تراب ونعناع – قصتي في مجلة الشارقة العدد67 مايو 2022 – باسم سليمان

خُلق الإنسان من حَزْن

ضحك سعدٌ إثر سماع ما تفوّه به سعيد؛ شريكه في الخيمة، وقال: ليس لك في القصر إلّا من البارحة العصر، حتى يعوّج لسانك. أظنّك ستتعلّم سريعًا اللغة الأجنبية، وستكون مثالًا رائعًا عن اندماج اللاجئين في بلد اللجوء.                                                                    لوى سعيد شفتيه متأمّلًا كيف سيفقد فصاحته، بعد أن يهجر لغته الأم لصالح لغة جديدة، لكنّه لم يسمح لسعد بأن يسترسل في الضحك، بل شرح له المعنى منكّهًا بالسخرية: الحَزْن بفتح الحاء وليس بضمّها، وهو ما غلظ من الأرض، أي إنّ الإنسان خُلق من تراب، أمّا ما ظننت بأنّك قد سمعته، يا صاحب الأذن التي تسمع دبيب النمل، وإن كان خاطئًا، لكنّني أجد فيه مجازًا حقيقيًّا عن اللاجئ، الذي سيخلق وجوده الجديد من الحُزْن على فقدانه لوطنه.

لم يعد معنى اسم سعد مطابقًا لمشاعره، فقد أظلم داخله من جديد بعد سماع ردّ سعيد. كانت مشاعره قد تحسّنت نتيجة اجتيازه الحدود الشائكة، ووصوله سالمًا إلى مخيّم اللاجئين، هربًا من الموت، ومن ثمّ يأتي هذا السعيد لينكبه ثانية. ألقى سعيد شرحه اللغوي على سعد ومضى إلى زاوية الخيمة، وأتى بطشت من بين العديد من الأشياء التي وزّعت عليهم من قبل منظّمات الأمم المتحدة. أخرج ثيابه التي ارتداها في هروبه من الحرب من كيس كان أسفل سريره، ووضعها في الطشت وسكب عليها الماء. كانت الثياب ممزّقة وبالية من كثرة ما زحف وخاض في وحول المستنقعات، وتسلّق الصخور الحادّة الأطراف؛ مثلها مثل الحدود الشائكة التي اجتازها، والتي لم تخزّق ثيابه فقط، بل جلده أيضًا، وبدأ بغسلها.

راقب سعد أفعال سعيد الغريبة متأمّلًا كيف سيقضي الوقت مع شريك، بدلًا من أن يرمي ثيابه البالية طفق يغسلها. أخيرًا نطق سعد بعد أن استبدّت به الدهشة ممّا يفعله سعيد: لا تقل لي بأنّك ستلبس هذه الثياب المخزّقة بعد أن تنتهي من تنظيفها، أو أنّك ستضعها في متحف ما، تخليدًا لذكرى النجاة من الحرب.

استدار سعيد نحو سعد: لا لن أفعل، فما إن انتهي من غسلها، سأضعها في حاوية الزبالة.

جحظت عيون سعد من غرابة إجابة سعيد، لكنّه تدارك نفسه، وتذكّر كيف نال منه عندما اتهمه بعجمة اللسان، لذلك تدبّر أمر إجابة تضمر بأنّ سعيدًا قد جنّ: ألم تسمع بالمثل القديم؛ “انجُ سعد، فقد هلك سعيد” فما أراه من تصرفاتك هو الجنون بعينه، لذلك ليس لي إلّا الهرب، فأنجو منك، فالجنون معدٍ كنزلات البرد.                                                                                     تبسّم سعيد ونظر إلى وجه سعد، فرأى الطيبة في عينين تشعان براءة: أتعرف يا سعد، سنصبح أجمل صديقين في الدنيا. بادل سعد سعيدًا نظرات الودّ والرفقة، ومع ذلك ظلّ مشتبكًا مع غرابة تصرفات سعيد: يا رجل من يستمع إلى أقوالك ويرى أفعالك، سيشكّ بسلامة قواك العقلية، أحقًا تريد غسل هذه الثياب، لكي ترميها نظيفة في حاوية الزبالة؟

نعم سأفعل ذلك!لاتقل لي، بأنّك تطبّعت بأخلاق رمي الزبالة هنا، حيث توجد عدّة حاويات تتلقّف كلّ منها نوعًا مختلفًا من الزبالة. إنّك بتصرفك هذا، تريد مضاهاة أهل البلد في احترام قوانين البيئة.

قهقه سعيد: والله، أنا اسم على مسمّى، لأنّك شريكي في الخيمة. فأنت تفرح القلب.

أتسخر مني؟

أجاب سعيد نافيّا سخريته من سعد، وانتشل ثيابه المبلّلة من الطشت وعصرها بيديه، ومن ثمّ وضعها في كيس وخرج خارج الخيمة باتجاه حاوية الزبالة ورمى الكيس فيها، وعاد. كان سعد يراقبه وسيماء وجهه تشي بعلامتي استفهام وتعجب. واجه سعيد وجه سعد الممتعض بابتسامة وانحنى على الطشت، وشرع في سكب مائه البنّي خارجه، حتى لم يبق في قعره إلّا ما يعادل قبضة من الوحل، جمعها ووضعها في كوب لشرب الماء، حمله بيده اليمنى ووضعه على الطاولة التي تتوضّع بين سرير سعد وسريره، ومن ثم اتجه إلى حقيبته، وأخرج منها ورقة صغيرة قد رطّبت بالماء، انتشل من بين طياتها جذر عشبة ما، وزرعه في الكأس، وبعد ذلك نظر إلى سعد قائلًا: تراب من بلادي وجذر نعناع أيضًا.  

خاص الشارقة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 05, 2022 03:49
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.