عبـــــــدالله خلــــــــيفة : من أجل الشعب أولاً!

صراعُنا مع التطرفِ اليساري قديمٌ كما أوضحنا سابقاً، وهذا اليسار المتطرف نشأ على الانتهازية عبر الكادر الأوحد المنتفخ بعظمته، وعلى تأثير قومي شمولي بلا ثقافة عميقة ولا ديمقراطية تنظيمية، الذي يستغلُ الشبابَ وتضحياتهم لزعامته، ويتعامل مع كل الجهات الخارجية التي تفيده وتملأُ جيبه، والشباب حين يعترفون يواصلون النضال ثانية، وبعد سلسلة من الانهيارات يواصلون النضالَ ثالثة ورابعة، فالكادر بعيد عن المخاطر مؤمن عائلته ورصيده، وليس ثمة نقد ذاتي لكل هذه المغامرات والاعترافات والانهيارات.
إذًا هو تاريخٌ صعّد نموذجاً يستعيرُ أي شيء فكري وأي مقولة سياسية من أجل ذاته الشمولية المركزية، ثم من أجل الجماعة التي هي أداته.
لم يعدْ السياسي هو الذي يفيدُ الناسَ بل الناس عليهم أن يخدموا السياسي المتضخم، وبهذا ينسحبُ الناسُ من التنظيم الذي أله نفسه، بل أله الثلةَ المهيمنة التي محورت التنظيم حول ذاتها.
إذًا كل شيء يمكن أن يُباع في هذه السوق، أية طماطم شيوعية، وأية بطاطا قومية، ولا بأس أخيراً من اللحى الدينية المستعارة من المتحف الإيراني.
والأداةُ الرئيسيةُ في هذه السوق هي الصراخُ الايديولوجي، أن تعلنَ أشدَّ الجمل الثورية حدةً وانفجاراً، وبعد أن تمزقت الجماعة وانحصرت فإن الزعيمَ المتضخمَ يبحثُ عن كباش فداء جدد، عن ضحايا في معمله الذي لا يتوقف عن حشر الشباب بين أسنانِ آلاتهِ التي لا تشبعُ من الدمِ البحريني، ليقدمها في سبيل القضية التي تتلون حسب التسعيرة.
الماوية في السبعينيات والثورة الحمراء القادمة من الصين، هي الخلاصُ الوحيدُ، وما عداها خيانة، وإذا لم تطلقْ الرصاصَ على الطبقة الحاكمة فأنت خائن لئيم عميل.
الثورةُ من الأريافِ سوف تكتسحُ المدنَ البرجوازية الحقيرة وينتصر العمال والفلاحون.
هذا ما يصرخُ بهِ ثوري السبعينيات في مقعده الأثير والشبابُ العماني يذوي بعيداً.
يصرخ: البرلمان البحريني في السبعينيات من القرن العشرين أداة لضرب النضال الوطني ومن يشارك فيه انتهازي خائن.
ثم تبلعُ السجونُ المناضلين لتذوبهم فمن بقي بعد كل هذا الجيش العرمرم من الجمل الثورية الماحقة؟
وتنفتح السجونُ ويظهر البرلمانُ مجدداً في أوائل القرن الحادي والعشرين تظهر النقابات والنشرات المسموح بها وتعطي الصحافةُ مساحاتٍ للمعارضة والنقد، لكن بطلَ الجمل الثورية مستمرٌ ولابد أن يصرخَ ويحرقَ الورقَ ويهاجمَ كلَ جهة ويرفض البرلمان ويسكت عن النقابات التي اعتقلها ومنعها من النضال لأجل العمال، والنشرة لا يعرف كيف يكتبها بحرفية صحفية وكيف يطورها بل يعتبر الصراخ والشعارات الفاقعة هي الصحافة وليس كتابة التحليلات والدراسات عن الواقع الطري سياسيا.
يفتقد فضيلة الصبر والمعرفة الموضوعية وقدرات التحليل ويريد أن يصل إلى الكرسي بأي شكل وأي ثمن، ورجاءً أن يكون ذلك بسرعة وإلا حطم الرؤوس بجمله الهائلة مثل الجبال.
الآن وصل إلى التحولات الجديدة في البحرين وقد ذابت الجماعةُ وتحلل اليسار المراهق فمن في الساحة يخدمُ عظمته؟
إنهم الشباب الطائفي المتخلف في الوعي السياسي، الذي يجهل ما هي إيران والطبقات والعروبة والبرلمان والنقابات والسياسة.
