الأنثى الغلامية… مذكّرة مؤنّثة يحار فيها البصر – باسم سليمان
مقالي في مجلة نقد 21 المصرية العدد التاسع/ أب 2022
هذا العنوان مختصر لمَا ذكره علي بن الجهم في خبر إحدى الجواري، كما جاء لدى ابن عبد ربه(1). وهذه الجارية من المتشبّهات بالذكور، ولكي تزيد شبهها بالذكور تقلّدت سيفًا وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها:
تأمّل حسن جارية/ يحار فيها البصر
مذكّرة مؤنّثة/ فهي أنثى وهي ذكر.
ليست الإناث المتشبِّهات بالذكور، أو الغلاميات مجرد بدعة انتشرت في الزمن العباسي، بل هي ظاهرة ملحوظة في المجتمع العربي القديم. وعندما تتهيأ لها بعض الظروف الاجتماعية، فإنّنا نراها تتواجد في العلن. وهكذا أصبحت ظاهرة لها شأنها في القصور العباسية، فقد كانت الظروف الاجتماعية مناسبة؛ وخاصة أنّ الخليفة المتوكّل وغيره من الخلفاء كانوا شغوفين بالغلاميات. تزوّج المتوكّل ريطة بنت العباس بن علي كما ذكر الجاحظ (2)، بعدما وصفت له، فسألها أن تطمّ شعرها، أي أن تقصّه قصة ذكوريّة، فرفضت، فأعلمها إن لم تفعل ذلك فارقها، فاختارت الفرقة، فطلقها.
عرف العرب في جاهليتهم بعضًا من الإناث المتشبِّهات بالذكور، اللواتي جاهرن بذلك، ولربما يعود ذلك إلى تطلّعهن إلى الحقوق الممنوحة للذكور من صيد وركوب خيل، فكان تشبههن بالذكور؛ وخاصة الثياب وسيلة لنيل بعض الحقوق التي منعها عنهن المجتمع.
تناثرت أخبار الغلاميات في التاريخ العربي. ومن ذكر خبرًا يفيدنا بهذا الخصوص عمر بن أبي ربيعة عن صديقه الجعد بن مهجع من قبيلة عذرة الذي تيمته غلامية صادفها في أرض قبيلة كلب. كان الجعد يستريح في فيء شجرة: “وإذ بغلام يطارد حمارًا وحشيّا وأتانه، فتأملته، فإذا عليه درع أصفر وعمامة خزّ أسود. وإذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام حديث عهد بعرس، أعجلته لذّة الصيد، فترك ثوبه، ولبس ثوب امرأته، فما جاز علي قليلًا حتى طعن المسحل/ حمار الوحش، وثنى طعنة للأتان”.
تدور رحى الحكاية ويتكشّف للجعد بأنّ الفتى أنثى؛ لها ثدي كالعاج، فتقع في نفسه، ويغرم بها مع أنّها نادمته الخمر والحديث. ومن ثمّ تنتهي القصة بالزواج. لقد كانت هذه الأنثى تتشبّه بالذكور من أجل الصيد والشراب، أي ما يختصّ به الذكور في تلك الأزمنة.
تتابع الأخبار عن تلك الغلاميات، فقد جاء في كتاب الكبائر، بأنّ المغنيّة عزّة الميلاء كانت تتشبّه بالذكور، وتلبس لباسهم. وقد سمّيت الميلاء نسبة إلى الثوب الذي يلبسه الذكر ويسمى الملاء. وممن ذكر التاريخ أخبارهن كانت الزوجة الثالثة للشاعر الضحاك الذي استمع لنصيحة الحجاج، بأنّ الرجل لا يهنأ إلّا إذا تزوّج بأربع حرائر، لكن الشاعر الضحّاك لم يوفق بزوجاته، فوصفهن مستهجنًا حالهن، وكانت زوجته الثالثة غلامية متشبّهة بالذكور:
وثالثة ما إن تُوراى بثوبها/ مذكّرة مشهورة بالتبرّج.
