عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وعي الظاهر والباطن

من السمات الفكرية التي أخذت تبرز في هذا العصر، سمة الوعي بالتفاوت في النصوص الدينية بين الظاهر والباطن، وهذه عملية اجتماعية ومعرفية أخذت تنمو بشكل تاريخي معبرة عن تناقضات عميقة في الفكر الديني الإسلامي، وعبرت عن الحاجة إلى القيام بعمليات تحويلية جديدة بأدوات من الفكر السابق.

فإذا كانت مرحلة الثورة التأسيسية المكية شهدت تماثلاً وتقارباً بين النصوص وفهمها، فإن المراحل التالية أخذت تتباعد كثيراً. وفي المرحلة التأسيسية كان هناك عدم فهم لبعض الآيات القرآنية وتباين في فهمها، وظهرت مفردات الآيات المتشابهة والمحكمة، فالمتشابهة كانت غير معروفة التفسير ولها العديد من الاحتمالات والدلالات، أما المحكمة فبخلاف ذلك.

ويمكن رؤية التباين هنا في كون المتشابهات تتعلق بمسائل الغيب عموماً كالحديث عن الله أو الملائكة أو اليوم الآخر الخ، في حين كانت الآيات الُمحكمات تتعلق بالأمور الجلية كالصلاة وأحكامها أو البيع والشراء، أي كل هذه المسائل التي تدخل في ظاهرات الحياة الملموسة.

فكان هذا أول تباين بين الظاهر والباطن، حيث تجسد المرئي فيما هو اجتماعي وعبادي وظاهراتي، ولكن كان هذا المرئي في خدمة اللامرئي، أي في طاعة القوى الغيبية، حيث إن هذه الأخيرة هي التي تنظم الأولى وتسيرها.

ولكن المرحلة الأولى التأسيسية التي اعتمدت على دعم وتوجيه القوى الغيبية، حيث إن الثورة كانت رسالة إلهية، وكانت تقيم توازناً بين المرئي واللامرئي، بين الواقعي والغيبي، لأن النشاط الاجتماعي الملموس للثورة كان يتداخل وتعليمات السماء ، فيسبقها أحياناً وينتظر حكمها أحياناً أخرى ، أو تقوم هي بالتعليق عليه ولكنها تحكمه في نهاية المطاف أو تجسد سيرورته . لكن كان هناك تداخل بين الثورة والنظرية ، رغم إنها نظرية إلهية ، حيث إن الثورة المحمدية كانت تستلهم تراثاً نبوياً في ظروف العرب الخاصة، المتساوقة مع تجربة شعوب المنطقة، وهذا الاستلهام للجوانب الخيرة من الُمثــُل الإنسانية كالدعوة للخير والمساواة ومقاومة الشر، كان يتشكل في الإرث والعادات العربية، فيتجسد من خلالها.

ولهذا كان هناك ظاهر وباطن من مستوى آخر ، فالحركة الإسلامية التي كان يُفـترض فيها أن تحقق المثــُل الخيرة والعدالة، التي هي نضال الأنبياء السابقين، لم تقم بتحقيق ذلك، بل إن الظالمين واللصوص الاجتماعيين استولوا على السلطة والخراج ، وعلى صنع التاريخ وحكموا المجتمع الذي كان ينبغي أن يحكم بتلك المثل النبيلة .وفي الواقع، كان هذا مصير الثورات دائماً، بأن يتم تجاوزها، ولكن الوعي الديني طابق بين الثورة والرسالة الأبدية ، ولهذا حاول أن يجد من الثورة الأولى ، أدوات فكرية تبرر الثورات الجديدة وتضيف إلى الأولى .

ولكون الوعي الديني الرسمي الذي هيمن على إنجازات الثورة ، والوعي المعارض الذي عمل لاستعادة هذه الإنجازات وإعطائها لجمهور المسلمين عامة ، يشتركان في ذات المصادر الدينية المقدسة : القرآن والسنة ، فقد بدأت قراءات مختلفة لهذه المصادر ، وتركز عمل المحافظين على القراءات الظاهرية الرسمية ومنع الاجتهادات الواسعة والمؤدية إلى تجاوز بنية الاستغلال المسيطرة .

فيما عملت القراءات المعارضة على تأويل تلك المصادر ، ولكن التأويل خضع للقراءة الدينية كذلك ، فهذا التأويل توجه إلى إسقاط الرغبات والأهداف السياسية للفرق على النصوص، فغدت النصوص تكشف ليس لحظتها التاريخية الموضوعية ، بل تأويلات الفرق وأهدافها السياسية في المراحل التاريخية المتعاقبة .فغدت إسقاطات معاصرة على الماضي وأفكاره.

