الماركسية والأديان
#عبدالله_خليفة لا يمكن أن تُفهم الأديان والتراث السابق للبشرية بشكل موضوعي حقيقي إلا من قبل الماركسية. ولكن ليست أي ماركسية، فالماركسية غدت ماركسيات، مثلما أن الإسلام غدا مذاهب وتيارات لا حصر لها.
فالإسلام بكل أطيافه يظل متوحداً في بنية كلاسيكية لم يستطع المنتجون الفكريون والسياسيون المنتمون إليها تغييرها، وليس للإسلام كدين عريض لكي يبقى سوى أن يتحد بالمستقبل والتطور، في حين أن أغلبية المنتجين السابقين يقودونه إلى الماضي ويمنعون مقلديه من المضي إلى الحداثة، لأنهم لا يفهمون تركيبة الإسلام الماضوية الحقيقية.
وقد نظر الدينيون في الغرب والمشرق الإسلامي الى الماركسية باعتبارها أداة هدم وإزالة للأديان، خلطاً منهم بين الماركسية الارادية الذاتية وبين الماركسية الموضوعية، بين الماركسية كما تشكلت في دول الشرق الاستبدادية وبين الماركسية كما تنامت في حقول المعرفة الحديثة.
لقد تشكلت ماركسية القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية كتتويج لنزعات التنوير والإلحاد والنضال العمالي ضد الكنيسة وراس المال، بعد أن تم على نحو مهم إبعاد الدين عن العمل السياسي العام، وهي معبرة عن مصالح الطبقة العاملة تحديداً، التي ظلت تعمل من أجلها، فتوجهت للعمل السياسي مشكلة أحزاباً لم تستطع أن تصل إلى السلطة، بحكم أن طبقة رأس المال استطاعت أن تجذر سلطتها في نواحي الحياة كافة.
كما تشكلت أصولُ الماركسية بين نزعات الحداثة المختلفة، التي اتسمت بطابع معرفي متقارب، هو كون نظراتها كما تعتقد هي النظرات الوحيدة الصائبة، فالعقل لديها هو عقلٌ مطلق، وهو العقلُ المطلقُ الذي انتقل إلى روسيا والصين وغيرهما وصار نظاماً اجتماعياً متوحداً بالعقل الديني. فتغدو أحكامها نهائية، من حيث اعتبار دولتها أبدية، وثورتها مطلقة، ونظرتها باقية على مر الزمن.
فتشكلت في العالم المتخلف ماركسية أصولية، فهي تعتمد على أصول أبدية، خارج التاريخ، وهي نظرية تاريخية نسبية! ولا يمكن لهذه الماركسية الأصولية أن تختفي من الأحزاب التى آمنت بها، وهي ذاتها جاءت من مرتكزات دينية، كما لا يمكن بسهولة أن تظهر ماركسية تجديدية تاريخية نسبية، فتعتقد أن ما تقدمه من أطروحات وبرامج شيء نسبي وأن برامجها ونظراتها الفكرية هي نسبية كذلك.
يعوق ذلك الوضعُ الاجتماعي الذي تتشكلُ فيه هذه الأفكار، ومستويات الأعضاء القادمين من بيئات فقيرة محدودة التعليم، ومحدودة القراءة. وهكذا حدث للماركسية ما حدث للأديان، من حيث تفككها إلى مذاهب، فتقومُ كلُ دولة ذات نفوذ كبير، وكل حزب كبير، بصياغة ماركسيته المشكلة على مصالح سلطته، لا على تشكيل عقل ديمقراطي جماعي للتنظيم، نسبي في تاريخه، منفصل عن السلطة المطلقة، وسواء كان دولةً أو جماعة أو ديناً . ومن هنا كانت عبادة الأصنام والمناطق والشخصيات والتجارب، لا باعتبارها تجارب تاريخية نسبية يجب ألا تُعبد.