لم تتخذ الغلاميات في العصر الأموي شكلًا مميزًا واحدًا، بحيث نقع على نمط من الممكن دراسة علاماته بوضوح، لكن مع الزمن العباسي أصبحت الأمور جلّية، حيث كانت الغلاميات قد وعين تمامًا لمقاصدهن من التشبّه بالذكور. وقد يكون بيت المعلّي الطائي، كما جاء في طبقات الشعراء لابن المعتز، ما يؤكّد أن تشبه تلك الإناث بزي الرجال كان هدفه التمرد على واقعهن: تقمَّص أثواب الرجال تمردًا وتأنف من لبس القلادة والشنف.
وقبل أن ندخل في جلاء وضع الغلاميات في تراثنا العربي، سنستعين بإحدى قصائد أبي نواس كمشهد بانورامي نستجلي من خلاله مميزات وصفات الغلاميات: وَشاطِرَةٍ تَتيهُ بِحُسنِ وَجهٍ كَضَوءِ البَرقِ في جُنحِ الظَلامِ
رَأَت زِيَّ الغُلامِ أَتَمَّ حُسناً وَأَدنى لِلفُسوقِ وَلِلأَثامِ
فَما زالَت تُصَرِّفُ فيهِ حَتّى حَكَتهُ في الفِعالِ وَفي الكَلامِ
وَراحَت تَستَطيلُ عَلى الجَواري بِفَضلٍ في الشَطارَةِ وَالغَرامِ
تَعافُ الدَفَّ تَكريهاً وَفَتكاً وَتَلعَبُ لِلمَجانَةِ بِالحَمامِ
وَيَدعوها إِلى الطُنبورِ حِذقٌ إِذا دارَت مُعَتَّقَةُ المُدامِ
وَتَغدو لِلصَوالِجِ كُلَّ يَومٍ وَتَرمي بِالبَنادِقِ وَالسِهامِ
تُرَجِّلُ شَعرَها وَتُطيلُ صُدغاً وَتَلوي كُمَّها فِعلَ الغُلامِ.
لكن قبل أن نلج عوالم تلك الغلاميات، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الأخبار التي أوردناها أعلاه تشير إلى تواجد الغلاميات في المجتمع العربي القديم، لكنهن لم يكنّ بالكثرة التي ظهرن بها في العصر العباسي وما بعده. وإذا استجلينا بعض الأخبارـ وقاطعناها مع ما فعلته زبيدة زوجة الرشيد بجواري ابنها الأمين، قد نصل إلى شبهة تاريخ في ظهور الغلاميات. وممّا حكاه الجاحظ، بأنّ أبا مسلم الخرساني منع النساء من مصاحبة الجنود في معسكراتهم وسنّ لهم أن يتولى خدمتهم الغلمان لخفة مؤونتهم وسهولة حركتهم. وطالت صحبة الغلمان للعسكر ففتنوا بهم. وفي خبر جاء عن أبي نواس يفسّر فيه مجونه وعشقه للغلمان والغلاميات بأنّه تعلّمه من أحمد بن إسحاق الخاركي الذي جاهر بذلك فتبعه القوم: “ما مجنت ولا خلعت العذار حتى عاشرت الخاركي، فجاهر بذلك ولم يحتشم، فامتثلنا نحن ما أتى به، وسلكنا مسلكه، ونحن ومن يذهب مذهبنا عيال عليه”. ولنا أن نفهم من خبر أبي نواس بأنّ الأمور قبل الخاركي كانت مكتومة. وإذا قاطعناها مع خبر الخليفة الثاني العباسي؛ المنصور الذي كان متشددًا باللباس، فقد عاقب أحد كتبته، لأنّ سراويله كانت من الكتان(3). وعلى ما يبدو أن ثياب الكتّان التي كان الكاتب يلبسها، كانت تشي بتفاصيل جسده. أمّا ابنه المهدي الذي استلم الخلافة بعده فلم يضره قول أبي العتاهية في مقدمة مديحه له وهو الذي أخرج للناس ابنته الغلامية البانوقة. قال أبو العتاهية: أَلا إِنَّ جارِيَةً لِلإِمـــــا/ مِ قَد أُسكِنَ الحُبُّ سِربالَها
مَشَت بَينَ حورٍ قِصارِ الخُطا/ تُجاذِبُ في المَشيِ أَكفالَها
وَقَد أَتعَبَ اللَهُ نَفسي بِها / وَأَتعَبَ بِاللَومِ عُذّالَها.