فنجد إن بعض الفرق المنتمية لعوائل الأشراف تجعل حكمها منصوصاً عليه في القرآن والسنة، بحيث يغدو الحكم النبوي مقدمة لحكم الأسرة العلوية أو العباسية مثلاً ، فهنا يغدو الظاهر والباطن مترابطين لهوية اجتماعية واحدة .

يغدو الظاهر هو التاريخ العام للمسلمين، في حين يغدو الباطن هو تاريخ بعض الفرق ومثلها وأهدافها، داخل النسيج العام للثقافة الإسلامية .

وإذا كانت الفرق شديدة البداوة كالخوارج توقفت عند حدود الصحراء والنص والفترة الإسلامية الأولى ، فإن المذاهب و الفرق المتدرجة التحضر ، عملت على بعض درجات التأويل والتفسير تبعاً لمستوى تطورها الحضاري ، حتى إذا حدث الانقلاب على العالم الرعوي ، وأخذ العالم الشمالي العربي والفارسي والمسيحي الزراعي في بعث ثقافته ومصالحه داخل نسيج الثقافة الإسلامية ، بدأت لحظات معاكسة للتأويل ، أي أنها تأخذ في الابتعاد أكثر وأكثر عن النص والحرفية ، بدءً من الهاشمية العباسية حتى الإسماعيلية والدروز الخ..

وهذا الوقوف عند الظاهر من النصوص وذلك الانعتاق الواسع من النصوص ، ليسا مطلقين، فالأول ليس تطابقاً كلياً معها ، والثاني ليست تغييباً كلياً لها ، بل هما عمليتا تداخل متعددة بين الظاهر والباطن ، بين النصوص وإمكانيات تفسيراتها المختلفة ، تعبيراً عن مصالح وصراعات اجتماعية وتباينات ومستويات روحية مختلفة .

فالتفسير الظاهري الكلي وقف عند الحرفية الشديدة تعبيراً عن تنوع شديد في اللحظات التاريخية ، حسب المناطق والأزمنة، فلا بد من قراءته في كيفية تعامله مع هذه النصوص ، وهذا ينطبق على التأويلات المتعددة وتدرجاتها ، ولكن في حين إن التفسير الأول يقف عموماً مع النظام الرسمي الذي تجسد في دول ، فإن الثاني عبر عن حركات الرفض والتغيير، دون أن يصل هذا الرفض إلى إلغاء النصوص أو المنظومة الاجتماعية التي تشكل على أساسها هذا العالم، ودون أن يكون التفسير الظاهري متطابقاً مع النصوص حقيقة، فكلاهما يعبران عن لحظات مغايرة لزمن الثورة المحمدية ودورها وإنجازاتها.

 إن الجانبين يعبران عن المنظومة الإقطاعية ودرجاتها وألوانها, ما بين تضاريس الصحراء, وما بين اقصى هيمنة الزراعة, ما بين نمو بعض الأشكال التجارية والمالية للرأسمالية, وما بين هيمنة الاقتصاد الطبيعي.

في حين كان زمن الثورة المحمدية هو زمن تكوين التحالف الاجتماعي بين التجار المتوسطين والعامة الفقراء, وهذه الثورة ولحظات نموها وتوسطها وتراجعها, انعكست في النصوص المقدسة, وقد كان الفضاء التاريخي مفتوحاً لها, عبر  المجال العالمي والمناطقي, الذي حدد حينها كيفية نموها, واندماجها ببلدان الفتوح والآثار المترتبة على ذلك.

لقد بقيت المضامين العميقة للثورة تهجس عند فرق المعارضة، في حين قامت الفرق المحافظة بامتصاص واستبدال تلك المضامين بالأشكال الظاهرية للنصوص والعبادات.

وحتى الفرق المعارضة فإنها كانت تفصل النصوص عن سيرورة الثورة، وتجعلها في فضاء ميتافيزيقي غيبي، هو جزء مشترك من نهج الوعي الديني عامة، ولكنها تقوم بإنتاج جوانب فكرية جديدة، هي في نظرها وعياً باطنياً لإبعاد النصوص الدينية، ولكن إنتاج التأويلات داخل العباءة المثالية الدينية، يواصل تحريك النصوص القديمة بالتفاسير الجديدة، دون أن يصل إلى فهم الإسلام كثورة إجتماعية محددة، في زمن محدد.