وهكذا ظهرت الماركسية العربية في تبعية للمراكز الخارجية، إلى أن بدأت تظهر عقولٌ نقديةٌ باحثة، ظلت هي الأخرى تشتغلُ تحت مظلةِ العقل المطلق، عقل الحداثة، لأنها تتصور أن عقلها قادر على إزاحة كل العقول المتخلفة المحيطة، فهو النفي المطلق للدين، والنفي المطلق للاستغلال، والنفي المطلق للقومية.
وحين ظهرت محدوديةُ العقلِ المطلق الماركسي هذا في تجارب روسيا والصين وكوبا الخ.. غدا الشك موجهاً للتطبيقات وللتدخلات العدائية القادمة من الخارج ضد بنيته النقية، وليس في نقد هذا العقل المطلق نفسه، ولعدم اعترافه بنسبيته ومحدوديته في زخم التاريخ.
إن الأنظمةَ والجماعات الدكتاتورية التي شكلت إسلاماً دكتاتورياً بعقل مطلق وأبدي كما حدث ذلك في الماركسية، والإسلام والماركسية كفكرين ثوريين من عصرين مختلفين، يحويان بذور التفكير النضالي الإنساني بأدوات تعبيرية ومنهجية مختلفة حسب مستوى العصور، لكن الأنظمة والجماعات الشمولية تسيطرُ على ذلك المضمون وتحوله إلى شكلٍ مفرغٍ من دلالاته الكفاحية.
كان الإسلام والمسيحية واليهودية ثورات في أزمنتها وحسب مواقع ومستويات تطور شعوبها التي ظهرت فيها، وكانت الماركسية نظرية للثورة العمالية فى العصر الحديث، لكنها كذلك تحوي نظرة لرؤية العالم مختلفة نوعياً عن طرائق فهم الأديان للعالم.
وبسبب ذلك تشكلت صراعات معقدة بين الأديان والماركسية، وأخذ ذلك مجرى الصراع الإلغائي بين الماركسية المطلقة، أي الماركسية الشمولية، وبين الأديان كما جيرتها الأنظمة الشمولية على مر التاريخ.
إن الأدوات المعرفية والتعبيرية في الأديان هي نتاج تاريخ طويل للبشر، ففكرة الإله الواحد أو فكرة الآلهة المتعددة والأقانيم والأرواح المتحكمة والسماء المسيطرة على الأرض واليوم الآخر والثواب والعقاب الأخروي وغيرها هي أدوات تُفهم على أنحاء مختلفة، ففي حين يفهمها المؤمن بها على أنها أجزاء موضوعية حقيقية من العالم، يفهمها الماركسي على أنها تعبير عميق معقد عن ظروف الشعوب وكفاحاتها المجسدة بالمفاهيم، فاليوم الآخر هو تعبير عن سلطة أخلاقية فوق الزمن، تحاكم المجرمين والاستغلاليين بشكل نهائي وحاسم عما اقترفوه. وبغض النظر عن الغيب والواقع، فإن اليوم الآخر كفكرة حكمت الملايين بضمير أخلاقي وبتفكير في الثواب والعقاب قد هذبت من انحرافاتهم وجرائمهم في وقت ظهرت فيه سلطاتٌ مطلقة تقفز فوق الخير وتتلاعب بالخيرات، وحين تظهر العدمية تجاه الدين فإن غرائز الإنسان تنفلت، ويعتبر نفسه فوق الخير والشر، فلا يؤمن بإله يراقبه، وبضمير يحاسبه، وإذا كانت قوى الاستغلال الشرهة العديمة الضمير لا تؤمن في حقيقة الأمر بإله يراقبها ويحاكمها في خاتمة المطاف، فإن الجمهور يؤمن بذلك، وتدفعه الفكرة إلى التمسك بالأخلاق، بشكل نسبي بين الجماعات والأفراد، حسب مستوى الإيمان بالإله المعبر والمجسد لهذه الأخلاق. وهكذا فإن قوى الاستغلال الدينية والحكومية الشرهة للمال العام والخاص والعدميين التحديثيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع، تلتقي كلها في عدم الإيمان بالإله العادل وبالشعب الذي يجب أن يتملك خيراته. إن العدالة الإلهية والديمقراطية الشعبية هما مظهران لمضمون واحد.