وعندما وصلت الأمور إلى الرشيد، الذي حوى قصره أكثر من أربع آلاف جارية، كان زيّ الغلاميات قد استقر واشتهر بين الناس. فالمأمون قد أحبّ الغلاميات. كما شغف ما تلاه من الخلفاء بهن. وقد أوردنا سابقًا خبر المتوكّل مع ريطة بنت العباس. وفي خبر أورده المسعودي في مروج الذهب عن الإخباري محمد بن علي الخراساني الذي طلب منه الخليفة القاهر أن يقصّ عليه أخبار زبيدة وابنها الأمين: “فاتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواري المطمومات وألبسوهن الأقبية والمناطق، وسمّوهن الغلاميات” ونستنتج من هذا الخبر أنّ لقب الغلاميات قد استحدث في الزمن العباسي.
المظاهر الخارجية للغلاميات: لقد سعت الغلاميات للتشبّه بالذكور من خلال تقليدهن في زِيِّهِم وهَيْأَتِهِمُ الخاصَّةِ بهم وأخلاقِهِم وأفْعالِهم وأقْوالِهم، أو رفْعِ صَوتِهم، أو غيرِ ذلِك. ومن أكثر أوجه الشبه كان لبس الغلاميات للنعل، وذلك لأنّ النعل لم تكن تستر كلّ القدم، بل تترك بعض الساق مكشوفًا؛ ألهذا اختارت المتشبّهات بالذكور لبس النعل! وورد في الأغاني لأبي فرج، بأنّه كانت هناك بنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاص تركب الفرس وتستبق مع صديقة لها تدعى أم سعيد الأسلمية وتستبقان حتى يبان مكان الخلخال من ساقيهما. أي أنّهما كانتا تلبسان النعل. ولقد طلب معاوية من مروان بن الحكم أن يتخلّص من بنت أخيه: “اكفني بنت أخيك، فقال: أفعل، فاستزارها وأمر ببئر فحفرت في طريقها وغطت بحصير، فلما مشت عليه سقطت في البئر، فكانت قبرها”.
إنّ السلطة المتمثّلة بمعاوية، هي التي عارضت بنت يحيى، فيما ذهبت إليه والدليل بأنّ يحيى بن الحكم كان راضيّا عن خروج ابنته عن الأعراف والتقاليد، وإلا كان قد منعها ابتداءً وهذا دليل على انتشار المتشبّهات بالذكور وتواتر وجودهن قبل أن تحكم السلطة قبضتها على العادات والتقاليد.
ومما ذكره ابن منظور في أخبار أبي نواس، أنّه مضى وصديقه إلى باب أسماء بنت المهدي حيث كان الشعراء يجتمعون في مجلس، فخرجت عليهم إحدى جواريها. وما يهمنا الآن في هذا الخبر، بأنّها كانت تنتعل حذاء تشبّهًا بالذكور: “وفي رجليها نعل مغشّاة بديباج”.
لقد كانت المتشبّهات بالذكور يحرصن على لبس النعل أو الحذاء الذي اختص بها الرجال. وقد قال أبو نواس: مذكّرة الحذاء إذا استُهشت/ لأمر لا يثاقلها القيام. ويحمل هذا البيت الكثير من الدلالات التي تناقض الصفات المكرسة عن الأنثى، ففي اليتيمية يقول الشاعر: فَنهوضُهـــا مَثنىً إِذا نَهَضت/مِن ثِقلَهِ وَقُعودهـــــا فَردُ.
إنّ مقارنة الأنثى التي يصفها أبو نواس مع أنثى اليتيمية يوضّح الفرق، فالمتشبّهات بالذكور اللابسات النعال نشيطات محتفّزات للفعل والحركة.
