عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية – خاتمة الجزء الأول
أولاً ، جذور التوحيد
ونحن نختتم الجزء الأول من هذا البحث المتغلغل في تطور الوعي العربي ـ الإسلامي منذ جذوره وحلقاته الأولى ، لا بد لنا من إعادة تجميع كل الخيوط المتتالية والمتراكمة ، ووضعها في تعميمات فكرية تكشف الخطوط الأساسية للمرحلة المدروسة.
وقد رأينا إن جذور هذا الوعي البعيدة تمتد من العصر القديم في منطقة المشرق ، آخذة بعض السمات الفكرية في محورين متداخلين ، عبر الحنيفية من جهة ، والدينين السماويين اليهودية والمسيحية من جهة أخرى ، باعتبار هذه الآراء كلها نفياً للمجتمع الوثني القبلي المُفكك ، لكن تطور العناصر الفكرية والمؤثرات الخارجية خضع لتطور البنية الجزيرية العربية.
وشعيرات هذا الوعي البعيدة نمت في غياهب القرون الأولى التي استوطنت فيها القبائل العربية الجزيرة ” العربية ” وانتشرت فيها وأسست باديتها وقراها ومدنها وممالكها.
وكانت الممالك ـ المدن المتناثرة على ساحل الحجاز حتى اليمن هي خطوات التحضر البطيئة داخل هذا القسم الجغرافي ، وهي الحضور السياسي المرئي لهذه القبائل متحولة من الرعي إلى الاستقرار الزراعي.
يلخص لويس عوض هذا التطور الطويل بهذه الفقرة:
[.. يجب أن نبدأ تاريخ الحضارة العربية الشمالية والحضارة العربية وسط الجزيرة بما فيها ببداية القرن الثاني ق . م . أي بنحو ثمانمائة سنة قبل ظهور الإسلام. ( أما ) تاريخ الحضارة العربية الجنوبية ( أي سبأ ومعين وقيتبان ) فيبدأ نحو 800 ق . م . وقد كشفت أبحاث الآثار عن حقيقة هامة وهي إن كافة النقوش السابقة للإسلام في شبه الجزيرة العربية (….) ، إنما كتبت بأبجدية شبيهة بأبجدية جنوب شبه الجزيرة العربية المعروفة بالخط المسند لا يستثني من ذلك إلا نقوش مملكة النبط وعاصمتها البطراء Petra جنوبي الأردن ، وقد ازدهرت بين القرن الأول ق . م . والقرن الأول الميلادي فهذه مكتوبة بالخط الآرامي الشائع في الشام الكبير شرق البحر المتوسط ، كما أن لغة هذه النقوش آرامية ، وإن كان بعض العلماء يرجع إن معظم سكان النبط كانوا يتكلمون لهجة من اللهجات العربية. وهذه الأبجدية الآرامية هي التي خرجت منها الأبجدية العربية المعروفة بخطها المعروف عن طريق الكتابة النبطية : ونفس الكلام ينطبق على نقوش تدمر Palmyra التي ازدهرت في الشام خلال القرن الثالث الميلادي ، مملكة الزباء أو زنوبيا Zenobia ذات البأس العظيم .].( 1 ).
وفي الواقع ، فإن جذور التطور الحضاري تعود إلى فترات سابقة أبعد من هذه ، ففي العصور القديمة تشكلت حضارة في شرق الجزيرة العربية في ديلمون واكبت حضارة جنوب العراق ، وظهر أيضاً من الجزيرة العربية التي لم تكن حينذاك ” عربية ” ، الكنعانيون ( الفينيقيون ) ، وخرجوا منها واستوطنوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط بداية ، كما رأينا في الفصل السابق.
و يشير لويس عوض نفسه إلى هؤلاء [ وقد ميز قدماء المصريين منذ الألف الثالثة ق. م . الفينيقيين بالاسم لما كان بينهم وبين الفينيقيين من علاقات تجارية ) ، ( 2 ) .