بعد تعب الكادر المنتفخ مع جماعات العروبة القومية والأقحاح العرب والعداء الشرس لإيران واعتبار الدين نفاية اجتماعية، يتحول إلى كائن آخر، فجأة يرتدي عمامةً ويعظمُ المذهبيةَ وينحني للتربة المقدسة، وبسرعة البرق من دون أن ترتجف في رأسهِ شعرةٌ إيديولوجية واحدة.
فجأة يصبحُ الدينُ قوةً سياسية مفيدةً ومهمة في النضال الطبقي وكان أفيون الشعوب وتدمر أمكنته.
ويصبح الهجوم الشعاراتي الناري متأججاً في أول ساعة ديمقراطية في البلد بعد خريف طويل.
ومن يدعو إلى الصبر والمرحلية والتأني هو خائن لقضية الجماهير.
ويصرخ ثانيةً: لا يمكن الاعتماد على البرجوازية الجبانة التي يجب أن تسقط بالضربة الريفية الجبارة.
الدكتاتورية اليسارية المتطرفة لا تعترف بالواقع والصراعات الاجتماعية الموضوعية، ولا بالخليج المليء بالنفط والمداخيل والعمالة الأجنبية وتريد أن تحوله لجمهورية حمراء مرة وسوداء مرة أخرى.
فهي تسقط رغباتها الذاتية، وأهمها رغبة الزعيم المنتفخ في العلو فوق الجميع، إن التنظيم فوق الجميع، بل الزعيم فوق الجميع.
لماذا لا يكون البلد فوق الجميع، وتتم قراءة وضعه وتطوير الإمكانيات التحولية بشكل عقلاني؟ لا، هذا خطاب انتهازي، والزعيم تكوّن في فترة عاطفية قومية حادة لا مكان فيها إلا للزعيم وحده على المسرح أو يكون متوهجاً بارزاً على المسرح، لا أن يكون في الهامش.
هذه هي اللوحة العامة لمشهدية الخطاب اليساري المراهق، ولكن لنأخذ لغته التعبيرية من خلال ممثله المتواري قحطان راشد فهذه الشخصية غير متضخمة، ومتوارية، ولكن مسلوبة الوعي العقلاني بفضل التاريخ المتضخم للدكتاتورية التنظيمية لم تجعل أحداً يفكر بشكل سليم ولم تعقد مؤتمراً ديمقراطياً فيه تعددية وصراع ضد الشمولية التنظيمية، ولم يكتب أحدٌ مراجعة للتاريخ الاستبدادي للتنظيم.
وعلى الرغم من كل هذه اللغة الصارخة وجبال الكلمات التي تتساقط على الطبقات الاستغلالية فإن من ينهزم للأسف هو ممثل الثورية البطولية المتضخمة، والقوى الأخرى الاستغلالية تتسع وتكبر، وكلما انطلقت الصواريخُ الناريةُ في الفضاءِ تساقطتْ الأحجارُ على رؤوسِ أبناء الطبقات الكادحة.
وكلما انتفخ الزعيمُ كالبالون الضخم في الهواء امتلأت السجونُ وتحول مناضلون للانتهازية والزحف من أجل المادة واختبأوا في كلماتهم المنتفخة عن الواقع الحي.
(أقرأ مجرى التاريخ. دول تحولت في مجرى الرأسمالية خلال عقدين، ودول راوحت في الاستبداد (قرونا). أنا أفهم الطبقة ليس بمعزل عن الواقع البحريني، وإنما من تربته التي تشربت من مياه عذاري التي سقت بعضها وبخلت على غيره).
هكذا يعلمنا قحطان راشد فهم الواقع، يقفز من موضوعة إلى موضوعة أخرى، كأنه ينط على حبال، فبدلاً من درس الرأسمالية الخارقة هذه التي تقفز خلال عقدين والرأسمالية المتحجرة التي تتطور خلال قرون، معطياً نماذج على ذلك، وقراءة تحليلية لهذا الفارق الرهيب الذي لم يسمعْ بهِ أحدٌ سواه، يقفزُ إلى مثل شعبي محلي عن عذاري التي تسقي البعيد وتدع القريب كأنه يدلل من خلال براهين دامغة على مقولاتٍ اجتماعية معقدة.