لم تتوقّف الغلاميات عند الحذاء، بل ذهبن في محاكاة ألبسة الذكور كل المذاهب. ومما لحظ عليهن اقتداءهن بمظاهر الأكمام من اللباس، فمرّة ضيقة، ومرّة أخرى واسعة مرخية مسبلة.
ولقد جاء في حديث الذهبي، بأنّ لبس الأكمام الضيقة يعتبر تشبهًا بالذكور، لكن في العصر العباسي أصبح إرخاء الكم هو المطلوب، كما ذكر أبو نواس: “وَتَلوي كُمَّها فِعلَ الغُلامِ” وبهذا يشير ابن الساعاتي لتلك المحاكاة التي اتبعتها النساء: وكأنَّ غصن البان في أوراقهِ هيفاءُ خاطرةٌ بكمٍّ مسبل.
استبدلت المتشبِّهات بالذكور أثوابهن، وحاكين أثواب الرجال. يقول أبو نواس في وصف معشوق؛ جارية أسماء بنت المهدي:
مُقَرطَقَةٌ لَم يَحنِها سَحبُ ذَيلِها
وَلا نازَعَتها الريحُ فَضلَ البَنائِقِ
تُشارِكُ في الصُنعِ النِساءَ وَسُلّمَت
لَهُنَّ صُنوفُ الحُليِ غَيرَ المَناطِقِ
يضع أبو نواس بين أيدينا في هذه الأبيات ميزات لباس تلك الإناث؛ وخاصة لبس المقرطق والذي نستشف منه بناء على قوله بأنّ هذا اللباس غير ثقيل، ولا يقيّد الحركة، فلا ينحني ظهر الأنثى منه، ولا فيه من الزوائد ما تلعب به الريح، وكأنّه على قياس الجسد. والشيء الآخر الذي نجده في أبيات أبي نواس، بأنّ هذه الجارية طرحت عنها الحلي وأبقت على الحزام الذي تشدّه على خصرها كالرجال، وهي بذلك أصبحت أقرب للذكر من الأنثى:
تُشارِكُ في الصُنعِ النِساءَ وَسُلّمَت
لَهُنَّ صُنوفُ الحُليِ غَيرَ المَناطِقِ.
ولقد جاء في كتاب تاريخ الرسل والملوك بأنّ البانوقة ابنة الخليفة المهدي كانت تلبس المنطقة تشدّ بها خصرها، فيظهر نهود ثدييها تحت القباء/ الثوب ولقد روى الطبري : “رأيت المهدي يسير وعبد الله بن مالك على شرطه يسير أمامه في يده الحربة، وابنته البانوقة تسير بين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان وعليها قباء أسود ومنطقة وشاش متقلّدة السيف. وأنّي لأرى نهود ثدييها قد رفعا القباء”. إنّ دراسة هذا النص يتيح لنا أن نعلم شكل الثوب الذي سمح لنهدي البانوقة بالظهور بأنّه ضيق، وزاد من ضيقه وملاصقته لجسدها المنطقة/ الحزام التي تشدها على خصرها. قال أبو نواس: غُلاميّـةٍ فـي زيّهـا برمكـيّـةٍ مناطقُها قد غبْنَ من لطُفِ الخصْـرِ.
إنّ البانوقة إحدى تلك الغلاميات، ففي مشيتها بين يدي أبيها وقائد شرطته متسلّحة بسيف تشدّ خصرها بحزام غير خجلة من نهود ثدييها، يشير إلينا بأنّ تلك الغلاميات لم يكن قد فارقن روحهن الأنثوية، لكن ما أردنه حقوقًا لا تؤخذ إلا بالتشبّه بالذكور. وهذا ما يؤكده أبو نواس:
غُلامٌ وَإِلّا فَالغُلامُ شَبيهُها
وَرَيحانُ دُنيا لَذَّةٌ لِلمُعانِقِ
تَجَمَّعَ فيها الشَكلُ وَالزَيُّ كُلَّهُ
فَلَيسَ يُوَفّي وَصفَها قَولُ ناطِقِ.
