكيلاً للسماء على الأرض، غدا حكم الشيطان مهدّداً، وما تأفّف الملائكة من كلام الله بأنّه سيجعل في الأرض خليفة إلّا بسبب مقارنتهم بين المخلوق البشري الذي يملأ الأرض، ويسفك الدماء وآدم الذي سيكون خليفة، فالملائكة لا تعلم الغيب، لكنها رأت ما يفعله المخلوق البشري! وعندما بررت اعتراضها قالت (أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ) فهي تتكلّم عن حال قائمة الآن بدليل الفعل المضارع والاسم الموصول ( من ) الذي يشير إلى الكائن العاقل البشري.
ومن هنا تصبح مواراة السوءات، تعني تعديل آدم ونقله من مرحلة البشري إلى مرحلة الإنساني، لكنّ استعجال آدم الخلافة وإدراكه أنّه سيموت كأمثاله من الكائنات البشرية الموجودة على الأرض دفعه إلى ممارسة الجنس كي ينجب وريثه، فشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى تفترض ذلك، فهل واقع حواء أم أنثى أخرى؟ يبدو أن أنثى أخرى كانت أمّاً لقابيل، فالنص الديني يخصّ آدم لوحده بالغواية والعصيان ويسكت عن حواء.
تأمل فيما تداعى إلى ذهنه من أفكار، ولمعت جملة تخصّ هابيل ابن النبي آدم، وتتعلّق بالإثم الذي تكلّم عنه هابيل قائلاً: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار، وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) مضيفاً للكلمة ( إثم) ياء المتكلّم، التي تعني أيضاً الملكية، فما هو إثم هابيل؟ يرفض هابيل أن يمدّ يده بسوء إلى أخيه قابيل، فيما قابيل لا يرتدع، فهو يريد الخلود والبقاء كما أبيه آدم قبل التوبة لذلك يقتل هابيل. هابيل كان واعياً للغواية، والخطيئة الأساسيّة، وأنّها تجري في عروقه مجرى الدم وراثة عن أبيه وإلا لِم كان التحذير من الله إلى أبناء آدم بأن يحذروا غواية الشيطان، فلا يغويهم كما أخرج أبويهم من الجنة بالإضافة إلى قول هابيل: (بِإِثْمِي).
أضاءت له الجملة تساؤلاته عن رؤيا إبراهيم، الذي أدرك أنّه قد وقع في شرك شبيه بالذي وقع فيه أبوه آدم، فطلب أن يكون له ذرّية وخاصة أنّه قد كبر في العمر، وأصبح شيخاً وامرأته غادرتها عادة النساء، وإن استجابة الله له ما هي إلا مكر كي يختبره، بعد أن علّمه أن يطمئن قلبه ولا يجزع من الموت سواء بإحياء الطيور التي شدّها إلى يده أو نجاته من نار نمرود، فلو كان الله يريد أن تكون له ذرّية لوهبه ذلك دون أن يسأل، فالله أعلم بما في الصدور، ومن هنا كانت رؤياه في المنام تعبيراً عن مكبوتاته التي يعمل عقله الواعي على حجبها، فجاءته في الحلم، وما ردّ ابنه بقوله ( افعل ما تؤمر ) جاعلاً الفعل مبنياً للمجهول إلّا لإدراك الابن هواجس والده، فالولد سرّ أبيه، فلقد أكمل جوابه ) إن شاء الله ستجدني من الصابرين ( وما جوابه إلّا تسليم مطلق لله، فيأتي تدخل الله بفداء ابن ابراهيم بالكبش منهياً الخطيئة الأصلية، بعدما استفاق ابراهيم من غفلته، ورفض الخلود إلى الأرض كما فعل أبوه آدم وكان ابنه كما هابيل موقناً ورافضاً للغواية التي وقع فيها قابيل. هكذا انتهى الإرث وأصبح إبراهيم آدم المثال كما قدر له قبل الغواية، فللبشرية تاريخان، واحد يبدأ من آدم وينتهي مع إبراهيم، وثان يبدأ من إبراهيم مستمراً إلى الآن، نستطيع فيه أن نجبّ الجريمة عبر العقوبة أو الفداء.
أتكون هذه النتيجة، هي الأصل المخفي لنظرية التصعيد التي تكلّم عنها سيغموند فرويد بأن الكبت يتحوّل، وقد ينتهي إلى فنّ وجمال وإبداع!؟
والآن هل حارس المسرح، ومحرّك الدمى أحد الأشباه لقصتي آدم وإبراهيم؟
ــــــــــــــــــــ
مقطع من روايتي: جريمة في مسرح القباني الصادرة عن دار ميم 2020

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