وبطبيعةِ الحالِ الهجوم مخصص كالعادة على البحرين ودول مجلس التعاون المتحجرة خلال قرون عن التطور الرأسمالي.
حسنا جدا إذا كان الأخ عضو اليسار بدأ يفهم الإمكانيات الموضوعية للواقع، ولكن للأسف فإنه يلغي موضوعية التحليل منذ البداية، حين يخطئ في حسبة (بسيطة) فنحن عشنا الرأسمالية قروناً، لعله تصور أن الحوار يدور عن بريطانيا العظمى التي وحدها عبرتْ قروناً في الرأسمالية، أما نحن فلمدة عقود قليلة، وكنا بلداناً صحراوية، ولاتزال أقسام اجتماعية ترفض الحداثة وتعيش في علاقات اجتماعية تقليدية.
لكن كيف يلغي ببساطة زمنية القرون، فهذا هو بسبب الحدة العاطفية التي تلغي مكونات الواقع الموضوعية من زمن وطبقات وهياكل إنتاج. وتضعُ مشاعرَها الحادةَ الصارخةَ مكان المدد الحقيقية والأشياء، ثم يقفز الأخ إلى توزيع الخيرات، فإذا كنا في الرأسمالية قروناً فنحن لا نوزعُ بشكلٍ عادل، كأن المضي في الرأسمالية يؤدي إلى حتميةَ التوزيع العادل.
لم يقم بتحديد رأسمالية القرون هذه الموجودة في ذهنه فقط، وعلى أساسِ حسابها يخرجُ سيوفَهُ البروليتارية ليضربَ القوى المعادية.
(شعبنا رغم صغره فإنه متعدد الانتماء الثقافي، ولن أستهزئ بأي كان، وهو نتاج ثقافة الواقع السائد الذي فرضته سلطة استبدادية رأت في ثقافة الأديان ما يساعدها على بقائها، وهي ليست معزولة عن التوجهات الغربية، وماركس ولينين لم يقولا بنقاوة الطبقات)، المصدر السابق.
نحتاج إلى صبر طويل لكي نفهم هذه العبارات، ولكن لنرتب المسائلَ بشكلٍ آخر، فقد قفز الأخ قحطان من تحليل رأسمالية القرون الجامدة المتكلسة إلى الشعب البحريني وكيف أنه متعدد الثقافات، وكيف للرأسمالية أن تعطي تعددية ثقافات؟ وما دخل هذا بالسابق؟ أنت يا صاحبي لم تحلل الرأسمالية التي قلتها، وسيروة التطور البحريني خلال القرن العشرين حين ظهرتْ الفئاتُ الوسطى بشكلٍ بسيط من الدكاكين والغوص البحري الرهيب طارحة وعيا وطنيا نهضويا بسيطا، ثم لم تقدر على تعميق ذلك وعبر حركة هيئة في الخمسينيات قفزتْ على التطور الإصلاحي التدريجي نحو الحرائق، لم تصبرْ ومن بعضِ خلاياها المريضةِ تكونتْ حركة القوميين بتطرفها، وعصبيتها، وهي التي سلمتْ تلك الجراثيم لكم لترفعوها إلى العُلا، وحين حدثت زمنيةُ الاستقلال والمجلس الوطني تكونتْ بذورٌ جديدةٌ ولكن حل البرلمان وتأجيج المذهبية السياسية كانا هما الخطآن اللذان تشيرُ إليهما سعادتك، ولكنك قفزتْ قفزاتٍ ايديولوجيةً مغرضةً نحو ماركس ولينين وهذا الكلام المؤدلج المستهلك الذي لا تعرف أعماقه.
ولماذا حدثت هذه القفزاتُ في سردك يا سيدي؟ لأنك لا تريد الدرس الموضوعي للحدث السياسي، تريدُ إدخالَ الفكرة الأثيرة والترياق الجديد مثل الحرائق في الخمسينيات والثورة الحمراء في السبعينيات، داخل الفوضى الفكرية المؤدلجة المبتورة السياق، التي تضع فيها قنبلة التنظيم الطفولي.