تبينّا في خبر الجعد بن درهم بأنّ الأنثى التي تيّمته كانت تعتمر عمامة بخزّ أسود. ولقد درجت هذه العادة بين المتشبهات بالذكور. وقد تقدّم وصف الجارية التي أتى على ذكرها علي بن الجهم من تقلّدها السيف ولبس القلنسوة. كذلك فعلت البانوقة ابنة المهدي ولقد اتخذت زبيدة زوجة الخليفة الرشيد الجواري الغلاميات لابنها الأمين عندما رأت شغفه بالخصيان والذكور، لربما تصرفه عنهم إذ أتت بإناث يشبهن الذكور. ويقول المسعودي في مروج الذهب: “اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه وعمّمت رؤوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية وألبستهم الأقبية والقراطق والمناطق، فلانت قدودهن وبرزت أردافهن”.
إنّ التشبه بالذكور يكاد لا يتم ما لم يتعد إلى الشعر وأحواله وفي الخبر عن الجعد بن مهجع ووصفه للفتى الذي أتضح أنّه أنثى متقنّعة بزيّ الذكور نجد أنّ فروع شعره كانت تضرب خصريه. أي أن تشبهها لا يتم إلّا إذا أطلقت شعرها كما يفعل الفتيان. يقول أبو نواس في وصف الغلامية:
ترجّل شعرها وتطيل صدغًا وترخي كمها فعل الغلام.
والذي يقصده أبو نواس بترجيل الشعر، أنّ الجارية كانت تتركه منسرحًا كشعر الغلام إمعانًا بالتشبّه، وترسل شعر صدغيها على وجنتيها. وفي وصف جارية أسماء ابنة المهدي التي تدعى معشوق يصف أبو نواس حال شعرها:
ومطمومة لم تتصل بذؤابة
ولم تعتقد بالتاج فوق المفارق
ومطمومة الشعر، أي التي قصته، كما يفعل الغلام ونرى في الشطر الثاني بأنّ تلك الجارية أنفت لبس التيجان وهنا نفهم ميل تلك الغلاميات إلى لبس القلنسوات والعمامات تشبهًا بالذكور. وفي خبر عن جبلة بن الأيهم عندما أرسل إلى هرقل قال، بأنّه رأى جاريات مطمومات الشعر في بلاط هرقل، كما جاء في العقد الفريد. وفي خبر أورده ابن المعتز: “قال بعض خلفاء بني أمية لرجل من جلسائه: ما يطيب في يومنا هذا؟ فقال: قهوة صفراء في زجاجة بيضاء تناولنيها مقدودة هيفاء مطمومة لنا”. ومن هذين الخبرين الأخيرين نرى أنّ عادة طمّ الشعر، أي قصّه للجّاريات كانت معروفة عند العرب قبل أن تنتشر في زمن العباسيين.
تفنّنت تلك الغلاميات باللعب بشعورهن، فأطلن السوالف حتى أنّهن خططن الشوارب بالمسك والألوان، يقول أبو النواس:
أصداغهن معقربات
والشوارب من عبير.
المظاهر النفسية للغلاميات:
يقول أبو نواس:
وَشاطِرَةٍ تَتيهُ بِحُسنِ وَجهٍ
كَضَوءِ البَرقِ في جُنحِ الظَلامِ
رَأَت زِيَّ الغُلامِ أَتَمَّ حُسناً
وَأَدنى لِلفُسوقِ وَلِلأثامِ.
من هي الشاطرة استنادًا إلى اللغة ومعجم رينهارت(4)؟ هي كل امرأة أعيت أهلها خبثًا وفتكًا وعرفت بالتهتّك والجرأة ولها زيّ خاص تمشي به مختالة مسبلة الكم، أي تلك التي تقلّد الشطار من الذكور في كلّ حركة وفكرة. ونتابع استجلاء قصيدة أبي نواس لنجد أن تلك الغلامية قد فاقت الجواري بسبب شطارتها وما تتغياه:
وَراحَت تَستَطيلُ عَلى الجَواري بِفَضلٍ في الشَطارَةِ وَالغَرامِ
بل إنّها تركت عزف الدفوف، لأنّ الضاربات بها كنّ عادة من النساء. وذهبت إلى عزف الطنبور لاختصاص الذكور بعزفه:
وَيَدعوها إِلى الطُنبورِ حِذقٌ إِذا دارَت مُعَتَّقَةُ المُدامِ.
