عبـــــــدالله خلـــــــيفة : الوعي الديني والبنية الاجتماعية

لقد نما الإسلام عبر التضاريس الطبيعية والاجتماعية المتداخلة المركبة، وقد رأينا كيف كان الطابع معقداً ومتضاداً عبر تأثير الرعاة والصحراء على المدن ونموها، ولأن هذه المدن تتشكل بقيادة الطبقة المسيطرة، وليست باعتبارها سوقاً، حيث يأتي السوق كمُلحق وليس كقوة قائدة، فقد قام الأشراف بتراثهم الرعوي والمحافظ  بتثبيت هذه الأسس الاجتماعية والفكرية للماضي، مع استلال مضمونه الكفاحي، أو جعله أشكالاً أو عادات مُفرغة من المضمون التقدمي.

فالقبيلة والأسرة الأبوية التي كانت نمطاً اجتماعياً مهيمناً في البداوة تم سحبها إلى فضاء المدينة الاجتماعي، وغدت أفخاذ هذه القبائل تغدو أحياءً، وبالتالي كان هناك قواعد مادية بشرية واقتصادية لإعادة إنتاج الموروث البدوي. ونجد ذلك من الكوفة في عصر عمر بن الخطاب حتى مدينة المحرق البحرينية في القرن العشرين.

إن الإقطاع السياسي الحاكم يتحول على مستوى الحياة الاجتماعية إلى إقطاع أسري أبوي، وكذلك إلى عبودية إذا كان ثمة علاقات رق، أو استخدام للخدم العبيد والجواري.

وبطبيعة الحال، فإن المدينة المقامة بإرادة سلطوية، تقوم بتنمية التجارة والصرافة الخ، وتتحدد العمليات المالية هنا بمدى موارد السلطة وكيفيات الصرف. وهذا من جانب معين يقوم بتفكيك الإقطاع الأسري، عبر تطور وعي هذه الأسر، لكنه لا يقضي على الإقطاع الُمرحّل من العصر البدوي الذكوري القبلي السابق، إلى المدن، ويتوقف الأمر هنا على الموارد التي تدخل السوق والحرف وما إذا كانت تتجه للتوسع الخ..

فالمدينة ليست مدينة برجوازية بل مدينة إقطاعية، تنشأ فيها قطاعات رأسمالية محدودة ومرتبطة بالسلطة أو بحاجات الناس البسيطة. ولهذا لا تستطيع أن تغدو مدينة برجوازية إلا عبر تغيير السلطة.

لكن القبائل أو الأفخاذ وقد غدت مؤسسة حاكمة، تتمركز فيها السلطة والثروة،   تقوم بتأبيد التراث الذي ارتكزت عليه في الحكم، وهنا يمكن أن نرى عدة مراحل لعلمية التثبيت تلك، فالزمن الراشدي الأموي العباسي يثبت الأسر القرشية بإرثها العربي، وهنا كانت عملية استعادة الإرث العربي الإسلامي ذات صياغة عربية بدوية تحديثية، دون أن تتخلى عن الأسس الاجتماعية القبلية والذكورية والأرستقراطية، أي أن المدن أصبحت مضارب جديدة عبر هيمنة شيخ القبيلة الذي صار خليفة، وهذا الجانب الأساسي لن يتم التخلي عنه في أية تطورات متنامية، أي أن الإقطاع السياسي الحاكم، يكرس مستوى اجتماعياً ملائماً لقيادته. وهذا المستوى الاجتماعي من البُنية هو الذي يقوم الدين بتشكيله. الدين الذي سُحبت منه المواقف الأساسية في الثورة التأسيسية: التوجه نحو التحديث، وتحالف التجار والقوى العاملة، وتغيير التاريخ بالارتكاز على تطور حياة الجمهور المعيشية.

ولكن لأن الصراعات السياسية والفكرية تجري في المستوى السياسي فإن المستوى الاجتماعي يتكرس من كل الفرقاء المتصارعين السياسيين. أي أن تعدد الزوجات وعقوبات العنف واستخدام العبيد والحجر على النساء وتبعية الوعي والثقافة للقصور الحاكمة الخ.. إن هذا المستوى الاجتماعي لن يكون محط خلاف بين الفرق الدينية، التي أخذت تتحول إلى مذاهب بدءً من القرن الثاني الهجري.

فالتحول إلى مذاهب لم يكن يصب في إعادة تشكيل هذه المستويات الاجتماعية المتحجرة، لأن المسيطرين على إنتاج المذاهب انفصلوا عن العاملين، وغدت لهم مصلحة مشتركة في الإبقاء على تخلف وتبعية المنتجين. ومن هنا نرى تضادهم مع مضمون الثورة الإسلامية التأسيسية، ولهذا يركزون على الشكل لدرجة التعصب والعنف.