لم تشر إلى أن دور العبادة كالمساجد والحسينيات على أي حشود وأفكار تشكلت، والتنظيمات الطائفية التي انبثقت من الخلايا الخارجية واستغلت منابرنا المقدسة من أجل سياساتها الاستغلالية اليمينية والمشبوهة، فهذا التكون من قبل هذه التنظيمات هو الذي استغل المنابر الدينية وقسَّم الشعبَ وانحرف به، وإذ قامت جهةٌ أخرى بهذا فلماذا لم تقوموا بالتوحيد ورفض الأشكال السياسية الطائفية وعمقتم وجودها؟
لماذا السكوت عن الخزي في تاريخكم؟
وجاء زمنُ التغييرات السياسية في بداية القرن الجديد ولم تخرجْ هذه التنظيمات الطائفية عن استغلال هذه المنابر، فهي تكونت بشكل تاريخي بشكل التأثير الخارجي ولم تأت من الفراغ الذي تحاول أن تهومَ القارئ به، جاءتْ من تواريخ سياسية في مراكز اقليمية ولم تنزل من السماء.
إذًا، كان تطورنا في ظل الرأسمالية عقودا عدة قليلة، وتسارعت مع اكتشاف النفط وإنتاجه، وبدخوله المحدودة لدينا التي زادت في السبعينيات، وغيرت البنية الاجتماعية قليلاً، لكن الأدوات الديمقراطية لم تستمر خاصة البرلمان في السبعينيات الذي كان من الممكن أن يقوم برقابة فعالة على عملية التوزيع هذه، وجاء البرلمان في أوائل القرن الحادي والعشرين ليواصل المهمة، ولا يمكن للقوى السياسية العقلانية سوى أن تجذر هذه العملية، لأن الرأسمالية المحدودة التطور وفي كل أطوارها تحتاج إلى رقابة شعبية فعالة، ولكن هذا ما رفضتموه في طفوليتكم السياسية في كلتا المرحلتين وأيدتم الشمولية بشكل خفي، عبر نشر الفوضى والمواقف العصبية والجمل الثورية الفارغة، فلماذا فقدان الذاكرة وادعاء نضالات غير موجودة؟
يستمر قحطان راشد في تحليلاته الاجتماعية الاقتصادية قائلاً:
(والتحولات البنيوية شوهت الطبقات أكثر وعملت على تغييرها قسراً عن واقعها استناداً إلى العمالة الأجنبية، ولا يغرنك المركز المالي لأنه مبني على رمال، والمكتسبات الاقتصادية تتآكل بتآكل النفط)، الحوار المتمدن.
ما علاقة هذا كله ببؤرة القضية وهي ذيليةُ اليسارِ المغامر للطائفيين اليمينيين وكيف نطور تجربتنا الوطنية المناطقية الخليجية؟!
ومع ذلك هي وجهة نظر مفيدة يمكن مناقشتها، رغم استنادها إلى تقطيع وبتر جوانب التحليل، فهل تريد من التحولات الرأسمالية في نظام تقليدي أن يخلق لوحات جمالية، وهي بُنيةٌ نشأتْ في علاقة تحول من الإقطاع إلى الرأسمالية؟ وتقوم الرأسمالية الحكومية بإدارة هذه العمليات الاقتصادية بصورة مطلقة رُفضت من قبل القوى السياسية داخل برلمان 73، وتصحح عبر برلمان 2000؟
العمليات الاقتصادية حين تقوم من خلال إدارة رأسمالية الدولة بشكل أساسي تحدث فيها اختلالات كبيرة، وهذه عمليةٌ لابد من تصحيحها عبر النضالات البرلمانية والنقابية والفكرية السياسية وبأشكال عقلانية، وهذا ما شرعت فيه القوى السياسية التي تعمل بشكل نقدي مع مرحلة التحولات.
البحرين ودول الخليج تحتاج إلى عمليات إصلاح عميقة في مسألة هيمنة رأسماليات الدول على الاقتصادات، بحيث تحدث عمليات توزيع عادلة لدخول الوطنية على الطبقات والأقاليم والمشروعات العامة والخاصة الصغيرة ووزارات الخدمات بشكل خاص، ولكن هذا يتطلب كتابات وتحليلات عقلانية ومناقشات واستجوابات ومشاريع برلمانية ترصد أين تقع الأخطاء وكيف يمكن تصحيحها وأين الخلل في البناءات الاقتصادية لهذه الدول، وليس مثل هذه التعبيرات العامة الخاوية من رصد عياني وتحليل محدد مفيد!