ومهما كان الخلاف حول جذور القبائل العربية ، فسواء كانت قادمة من شمال قارة آسيا ( منطقة بحر قزوين ) ، أم كانت نابعة من المنطقة ذاتها ( 3 ) ، فإنه من الواضح إنه بعد قدوم الكاسيين في العراق والشام ، وفي مصر عرفوا ب ” الهكسوس ” ، والذين جاءوا بين القرنين 1700 و 1500 ق . م . ، فإن الجزيرة العربية كان يمكن أن تستأنس ، فهذه القبائل الرعوية الكاسحة التي حكمت المنطقة ثم هزمت فاستوطنت الجزيرة واندمجت في أقوامها القديمة ( أي ما يسمى بالعرب البائدة ) ، هي التي أحضرت أدوات الإنتاج التي أمكن بها التوغل في الصحراء ، وهي أدوات الحديد والخيل والأبل ، ( 4 ) .
وقد لوحظ إنه في الشريط الغربي من الجزيرة ، من الحجاز حتى اليمن ، بدأت المدنية الوسيطة في العصر القديم ، حسب التحديد الزمني للويس عوض ، في البروز التدريجي ، وخاصة في جنوب الجزيرة حيث ظهرت الممالك الأولى المعتمدة على الزراعة وقد غذتها أيضاً التجارة العابرة من الهند إلى شمال آسيا فأوربا.
إن دمج القبائل العربية المستقرة بين الزراعة والتجارة والحرف ، يتجلى بشكل خاص في أطراف الجزيرة العربية البحرية ، والتي تلعب التجارة الدولية دوراً هاماً في تفعيلها الاقتصادي والفكري ، وهذه الأطراف هي التي تستطيع أن تسحب الفائض النقدي والسلعي والبشري من داخل الجزيرة.
وهذا التعدد في المستويات الاقتصادية ، من هيمنة للعبودية العامة في اليمن ، ومن انتشار للعلاقات التجارية ، ومن عبودية خاصة ، ومن علاقات رعوية واسعة ، ومن نتاج حرفي ، هو الذي جعل التكوينات الاقتصادية ـ الاجتماعية العربية مفتوحة ، وغير مستقرة في شكل إنتاجي واحد مسيطر ، بسبب هذا النمو من المجتمع البدائي السابق ، وبسبب الضعف الاقتصادي وسط مجموعة الصحارى الهائلة ، وبتدني الإنتاج وبعثرة السكان.
ولم تتوقف الحضارة العربية عن محاولات الظهور في الجزيرة ، ففي شمال الحجاز ظهرت مدنيات متفرقة ، كما أشار لويس عوض في المقطع السابق ، وكما أشار غيره من الباحثين ، ( 5 ).
وعبر هذه المدن ـ الدول ، وعبر ممالك قديمة كانت تحكمها ملكات عربيات في شمال الجزيرة ، وبدء ظهور ممالك عربية في البادية السورية ، وبظهور الدولتين التابعتين للفرس وللروم ، المناذرة والغساسنة ، كانت عمليات الانتقال من ” البربرية ” إلى الحضارة تجري بمستويات مختلفة ولكنها لم تنجح في تجميع الجسم الأوسع من القبائل في تكوين سياسي عربي وطيد ومستمر.
وبعد إنهيار الممالك العربية الجنوبية في اليمن مع سيطرة الروم على الملاحة والتجارة في البحر الأحمر ، وتفكك هذه الممالك وصراعها ، وبعد إنهيار سد مأرب وتشتت القبائل القحطانية الحضرية وسكنها بجوار القبائل العدنانية ، وعودتها الواسعة للرعي ، حدث ذلك التداخل الكبير بين القسمين القبليين الرعويين العربيين الكبيرين. كان هذا هو الشكل الأولي لبروز ” الأمة” العربية.
إن التداخل بين القسمين لم يصل إلى درجة الانصهار ، والصراع لم يتحول إلى نزاع كلي ، ولكن بدأ تعاون وتداخل ، نلمحه في السكن المشترك في مناطق حضارية كيثرب ومكة.
ومع عودة الطريق التجاري العالمي للمرور بالحجاز ، برزت مكة كمدينة مقدسة وعاصمة تجارية ، يضع فيها العرب رأسمالهم الرمزي [ الديني الثـقافي ] والمالي.