ولهذا فإن خلافات المذهبيين تغدو شكليةً أكثر فأكثر، مثل كيفية الوضؤ، أو الوقوف في الصلاة، وإذا كان المستوى الإيديولوجي يبدو متضاداً، عبر الاستناد على النص المستقل عن الأئمة أو الموروث عنهم، فإن هذا المستوى الفكري يتحول هو الآخر إلى أشكال مُفرغّة من بحث القضايا الجوهرية للتحول مثل الملكية العامة والخراج والاستغلال الخ..

وهكذا فإن الإقطاع السياسي وقد أسس الدولة المركزية، أو الذي انفصل عنها، فإنه يقوم لا بتكريس حكمه السياسي فحسب، بل بتكريس المستوى الاجتماعي، التقليدي، الذي تهدف ديمومته إلى إعادة إنتاج الطاعة لدى الجمهور المستلب الإرادة.

ويلعب الوعي دور الوساطة بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، فالمثقفون الذين ينتجون الوعي والمرتبطون بالأشراف وخدمتهم، يصوغون المبادئ الدينية ويحيلونها إلى أشكال، أي يقومون بنزع وظيفتها التحويلية الأولى، ومواقفها الموجهة ضد الملكية الاستغلالية، ويركزونها على العبادات والمعاملات والعقيدة، ومن ثم تزداد بُعداً حتى عن هذا المستوى، أي تتحول إلى محض عبادات وتستوعب أكثر فأكثر المراحل السابقة للدين كالسحر والخرافة القديمة. [ راجع هنا حديث أبن الماجشون عن قرار عمر بن الخطاب بجعل ملكية الأراضي الخراجية المفتوحة ملكاً لعامة المسلمين.]

وبطبيعة الحال فإن صياغات المثقفين لمستويات الوعي الدينية في كل مرحلة تختلف، لكونها مرتبطة بمدى قوة الدولة وطابعها وكيفية توزيعها لثمار العمل، ولكن إذا حللنا هذه الصياغات بدءً من نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث فنجد ما قلناه سابقاً من بروز التمذهب  الذي كرس البنية الإقطاعية بمستوييها السياسي والاجتماعي. وكان دور المثقفين المذهبيين المتعددين هو تكريس هذا الاختلاف عبر الأشكال الدينية التي تناسب بدلات القوى المسيطرة المتعددة الألوان..

ولهذا سيختلفون حول كيفية الصلوات وعدد الكواكب والنجوم والأرواح التي تهيمن على الفضاء الروحي، ولكن سيتفقون على استغلال العبيد والنساء.

وتغدو الاختلافات بين المجموعات الإقطاعية السياسية والدينية منصبة على الأشكال، وهي تحولها إلى أدوات للحكم أو لمعارضة الحكم ولكن ليس لتغيير أوضاع الجمهور.

إن هذا يستنزف البشر والنص الديني معاً، فالمدينة الإقطاعية الدينية وهي تدمر الريف والبادية بشكل مستمر، باستغلالهما وتفتيتهما، تقوم بتدمير نفسها أيضاً، بتوجه السلطات البذخية فيها، فلا تنهض الصناعة، ولا تلتحم بالعلوم، وتغدو قوة المدينة الاقتصادية مركزة على التجارة والإنشاء اللذين يصبان في البذخ، مما يجعل المدينة على مرور الوقت تنهار من الداخل وتفقد سيطرتها على الخارج.

فالتضخم المتواصل في عدد سكانها، والذي يكون من التوالد غير الطبيعي في العائلات الأرستقراطية، والذي يتكون بسبب الشهوات والفراغ، أو بسبب النزوح المستمر من الريف والبادية، أو بسبب تكوين فرق الارتزاق العسكري، أو بسبب التضخم السكاني المستمر في القرية والصحراء والذي يتشكل لأسباب إنتاجية ولمواجهة قسوة الطبيعة وتخلف الإنتاج وهيمنة الرجال كذلك.

إن النص الديني الموجه عبر هيمنة مثقفي الأشراف وخدمهم الفكريين، يضمرُ على مستوى المضمون، لفقدان الركائز الاجتماعية التي تغذيه بالحياة، فبدلاً من التحالف بين التجار المكيين والعبيد والفقراء، كما كان الإسلام في ثورته الأولى ، يتبدل إلى خضوع التجار للأرستقراطيات اللاهية، وبالتالي يغدو الهجوم على الملأ المكي القديم هجوماً شخصياً أو إيمانياً محضاً مقطوع الجذور بدلالاته الاجتماعية، أو أن التحالف الكفاحي بين التجار والعبيد والفقراء كما كان سابقاً والذين غدوا جميعاً صحابة ثورية، يصير الآن في العصر العباسي الأول وما يليه، تبعية تجار للقصور، أو استغلال نهم للفقراء.