وخاصة عبر استخدام الكلمة المفتاح من قبل الأخ قحطان وهي كلمة (الريع) حيث تُستخدم بكثرة كلمة دول الريع النفطية حتى تغدو كأنها تشكيلة اقتصادية مستقلة، والريع ليس سوى شكل من أشكال فائض القيمة وليس هو الكل، والفوائض المالية بحاجة إلى دراسات وتشخيص لرؤية كيفية توزيعها وكيف تطرح القوى التحديثية التوزيع الأمثل، أما تحويل كلمة الريع إلى شكلٍ شيطاني فهو كلام مؤدلج يُقصد منه تضييع القضايا.
لا تقوم القوى المشاركة في العملية السياسية بالتطبيل للدولة ولدول الخليج، بقدر ما تبحث عن الأخطاء وتشخصها وتطالب بتصليحها وتثمن الانجازات وتطلب بتوسيعها.
كلامٌ مثل (سلطة عشائرية متحالفة مع برجوازيات ريعية طفيلية فقدت الأساس الموضوعي لخلق رأسمالية خاصة).
أنت تعيش يا قحطان ويفترض بحسب اسمك في الجزيرة العربية وحيث سلطات شيوخ القبائل تمتد إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة، في هذه الصحاري الواسعة، وبنت هياكل اجتماعية ودينية وسياسية، وهرب الناس من هذه الصحاري وفجأة تفجرت ثروات وانقلبت الأحوال، فهل يمكن بالعبارات الطفولية اليسارية فهم مثل هذه الأوضاع وتغييرها لمجرد أنك حفظت تعبير الدول الريعية الفقير في مضمونه ورحت تردده بشكل ببغائي؟
كلامك أعلاه لا يستقيم مع بعضه بعضا، فأي رأسمالية حكومية تنشئ أعمالاً رأسمالية خاصة لها ولابد أن تخضع للقانون والمراقبة الديمقراطية وخاصة في الوقت الراهن، والرأسمالية الخاصة موجودة قبل النفط في الرأسمالية التجارية والحرف ثم هناك الرأسمالية الصناعية التي ظهرت لاحقاً، وهي أجزاء من بنية رأسمالية غير مكتملة وغير متضافرة، ونحن نقرأ ذلك ونتابعه ونؤثر فيه كما هو مفترض. ودور القوى السياسية الكشف عن هذه العمليات الاقتصادية السياسية وتحليلها ونقدها وتحويلها إلى نشاط سياسي برلماني ونشاط نقابي، مما يجعل الإصلاحات تتراكم والرأسمالية الوطنية والطبقات العاملة الوطنية تكتمل في بناءٍ كلي مُراقبٍ وموجهٍ من أجل جميع القوى الاجتماعية.
لكن أن نتكلم بأسلوب مثل هذا: (التحولات البنيوية شوهت الاقتصاد)، فهل هذه لغة بحث؟
ليست البحرين ودول الخليج إلا تحولات لمجتمعات تقليدية نحو الحداثة والرأسمالية بسرعة، وتجري فيها الكثير من التجاوزات والتشوهات والانجازات الكبيرة في غضون أعوام قليلة وليست قروناً بحسب لغة الحساب لديك، ودور القوى السياسية الوطنية درسها ونقدها وتصحيحها.
أما التشابكات مع القوى الغربية فهي لابد منها بحسب التطور التاريخي السابق الراهن وكذلك لا بد من تحليلها ورؤية تدفق العمليات المالية وفوائدها أو ضررها على التحولات الرأسمالية في الخليج والوطن العربي ككل، وكيف نحولها إلى تنمية خليجية وعربية وعالمية كذلك.
وهناك سلسلة من القراءات حول هذه النقطة مثل الكتابات عن العملة وفك الارتباط بالدولار وبيع النفط وإقامة نظام نقدي خليجي وغير هذا، وهو المسار العقلاني أما أن نصرخ بعبارات المقر الحزبي ودكتاتوريته وفقره النظري السياسي فهذا غير مفيد له، وإن كان هو جزءٌ من عقليته الكسولة التي تستغلُ الفقراءَ وتهيجُ فيهم العنفَ والبلادةَ العقلية والشعارات النارية، وقد وجدت في شباب الريف مادةً خصبة في ذلك، لكي تظهر بمظهر الزعامة المنتفخة كما هي في تاريخها.
