صناعة الاستبداد


أصبح لا مكان بيننا للمستقلين والمبدعين والمبتكرين. ماسحو الجوخ لم يبقوا ولم يذروا. تصدروا المشهد واحتكروا المواقع. نكرر دائما أننا كعرب لا نصنع شيئا لكن في الحقيقة أننا صنعنا الاستبداد على نحو لا ينافسنا عليه أحد


يروي لي صديقي أنه فوجئ، في أول يوم عقب تعيينه في منصب مرموق، بتلقيه عرضا سخيا من أحد موظفيه. يشتمل العرض على حجز شاليه خاص له ولأسرته بسعر خاص في نهاية الأسبوع، واستعداده التام، لإنهاء معاملاته الحكومية دون أن يخرج من مكتبه، وتوفير سيارة عمل إضافية عن طريق علاقاته الشخصية بإدارة النقل.

هذا عرض واحد من موظف واحد في يوم واحد، فكيف بالعروض اللاحقة من موظفين آخرين؟ إننا نتفنن في صناعة المستبدين ومن ثم نتساءل من صنعهم ومن أين جاؤوا؟ نهز رؤوسنا موافقين على كل كلمة يقولونها، ونصفق لهم مع نهاية كل جملة، ثم نقول: "إنهم مستبدون، لا صوت يعلو على أصواتهم. ولا مكان للرأي الآخر في ثقافتهم".

في المجتمعات العربية بوسعك أن تميز "المدير" بسهولة. فهو لا يسير وحيدا. يسير في المقدمة، وخلفه قطيع من الموظفين. 

للأسف توارثنا في مجتمعاتنا كابرا عن كابر ثقافة الخنوع لكل من يرأسنا مما حرم من يشذ عن القاعدة من فرص النمو والتألق. 

أصبح لا مكان بيننا للمستقلين والمبدعين والمبتكرين. ماسحو الجوخ لم يبقوا ولم يذروا. تصدروا المشهد واحتكروا المواقع. نكرر دائما أننا كعرب لا نصنع شيئا لكن في الحقيقة أننا صنعنا الاستبداد على نحو لا ينافسنا عليه أحد. إن هذه الصناعة تبدأ من منازلنا.

إنني لا أنسى أحد رفاق الدراسة في المرحلة المتوسطة. لقد كان يحظى بمعاملة خاصة جدا من والديه وشقيقاته، كونه جاء بعد خمس شقيقات. كانت كل طلباته مجابة. وكل ما يأمله يتحقق في لمح البصر.

هذا الدلال جعله مستبدا صغيرا يستغل والديه وشقيقاته الأكبر منه سنا. يرفع صوته عليهن، ولا يجد حرجا في إفشاء أنهن يتناوبن على حل واجباته الدراسية؛ لأن إرضاءه من إرضاء والديهن.

حتى الطفل إذا وجد عناية مبالغا فيها انقلب على والديه وسيطر عليهما. إنني مؤمن تماما بمقولة: "لا أحد يستطيع استغلالك وإهانتك إلا بمساعدتك". 

هل تذكرون صفعة الممثل عمر الشريف لمذيعة قناة "الحرة"، عائشة الدوري، خلال مهرجان الدوحة السينمائي عام 2011؟.

إن الأسوأ من صفعة عمر الشريف للمرأة العربية هو اعتذارها وابتسامتها.

إننا نصنع المستبدين بخنوعنا وإهدار كرامتنا. ‎‬للأسف لم تستيقظ الدوري إلا بعد أن انتشر المقطع على (اليوتيوب) وتناقله الركبان، حينها تذكرت أنه صفعها وحاولت أن تحصل على تعويض إثر جريمته.

إن هذه الحادثة تعكس كيف كرست مجتمعاتنا ثقافة الإذعان والانهزامية وصنعت المستبدين؟ فكيف نفسر ابتسامة بعد صفعة؟ أكاد أجزم أنه لو صفع عمر الشريف سيدة غربية لكان في السجن ناهيك عن تعويض مالي سيؤدي إلى إعلان إفلاسه واعتذار طويل. لكن أكاد أجزم أيضا أنه من المستحيل أن يفعلها هناك لأنه يدرك قيمة مواطنهم كما يدرك قيمة مواطننا. للأسف حقوقنا مهدورة بأمرنا ورضانا. 

إننا وصلنا إلى مرحلة ينبغي أن نفيق منها من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة نحرص من خلالها على تعزيز الاعتداد بالرأي دون المساس بالأخرين وإشاعة حرية التعبير وثقافة الحقوق وعدم التقديس، فلا فرق بيننا. كلنا بشر لنا حقوق وعلينا واجبات. 

إن ديننا الحنيف كرمنا عن سائر خلقه. لقد قال المولى عز وجل في محكم تنزيله: "ولقد كرمنا بني آدم". فلمَ لا نكرم أنفسنا ونمنحها ما تستحق من مكانة وقيمة دون الانقياد لأحد سوى الخالق. وقيل في الحديث "كما تكونوا يولى عليكم"، نحن من صنع هذا الواقع المؤلم. نحن من صنع المستبدين.
عبدالله المغلوث
 
4 likes ·   •  2 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 23, 2012 18:02
Comments Showing 1-2 of 2 (2 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Ghada ahmad (new)

Ghada ahmad sweetestghada فعلا فان شخصيتنا المهزوزة هي التي جعلت من الضعيف مستبد ... بد
في مثل شعبي يقول "مين فرانك يافرعون ؟ اكيد الجواب ضعف من حوله خلق منه قوة مستبده

ونحن كمجتمع عربي ينقصنا القدرة على معاقبه المسيء بل نصفق له لكونه صاحب مركز وسلطه .... واذا لم يتم ايجاد قانون رادع واخلاق عليا سنبقى هكذا
ومن امن العقاب اساء الادب
هناك الكثير من النقاط التي توقفت عندها واتفق معك فيها
سلمت اناملك التي تخط ابداعات عقل فريد :)
انتظر جديدك دائما


message 2: by التقا (new)

التقا لقد اندهشت من الأفكار العديدة الفريدة التي قدمها الأطفال الصغار والتي سيكون لديهم الكثير منها عندما يصبحون بالغين. لقد سحرتني قدرته على التسويق والتقديم والتحدث والتفاوض والارتجال في مثل هذه السن المبكرة. مهارة أشك في وجودها لدى العديد من الطلاب في جامعاتنا العربية ، الذين كانت الأبواب مفتوحة لهم من حين لآخر فقط. لم يجد الكثير منهم من يشجعهم على المشاركة أو حتى المحاولة.


back to top