وفي حين كان الإسلام الأول يعتمد على تغيير التاريخ من خلال مصلحة الجمهور ومشاركته، بغض النظر عن المستوى الذي تجلى فيه ذلك الاستخدام والتغيير، فإن المذاهب والفرق الدينية تقوم على تجميد التاريخ واستغلال الجمهور لمصالح شخصية ومن أجل الوثوب إلى الحكم الذي يعيد إنتاج التخلف.

إن هذا يؤدي إلى غربة النص عن مضمونه، أي عن الظاهرات التحويلية الشعبية التي تشكل في مجراها، فيزداد النص تركيزاً على أشكاله الخارجية، ويعادي أكثر فأكثر عمليات التحويل الحديث و(العدالة).

ومن هنا كانت مسيرة فرق المعارضة الدينية المتوجهة لقراءة النص كنص غيبي، تتدهور بشكل مستمر، فالقدرية تضمحل، والمعتزلة تُضرب فتتحول إلى شخوص تابعة للسلطة المستغلة، والزيدية تغدو نائية وموجهة لحكم  الأشراف في المناطق البعيدة كاليمن والمغرب وشمال إيران، والإماميات تتحول إلى معارضة ساكنة متوارية، عبر بدايات الإثنا عشرية، أو معارضة متنامية تصل للسلطة في القرن الثالث الهجري عبر الإسماعيلية، ولكن هذه القيادة والانتصارات فيما بعد تكون من خلال قيادة الأشراف وليس التجار، وكذلك يتم استغلال الفقراء ولا يقوم التحالف الثوري معهم، وتصير العمليات برمتها وثوباً للسلطة من أجل هذه العائلات وترفها.

وهذا ما يجعل النص الديني مستمراً في غربته عن مضمونه، فيتفكك، أي يتحول إلى مذاهب. أي إلى تفسيرات تائهة في أشكاله وحروفه المقطوعة الصلة بجذوره.

التحول إلى مذاهب تعني إن ثمة حقائق متعارضة في الدين، أي أن هناك حقيقة دينية، وهناك محاولة قوية أو محاولات للقضاء على هذه الحقيقة الدينية، التي تعنى لدى المثقفين أو الجمهور العدالة والسعادة في الدارين.

إن أساس الانقسام في الوعي الديني ناتج عن انقسام اجتماعي في صفوف المؤمنين، فهناك أقسام غدت مُلتحقة أو تابعة للسلطة، وهناك أقسام تجد نفسها مستغلة بشكل أساسي وبالتالي تصطف في المعارضة. إن القسم الأول ينطبق على الرعاة الذين شكلوا وهيمنوا على المدن وصاروا جنوداً وإدارات ثم عامة موالية أو ثائرة على السلطة، ثم رُفدوا بالعوام العسكر الترك والأكراد الخ، فغدوا هم التربة الاجتماعية للمذاهب السنية. والتكوين الرعوي الواسع وقوة المدن والسلطات المنبثقة عنها، هي ما جعلت لهذه المذاهب السيادة الكبيرة على المنطقة المشرقية من العالم الإسلامي، في حين كانت له السيادة المطلقة في الإقليم الغربي، نظراً لتجذر الطابع الرعوي فيه.

 إن القسم الزراعي الذي واجه هؤلاء الرعاة وادغم معهم أو صارعهم، تحمل عبء الاستغلال الأكبر، ونظراً لذلك أخذ هذا القسم بالمذاهب المعارضة، في مخاض معقد (قومي) واجتماعي وثقافي فداخله قوس من المذاهب الإمامية والمسيحية. وتداخل المذاهب الإمامية بالمذاهب المسيحية والإرث القديم أنتج العديد من الظواهر المشتركة.

وبطبيعة الحال يغدو القانون الاجتماعي هو هو، سواء على المستوى المركزي حين انتقل العرب إلى الإمبراطورية، أو في أزمنة التفكك، ففضاء مكة والجزيرة العربية الاجتماعي الذي لم يشكله الحكم الاستبدادي، هو غير المشرق الزراعي الشمالي المشكل على أساس العبودية العامة منذ فجر التاريخ.

إن كل قسم في الوعي الديني يقول إن الحقيقة الدينية معه، ولكن كما رأينا فإن النص الديني يُفرغ باستمرار من محتواه، وتنتقل هذه العملية التفريغية إلى المذاهب، فتغدو الاختلافات ليس من أجل الوصول إلى المضمون الثوري المُضيّع، بل إلى الاختلاف حول الأشكال المتباينة.