أما الصبر على درس الأوضاع وإعطائنا دراسات حول هذا الريع الشيطاني وكيف يتجسد في شتى هياكل الاقتصاد وكيف نغيره، فهذا ما لا تقدر عليه المراهقة اليسارية فيكفي أن تقول حتى يتبعها الناس إلى جهنم.
ما الذي جمعَ الماوي بالقروي؟ من كوّنَ العلاقةَ بين الملحدِ الرافض الفوضوي للأديان مع المذهبي السياسي العدو اللدود للإلحاد والتقدم الاشتراكي خاصة؟ ما الذي ربطَ الشامي بالمغربي غيرُ كوابيسَ سياسيةٍ تجمعتْ وانقضتْ على الشعوب؟
المصادفات تعبرُ عن سببيات، وأكثر السببيات المُشكِّلة للدكتاتوريةِ السياسيةِ التنظيمية في الشرق هي الفرديةُ السياسيةُ الجامحة، ففي مجتمعاتٍ محافظةٍ لم تتبلور فيها طبقاتٌ ديمقراطيةٌ برجوازية وعمالية، يغدو حراكُ الفئاتِ البرجوازية الصغيرة هو المشكلُ للاتجاهاتِ السياسيةِ حسب الظرف التاريخي والبُنى الاجتماعية في كلِ مجتمع، فحين ينحرفُ شخصٌ في إيران عن الاثني عشرية وتطورِها المحافظ السلمي المتعقل للظروفِ الحديثةِ شيئاً فشيئاً نحو ولايةِ الفقيه تحدثُ قفزةٌ غيرُ مبرَّرة، تدخلُ أقساماً خاصة الجماهير الأمية الفقيرة والأفراد الانتهازيين الطموحين في مغامرات سياسية واجتماعية خطرة عبر هيجان الشعارات، من دون أن تكون القفزةُ نتاجَ حواراتٍ عميقةٍ وخياراتٍ شعبية بل تفرضُ ذاتَها بالمصادفات العمياءِ كأعاصير الطبيعة.
وبحسب رؤية القائد المنتفخ بإلهامه الفردي الجامحِ وتجاوزه لتعقل السابقين والراهنين، يجرى تأبيد التخلف الماضي الطائفي في عصر الحداثة وسيطرة العسكر، مع دفع الإيرانيين نحو هوةٍ لم يتوضح قرارُها بعد.
ولهذا فإن دائرةَ الجنونِ تتسعُ وتصلُ إلى بلدان أخرى، تورطُ شعوباً لم يكن لها علاقة بالأعصار. وتجيءُ للسيد قحطان راشد في محرق البحرين وقد انتفختْ جماعتهُ بالريش الشمولي نفسه، فمنذ الخمسينيات والصراخُ هو اللغةُ السائدةُ في التداول السياسي، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين لم يبق من الجماهير سوى السيد قحطان وثلة صغيرة، وهو يستفيدُ بشكلٍ كبيرٍ من الريع النفطي البحريني والخليجي في الوزارات التي يشتغلُ فيها، ولكنه يرسلُ المنشورات الثورية الرهيبة من نافذته، أو يعقد جلسات صغيرة في مجلسه العامر يستضيفُ خاصةً شبابَ القرى المتدين المتعطش كثيراً للثورة كل يوم.
إيقاعٌ إيراني مضطرب أعطى نموذجاً لصعود برجوازي صغير وإلغائه لقانونية الثورة وتحويلها لاستبداد عام خطر، لم يطورْ مذهبيتَهُ الاجتماعية ويحدثها، ويشكلُ تطورا ديمقراطيا تدريجيا، بل سحبَ الشعبَ وقربهُ عند فوهة بركان وصنع الأسلحةَ والعديدَ من الأشياء ووضعَ شريطاً لاصقاً على فم الشعب، فتداخلَ الإمامُ وهتلر في هوسٍ مذهبي قومي، ينتظرُ لحظةَ الصفر الانفجارية.
القومي المحرقي البحريني لم يطور فكره القومي عبر الديمقراطية، وساح فوق الماوية، التي هي تشويه للماركسية ولا تعترفُ بقانونيةِ التحولات وبالقوانين التاريخية للتطور أكثر سوءًا من اللينينية، بل تُعلي البرجوازيَّ الصغيرَ كإلهٍ يقيمُ الاشتراكيةَ حسبما يشاء.