ويتابع أبو نواس في وصف التغيّرات النفسية لتلك الشاطرة حتى أنّها تخرج للذكور منافسة إياهم: وَتَرمي بِالبَنادِقِ وَالسِهامِ.
تمعن الغلامية تقمصّها دور الغلام، فتذهب للتكريه، وهو عكس الدلال المشهور عن الإناث، فتظهر قساوة وسلاطة لسان: “تَعافُ الدَفَّ تَكريهاً وَفَتكاً” وهذا التكريه أو إظهار الجديّة والغضب، قد لحظه العديد من الشعراء، فيقول الضحّاك:
وشاطريِّ اللّسان مختلق التّ/كريه شاب المجون بالنُّسك.
ولابن الرومي بيت في ذلك التكريه:
ورقاصة بالطبل والصنج كـــاعب
لها غنجُ مخناث وتكريه فــــــــــاتك. ولنوضح مفهوم التكريه أكثر نورد بيت أبي نواس التالي:
أحب الغلام إذا كرّها….
وقد حذر الناس سكينه
فكلهم يتقي شرّها.
نستطيع أن نصل إلى نتيجة، بأن الغلامية تتقمّص نفسية الغلام بالتكريه، ورفض كل مظاهر رقّة النساء وضعفهن مع الحفاظ على سحر جمالهن إلى أقصى الحدود.
هل الغلاميات حركة نسوية؟
في الأخبار التي أوردناها أعلاه، من خبر الجاحظ عن الأسباب التي أدّت بالمجتمع لمحبة الغلمان، إلى خبر زبيدة الذي تم به إيضاح متى انتشرت العادة بين الناس في حبّ الفتيات الغلاميات، لكن ورود الأخبار من الجاهلية وما تلاها من أزمنة عن تواجد الغلاميات بالإضافة إلى الأحاديث عن كراهة ومنع تشبه النساء بالذكور تشير إلينا بأنّ النزعة الغلامية كانت متواجدة قبل ذلك بكثير، إلا أنّه لم تتفش إلا في العصر العباسي.
لا ريب بأنّ ظنونًا وشكوكًا ستقودنا إلى القول، بأنّ تلك الغلاميات كانت لهن أجساد إناث وأرواح ذكور، لكن لم تتواتر الأخبار على ذلك. لقد كنّ إناثًا بأرواح أنثوية تتوق إلى الحرية واقتناص ما يناله الذكر من حقوق عن طريق الشطارة وتقمّص أخلاقيات الغلمان.
وهنا، هل لنا أن نشطح قليلًا، ونقول عن الغلاميات، بأنّهن حركة نسوية وفق ظروف عصرهن! ليست الإجابة من السهولة بمكان، إلا أنّ هذا الشطح يدفعنا أكثر للتعمّق في دراسة تراثنا العربي، وكشف ما أخفته السلطات من روايات تناقض ما أقرته من سرديات نعتبرها اليقين بذاته!.
المصادر:
1- العقد الفريد، الجزء الرابع. الناشر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة 1940.
2- المحاسن والأضداد، الجاحظ، طبع في ليدن 1898.
3- كتاب الوزراء والكتاب، الجهشياري. الناشر دار الصاوي – القاهرة 1938.
4- تكملة معاجم اللغة، رينهارت. الناشر دار الرشيد.
ملاحظة: أكثر الأبيات التي وردت لأبي نواس أخذناها من طبعة ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ الحكمي- تحقيق غريغور شولر الصادر عن دار فرانز شتاينر. فيسبان 1982
باسم سليمان
كاتب من سورية






باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