إن الثورة الشعبية الإسلامية الذي ظهرت في ظروف إنسانية معينة، تماثل النضالات الشعبية والعمالية في الزمن العربي الحديث، حيث قوانين التحالف الشعبي بين التجار والعمال لتشكيل دول عربية ديمقراطية مطلوبة، للتخلص من عصر تقليدي تفكيكي متخلف سابق.
وإذا كانت أقسام من قوى هذه الثورات تؤمن بالغيب وبالتاريخ الماضي بكل ألوانه وتنغمس فيه لدرجة نسيان الحاضر، فإن أقساماً أخرى تندفع بشدة إلى الحاضر، وترفض الماضي.
لكن شكلي الوعى مختلفان، فالأديان ثمرةٌ لتفكير البشر في ظروفهم ولتغييرها ولكن عبر ركائز غيبية، وتتجسد عبر عبادات ومعاملات، في حين أن الماركسية والآراء الديمقراطية الحديثة وجهات نظر دنيوية منقطعة عن الغيب وما بعد الطبيعة، وتسعى لتغيير حياة البشر كذلك.
وإذا كانت الماركسية الأصولية توحدت مع منهج الأديان محولة نفسها إلى بناء كلي وسيطرة شاملة، فإن الأديان كما صاغتها قوى الاستغلال عبر مئات السنين السابقة، كانت مثل ذلك، وليس الأمر يعود لبنائي التفكير المختلفين بل للبناء الاجتماعى السياسي الشمولي الذي يحول كل فكرة سواء أكانت دينية أم حديثة إلى شكل للسيطرة المغلقة.
وهو أمرٌ لا يتبدى في الدول بل في الجماعات والأسر والتكوينات الفكرية والثقافية، فالماعون الفاسد يفسد كل الطبخات. لأنه ماعون يقوم على ذلك العقل المطلق الذي يعتقد انه كل الوعي والوجود والمصير. ومن هنا تتحول الكتب الدينية والسياسية الحديثة إلى كلمة أخيرة للإنسان.
وتحوّل قوى الاستغلال الحكومية – الدينية الثقافةَ إلى بناء يلغي كل أسئلة الإنسان؛ ويحول حياته وإجاباته ونمط عيشه إلى طقوس لا تخرق، لكن التغيير يشق طريقه سواء عبر كنسية التضامن البولندية العمالية أم عبر أفكار اليسار اللاتيني، فالجمهور يبحث عمّن يدافع عن مصالحه التي تُخنق عبر مؤسسات الإفقار والقمع الشاملة، ثم يدرك الجمهور أن قوى الكنسية غير قادرة على النضال من أجل العمال، كما تدرك شعوب أمريكا اللاتينية ضرورة وجود برجوازية حرة صناعية مستقلة عن هيمنة أمريكا الشمالية بضرورة تصفية إرث الإقطاع في الملكيات الكبيرة الريفية.
إن الجمهور يتحرك ضمن إرثه الديني ثم يكتشف عبر معاركه الاجتماعية أهمية التركيز على فهم الواقع، ورؤية مشكلات الاقتصاد الحديث، ولكنه كذلك يحتفظ بدينه ويحافظ على صلواته!
إن الأديان والماركسية والتوجهات الديمقراطية الحديثة عموماً تتعاون على تغيير حياة إنسان هذا العصر، عبر مناهج مختلفة، وتغدو مقاربات متعددة، وعقول نسبية، يحتفظ كل منها بمساراته وفضاءاته الفكرية متعاوناً على ما هو مشترك ومعوق للناس.