من هاتين الذاتين الرافضتين لقانونيات التطور في المذاهب والمجتمعات اللتين تجعلان هوسَهما السياسي قوةً إجبارية على الناس، تكوّن الحلفُ غيرُ المقدس، تكونتْ الانتهازيةُ الفاقعة، بين الماوي والطائفي.
الماوي الذي فقد أنصاره يطمح إلى ضحايا جدد يرفعون شخصَهُ العظيم، والريفي يبحث عن فئات مدنية يلحقها بسيطرته، لتعبر عن هدفه في إقامة دولة الولي الفقيه بشكل مموه.
هنا تحدث تناقضاتٌ لا مفر منها، اليساري يخطبُ بين الرجال الملتحين ولا يرى امرأةً واحدة، وهو يرددُ آخر صيحة ثورية، المذهبيون يفرضون سيطرتهم على الأحياء والقرى الفقيرة عبر المؤسسات العبادية والعاطفة الصاخبة ويفرضون سطوةً دكتاتوريةً متخلفة ليقيموا ديمقراطية وطنية.
اليساري الهائم من أجل كرسي يرفضون إعطاءه إياه في مناطقهم المذهبية الانتخابية المغلقة، فتحصل كوابيس داخلية فيه، يُحضرُ نسوةً ناضلن طويلاً من أجل حرية المرأة والدينيون يقيمون مظاهرةً فيها نساء كذلك لكن من أجل منع أي قانون عصري للأسرة وحرية النساء.
شيئاً فشيئاً يتم تصعيد الأزمة وتوسيعها في كل مناطق البلد عبر نقل المظاهرات الطائفية لمناطق المدن، بعد أن رفضوا كليا تغيير طابع تنظيماتهم السياسية الطائفية، والاندماج في الوعي الديمقراطي البحريني العربي الحديث، واستغلال أقسام من الطبقة العاملة لتنفيذ المشروع بخداعها من خلال المقولات النظرية التي يدبجها السيدُ قحطان وأمثاله.
المكتسبات مثل التنظيمات السياسية والنقابية والثقافية والبرلمانية كلها حولوها للمشروع الطائفي السياسي وتصعيده بالتناغم مع المايسترو الإيراني، واليساري مثل السيد قحطان راشد ينفي هذه الأبعاد كل يوم، حتى لو صارت وثائق، ثم يقوم بتفسيرها عبر اقتصاد العولمة والريع النفطي، مع الاقرار بعدم وجود أي مكسب للجماهير من نواب ونقابيي الجماعة، لكن ربما تطورت وسائل النضال من حرق المستشفيات ومراكز البريد والمحال التجارية في تسعينيات القرن العشرين إلى تكسير المزابل وإلقاء السوائل والمواد الخطرة في الشوارع في القرن الحادي والعشرين، لقد حدث تقدمٌ ديمقراطي
يقوم الزعماء المنتفخون بذواتهم، بعد تشكيل جماعات شمولية لهم تكرسهم، بإعلانات قوية لخدمة الشعوب، لكن الذات المحورية تلعب دورا مهما تصعيديا نحو البروز والتحكم.
الجماعات هي ذاتها من يكرس خروق القوانين الموضوعية للتطور، وقوانين الديمقراطية داخل التنظيمات، بحجج السرية أو المركزية أو اللحمة الوطنية أو رفض الصراع الاجتماعي، ومن هنا تنشأ الإجراءات القافزة على التطور والتحالفات غير المبنية على أسس موضوعية.
الزعيم الفردي المتضخم في الدول الشرقية يقفز على التطور والديمقراطية ونشر الاضطرابات في التحولات.
الحديث عن الشعب غير حقيقي لأن الطائفةَ هي التي يتم التكلم باسمها، من أجل تكوين وباء طائفي مهيج للمشاعر، لكن طبقة صغيرة استغلالية هي التي تسيطر على الاقتصاد والسياسة.
أدت الفردية المتضخمة الشمولية والطائفية إلى تقزم الشعب الفارسي والشعوب الأخرى المنضوية في دولته، وهذا ما حدث للشعوب الأخرى التي أصابتها الميكروبات نفسها.