وبطبيعة الحال تمتلك الأديان آلية لمواجهة عدم تحقق الوعود الاجتماعية الدنيوية بالإحالة على الغيب، أو بروز عقبات شيطانية الخ..

وتزداد هذه العملية تعقيداً وشكلانية مع ازدياد الاختلافات، وتزداد عملياً الغربات الدينية المختلفة، وهذا ما يفتح مجالاً للمعرفة الحدسية، بعد أن فشلت أدوات النصوص الحرفية في اكتشاف مضمون العقيدة التحويلي.

وهنا تبدأ مرحلة مفارقة لمرحلة الاعتماد على النصوصية، التي أنتجت عقلاً دينياً تابعاً لها، بأشكال مختلفة، عبر كل المذاهب السابقة، أي تبدأ المرحلة الصوفية والفلسفية في الوعي الديني. وتقوم الصوفية على إنكار سياق النص، علىإنه ظاهر، وبالتالي فإن الحقيقة لا تكمن في الظاهر، بل في الباطن، ولكن هذا الباطن لا تجسده الصوفية نضالاً اجتماعياً، وتحالفاً أساسياً بين التجار والفقراء، بين الطبقة الوسطى والمنتجين، تجاوزاً للبنية الإقطاعية، بل تقيم دكتاتورية غيبية للقطب على المريدين، وتصبح هذه الدكتاتورية شديدة التنوع والتشظي بفعل الشطحات والمجاهدات الداخلية الغامضة للأقطاب، ويذكرنا هذا بتشظيات الخوارج، وإن كان بصورة مضادة.

أما المذاهب الفلسفية الدينية فأكثر تعقيداً، وقد أتاح القسم [ العقلاني] منها إمكانية قراءة الطبيعة والمجتمع قراءة موضوعية بأدوات الزمن، لكن غيبيته في القسم الميتافيزيقي، تتشارك مع المذاهب الدينية الأخرى وخاصة الإمامية منها. ولكن لأن الفلسفة الدينية غدت مقطوعة التحليل بالسياق الاجتماعي التاريخي، وارتبطت بالتبعية لشرائح من طبقات الأشراف المختلفة، فقد أصابها ما أصاب الحركات المعارضة التي تجمدت عند هذا الأفق نفسه، كالقرامطة والإسماعيلية والدروز والزيدية الخ..

وبطبيعة الحال، كان كل هذا يشتغل في فضاء نظام إقطاعي زراعي حرفي بسيط، كانت إمكانيات التجاوز التقني والصناعي والعلمي، معدومة فيه.

إن اعتماد قسم من النص الديني على امتداده النصوصي، باعتبار إن هذا الامتداد النصوصي يقوده إلى النص المنبع القادم من النور الغيبي، يغدو بالنسبة إليه شرط الحقيقة الدينية، بغض النظر عن ملاءمتها للعصر أو تناقضها مع العقل أو أهميتها للتطور.

إن النص في هذه الحالة يغدو رجوعياً باستمرار، ولكن ليس إلى جوهر العملية الثورية الإسلامية الأولى، وهنا تحدث غربتان على مستوى الماضي وعلى مستوى الحاضر.

فهو يغدو غريباً تجاه الماضي، فلا يفهم سببيات الثورة الإسلامية وشروطها، أي عمليات تفاعلها الاجتماعية والسياسية والعسكرية مع الجمهور، ليس لشيء سوى لموقفه المحافظ وتبعيته لقوى القهر والاستغلال في زمنه، ولهذا يقوم بإعادة النص المفرغ من دلالاته الثورية إلى زمنه، لكي يمنع اكتشاف هذا المضمون.

تتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، فتزداد عمليات التدمير الذاتي والشكلانية النصوصية والشطحات والخرافات، أو النصوصية الحرفية الميتة الخ..

إن شروط التغيير وهي تحويل نظام الملكية العامة التابعة لأسر الأشراف، وتحرير الفلاحين والمرأة والعبيد، كانت هي أساس وجود هذه الأنظمة والتيارات، وبالتالي كانت إمكانية تشكل ثورة ديمقراطية معدومة، وكان وجود طبقة برجوازية حرة صناعية مستحيلاً، فراح العالم الإقطاعي الديني يعيد إنتاج نفسه على نحو تفتتي ومأساوي بشكل مستمر، حتى جاء الأتراك والصفويون وأقاموا نظامي الإقطاع المذهبيين الشاملين بنفس الأسس القديمة حتى العصر الحديث.

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-6223ff8268845', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', onClick: function() { window.__tcfapi && window.__tcfapi( 'showUi' ); }, } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 05, 2022 11:52
No comments have been added yet.