إن دور مكة التوحيدي الاقتصادي والديني للقبائل العربية ، ظل مرتبطاً بالتبعية للوضع الاقتصادي والسياسي المناطقي ، وغدت قريش هي ثمرة مالية لهذا الوضع المفكك على مستوى القبائل العربية ، ولتغذية الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية بالسلع والاستفادة من فيضه المالي.
كان أي توحيد وصهر سياسي للقبائل العربية يقود بالضرورة للاصطدام مع تضاريس المنطقة السياسية ، وكانت الإمبراطوريتان تحاولان التغلغل في الجزيرة ، خاصة عبر اليمن ، لكن إمكانية إلحاق الجزيرة كانت مستحيلة.
إن مكة كانت نقطة تاريخية مفتوحة للعديد من علاقات الإنتاج المادية والثقافية.ففيها تنو علاقات تجارية مالية متطورة ، وفيها عبيد ، وفيها فئة تجارية عليا مسيطرة ، وهي تعيش على الإنتاج الرعوي وعلاقاته وثقافته وعاداته وفيضه الاقتصادي.
كما إنها في حالة سيطرة على أرض زراعية بقريتها الأخرى [ الطائف ] عبر الملكية الخاصة للأرض وباستغلال عمل العبيد والفلاحين.لكنها لم تشهد سيطرة علاقة اقتصادية بصورة كاملة ، فهي مدينة تجارية ذات خلفية زراعية ورعوية كبيرة ، لم تستطع العلاقات النقدية والبضاعية أن تذيب البناء القبلي المهيمن ، فهي بالتالي تعيش على أثداء البادية ، ثقافة وسلعاً ، وتفتح متجراً عالمياً كذلك.
إن الحياة الرعوية ، سواء كانت بارزة مستمرة ، أم متوارية غائرة في التكوينات الأخرى ، تظل هي الغالبة ، وهي القاعدة التحتية للبناء الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثـقافي.
فالمدن والقرى هي مستقرات رعوية قريبة التاريخ ، ولا تزال العلاقات القرابية القبلية هي المهيمنة فيها ، وتغدو الحياة التجارية والزراعية والحرفية ، تطوراً منها وخروجاً عليها ، فهنا أشكال من التضاد والتداخل والسيرورة المشتركة الصراعية.
إنها طليعة تجارية لذلك الجسم الرعوي الواسع المشتت ، ومركزة لفائضه وتوظيف له في الزراعة والسياسة ، إن التناقض بين قريش وهذا الجسم الرعوي الكبير ، هو التناقض الرئيسي في البنية العربية المتنامية وحدة .
إن الصراع بين الطليعة القرشية والبادية ، بين القيادة التجارية والجسم الرعوي سيكون ذلك التناقض المهيمن على مرحلة التحول العربي من ما قبل التاريخ إلى التاريخ ، ومن عالم البداوة إلى تطور الحضارة ، ومن الجاهلية إلى الإسلام ، وهو هنا في مرحلة الانتقال هذه ، إسلام ذو وجه عربي قبلي ، لكن التناقض لن يكون بين قريش والجسم الرعوي الكبير الذي استغلته عبر التجارة ، ثم عبر الحكم فيما بعد ، بل أيضاً داخل قريش نفسها ، بين اتجاه الملأ المكي [ الأشراف ] واتجاه التجار المتوسطين المتحالفين مع الفقراء ، والمتجسد بين بني أمية وبين هاشم ، وهو التناقض الذي سيأخذ مداه وتحولاته ، عبر مرحلة استقرار الرعاة وتحولهم إلى سكان أودية خصبة ومدن.
إن التجار المتوسطين وهم يشكلون التحالف مع الفقراء بشكل ديني ، يعبرون في مرحلة مكة عن طابع التأثير الفكري وتكوين القادة البارزين للدولة والدعوة ، لكن المرحلة المدنية هي التي حولت التحالف على مستوى الجزيرة العربية ، بالانضمام التدريجي للقبائل والمناطق ، وبدء تكون السلطة الإسلامية ، وعبر جذب الجمهور الرعوي بغنائم الفتوح ، وبعدم التناقض الحاد مع إرثه الاجتماعي ، خاصة في مسائل العقوبات والزواج والإرث.
وكذلك بتطوير الدعوة الحنفية العربية إلى مستوى جديد .