إن التنظيم اليساري الذي دخلت فيه هذه الجراثيم يعني ان قوانين الحداثة هزمت فيه أو في طريقها للهزيمة، إن تحالف الفئات الوسطى والعمال القوى الديمقراطية المؤسسة للحداثة انفرطَ عقدُها، ولم تشكلْ ثقافةً ديمقراطية متجذرة في هياكل التنظيم أو المجتمع أو الدولة حسب الحالات، وهذا بسبب أن الزعيم أو الفئة المسيطرة جعلت أهواءها وجنون عظمتها بديلاً للقانون التحديثي الديمقراطي.
ولاية الفقيه قفزت على مشروع التطور التحديثي في إيران وهدمت التحالف بين الفئة الوسطى والعمال نحو الدكتاتورية، وتفاقمت الدكتاتورية نحو الدكتاتورية العسكرية الخطرة، وراحت تصدر أمراضها للخارج عجزاً منها عن العودة للتحالف الديمقراطي النهضوي داخل إيران، والسيد قحطان راشد هزمتْ الدكتاتوريةُ الشخصيةُ داخل تنظيمه العقلانيةَ الديمقراطيةَ وتراكمَ العناصرِ الواعيةِ الحكيمة، وجعلت من أنانيتها سياسةً، فتمزقُ اليسارَ بحسب ما تراه من مطامع، وتضربُ بعرض الحائط تنامي الوعي الليبرالي لدى التجار، وتجري نحو الريفيين المتخلفين في الوعي الذين تم اصطيادهم سياسيا من قبل الدكتاتورية الإيرانية، ودخلوا في مغامراتها، وخرقوا قوانين التطور الديمقراطي في بلدهم، عبر العبارات المنتفخة نفسها المرتفعة عن الواقع.
تجربةُ تنظيمٍ له مدة نصف قرن وتجربة تنظيم آخر له أسابيع عدة تنتجان العنب الحامض نفسه، لأن الزعيمَ المهيمنَ بذاتهِ وأهوائهِ منع تراكم التجربة الديمقراطية وغيّب النقد والنقد الذاتي وحوّل هذه الثقافةَ لجماعةٍ من صحبه يحرقون البخور له.
ولهذا فإن التنظيمَ اليساري لا يقرأ التجربةَ الإيرانية ولا يدرسها وهو المفترض أن يكونَ حريصاً على شعبه، مجنباً إياه المغامرات والكوارث، لكن كيف له ذلك وهو مشغول بعظمته؟
مثله مثل هؤلاء الأطفال السياسيين في التنظيمات الطائفية الذين وجدوها فرصةً من السماءِ أن يظهروا على المسرحِ السياسي في تمثيلياتٍ فاشلة من إعداد المخرج المذهبي الشمولي، وهم يَخرجون من قراءةِ كتب التفاسير الغامضة والفقه الجزئي يسألون عن حلال أكل اللحوم المستوردة وحرامها، إلى أن يقرروا مصيرَ شعبٍ بين ليلةٍ وضحاها.
ومن المستحيل أن يتفضلَ عليهم السيد قحطان راشد بشرحِ أفكارهِ عن الريع النفطي وهو يسبحُ في بركةِ خيره، ويتخفى بأسمائهِ المستعارةِ تجنباً للحسدِ العمالي، لكنه من الممكن أن يقفَ بين حشدِ الذكور الريفيين يهاجمُ التسلطَ ويدافع عن حرية الشعب، في كلمات مفصلة لبذلة الدكتاتور الريفي وباسمه الحقيقي هذه المرة، عساه أن يتفضلَ عليه بمقعدٍ في دولته القادمة، مثلما فعل أقرانه في إيران الشاه.
ولن يقرأَ اليساري الذيلي للطائفي، الماوي المستأجرُ للريفي الأحمق، أي دراساتٍ تُكتبُ عن تفاقم الفاشية في إيران ومخاطرها على حياة الشعب الإيراني وشعوب الخليج والعراق، فهو مشدودُ البصر لناحيةٍ لا يرى سواها، وهي الصعود إلى السلطة حتى لو بين الخرائب.
سيقول إن كل ذلك من أجل الشعب وليس من أجلي أنا، أنا لست سوى مناضل من أجل الشعب.
وكيف استطاع أن يجمعَ النقودَ من بين الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة والعامة ويُضخمُ ثروتَهُ من الجمل الثورية الماحقة لكل شيطان رجيم فهي العبقرية السياسية التي تتلاعب بالبيضة والحجر، وبالعلم والسحر، وبأي شيء من أجل أن تخدم الشعب أولاً!!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2022 09:24
No comments have been added yet.