الانتهازية الفكرية : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الانتهازية الفكرية

إن انتشار الانتهازية الفكرية بين المثقفين العرب بشكل واسع يطرح أسباب هذا الخراب الاجتماعية والسياسية، فلماذا هذا الحول الفكري الكبير ؟ ولماذا يتم ابصار جهة معينة فقط من الطريق، وترك جوانب أخرى متعددة في هذا الطريق والتي تؤدي بالسائر إلى الإصدام وإلى السير في زقاق مسدود في أحيانٍ كثيرة؟
لماذا لا تتشكل الموضوعية التي ترى الأسود والأبيض، وتبصر مجموعة السلبيات والإيجابيات؟ لقد قلنا مراراً حول قوانين تشكل الفئات الوسطى وعلاقاتها بالقوى المسيطرة، وكيف تتذبذب حسب مصالحها، ولكن لا بد الآن من الدخول إلى الآليات النفسية التي تكوّن الأنماط الرئيسية من المثقفين المخادعين والتي تجعل الكذاب يتصور نفسه محقاً، وإلى اعتقادات المنافق بأنه بطل، وإلى البهلوان الذي يتصور نفسه بأنه يخدع الجميع ويقبض من الجميع دون أن يلاحظه أحد؟ هناك تصور ساذج لدى المثقفين بأنهم أذكياء جداً وأن أحداً لا يعرف ألاعيبهم، وأن الشعب هو كومة من الناس الأغبياء، دون أن يدرك أن ثمة حساسية خاصة، ووعي غائر تاريخي يتكون في هؤلاء البسطاء، ويشكل معرفة تاريخية أكثر عمقاً وبقاءً من هلاميته وبالونات اللغة التي يطلقها في الفضاء، معتقداً بأنه يشكل ألعاباً سحرية لا أحد يستطيع أن يبزه فيها! تقوم عقلية المثقفين الانتهازية على مقولة خدمة الأنا المطلقة، باعتبارها هي المحور في كونه الضيق، فكل القضايا والتحولات والمشكلات سوف يراها من خلال مصلحته الشخصية، وسيغير كل الحقائق الموضوعية الصلدة في الحياة، لكي يفصّلها على مقاس مصلحته، ومن هنا فكل المقاييس الأخلاقية سوف تضيع في هذه الحالة، وستغدو الشاشة الفكرية التي يفترض أن تبحث عن الحقيقة، تائهة ومائعة، وستتآكل القيم الإيجابية في النفس من شجاعة ونزاهة وأمانة، وتحل صفات أخرى مذمومة من نفاق ورياء، وهي الصفات التي تقود المرء للهلاك الأخلاقي. والفرق هنا بين كتلة الشعب الغامضة تلك، وكتلة هذه النمطية من المثقفين، هي أن كتلة الناس لا تحتاج في أحكامها وقراءتها البطيئة المحدودة والمبعثرة إلى مجاملة أصحاب السلطان، ولهذا تكون وهي في بيوتها وحرفها البسيطة، منتجة للموضوعية الفكرية التي عجز المثقفون الانتهازيون عن إنتاجها. حين تظلل المثقفين المصلحية فإن أحكامهم عن الحقيقة وعن الأخلاق تتبدل، ويقومون بطرح معايير فاسدة، كالقول بأن الشعب مجموعات غوغائية لا يمكن الوثوق بأحكامها، وأنه لا توجد معايير للحقيقة، وأن كل شيء نسبي، وأن المعرفة خادعة، أي أنهم يطرحون كل الأفكار التي تحاول ترميم ضمائرهم المنخورة بالفساد، وبالمصلحية. ولهذا تتعرض الأحكام الفكرية والمناهج النقدية والآداب والأفكار والفلسفات التي ينتجها هذا النمط من المثقفين إلى التلون بمظلات الدول والقوى المهيمنة والمصالح السائدة. إن ثمة نظارات توزع على هذا النمط من المثقفين لكي يروا العالم من خلال زجاجها الخاص، فهم يرون المذابح كأنها عرس نضالي، و الحارات الكثيفة بالفقر باعتبارها دليل على جهل الشعب وحيوانية الإنسان الخ..! إن هذه النظارات ذات الزجاج الخاص سوف تتغير إذا تم إعطاؤهم نظارات جديدة من قبل مورد جديد لديه فيض مالي ووظائف، وحينئذٍ سوف تتغير المعايير وتتبدل الرؤى ويرون ما لم يروه سابقاً. ولكون اللسان ليس فيه عظم ولا ضمير عند هؤلاء، فإن الكلام يتبع المصلحة الشخصية، ويتمدد ويتقلص كالطين اللزج حسب المناخ وزجاج النظارات. أما أن الناس ليسوا معياراً أبدياً للحقيقة فهذا صحيح، ولكن الناس يراكمون المعرفة الموضوعية عبر عقود طويلة، ولهذا ينفرز المثقفون في وعيهم، فثمة كلمات تغوص وتتشربها أعماقهم وثمة كلمات تتبخر في الهواء. والناس ليسوا كائناً خرافياً فيه الصواب المطلق ولا الخطأ الأبدي، ولكنهم الأرض التي تستقبل البذور، وتشكل من الرموز الحقيقية المضحية أشجاراً، ومن الانتهازيين الثقافيين أشباحاً وارواحاً شريرة وعفاريت خطرة!

الانتهازية الفكرية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 15, 2022 12:07
No comments have been added yet.