ووجود الوعي المثالي الديني يعبر عن القوى الاجتماعية العليا التي تكون بيدها قيادة الحركة التاريخية، والتي لا تقوم بفظ الغلاف الغيبي لتكشف المضمون الإنساني والاجتماعي، لأن كشف ذلك يقود إلى انحسار قيادتها وتولي القوى الاجتماعية الفقيرة توجيه الأحداث.

ولهذا فإنها في تفسير الظاهر تحاول أن تبقي الظاهر كوجود مستمر، فهو المكون لوعي الجمهور العادي، الذي لا تحاول أن تزيحه عن الظاهر، بل تبقيه فيه، لأن خروجه عن الظاهر يفقدها إياه، ويجعل سيطرتها متلاشية، فهي تسيطر من خلال الظاهر ومستوياته، والجمهور بكليته لا يستطيع أن يكون باطنياً، أي ممتلكاً لأدوات الثقافة والتأويل.

إن الفُرق لا تختلف كثيراً في تفسير الظاهر، فهي إضافة إلى أنها محكومة بمصادر مقدسة، وبعض نصوصها المحكم لا يقبل التأويل، كذلك فإنها بحاجة إلى هذا الظاهر العام، الذي يختلف هنا أو هناك اختلافات طفيفة، لأنها بدونه تزول، فهو المصدر لتشكلها وإعادة تشكلها.

أما ما تختلف فيه هذه الفرق فهو الباطن، لأنها تفهمه باعتباره تجسيداً لسيطرتها على الجمهور وعلى النص، فهي تضع سيطرتها داخل النصوص المقدسة، كباطن غير محدد المعالم، قد يكون من خلال جملة، كما فهم بنو هاشم بعض النصوص القرآنية، أو من خلال فهم جديد للنص القرآني يتيح للمتصوفة اعتبار طريقتهم في العبادة هي العبادة الحقيقية، وليست الشكلية.

ولكن كل الطرق التأويلية الباطنية تستدرج النص لسلطتها، أي أنها توظفه من أجل هيمنتها على الجمهور وعلى السلطة الاقتصادية والسياسية . ولكن لا بد لها مهما اشتطت في تأويلاتها من إبقاء جسور بينها وبين الظاهر، فبدونه تذوب في الفضاء العريض للعقائد.

ولكن لم يكن البقاء ضمن الظاهر العام المشترك إلا جزءً من عملية التكون الموحدة للأمم والشعوب الإسلامية، ومن الدور التاريخي الذي قام به العرب لصهر هذه الكتل الإنسانية في تجمع سياسي وثقافي مشترك. ولهذا كانت الشعوب المقاربة لوضع العرب الاجتماعي في انطلاقتهم الأولى، كالقبائل في الشام أو البربر في شمال أفريقيا أو شعوب الترك وغيرهم، هي المتجمعة حول الظاهر، أي حول النصوص والأحكام القريبة من إرثها الفكري وحياتها الاجتماعية الراهنة واستقلالها القادم. في حين كان الباطن يجمع الشعوب غير الرعوية بشكل عام، فذلك المستوى من الظاهر لم يكن متساوقاً مع إرثها واستقلالها الراهن، فراحت تنمو عبر الظاهر بباطنها التاريخي. ولكن حتى يغدو الباطن متضافراً والظاهر فإن ذلك أحتاج إلى فترة تاريخية، ولكن لا بد أن يتكيف الظاهر والمسارات التاريخية للشعب المعني، الباطني بمعنى ما، أن تصبح التوليفة معبرة عن كينونة اللاستقلال والتمايز في المجموع الإسلامي.

 إن انتشار نفوذ القوى الباطنية بين الناس، يتطلب كما هي الصلة بالظاهر، وعدم قطع الخيوط معه، أن ينتشر تفسيرها المختلف بين الجمهور. وهذا يتوقف على الظروف العامة للوعي والصراعات المختلفة، وطريقة طرح المضمون المختلف وكيفية توظيفه.

ولهذا فإن ذلك يغدو تاريخاً للوعي الباطن، كما كان ثمة تاريخ للوعي الظاهر، أي إن للوعي الباطن أدواته وتراكماته المعرفية وصلاته الموضوعية. فقد يكون في البداية عملاً فردياً استثنائياً، لكون التراكمات لم تصل إلى تحول نوعي تجعل تلك البداية فعلاً مغيراً بشكل اجتماعي وليس مغامرة فردية .

ولهذا فإن للوعي الباطن زمنه وجغرافيته الخاصة، فنجد إن الزمن الأول لسيادة الرعاة لم يكن الوعي الباطن سوى مغامرات على طريقة عبدالله بن سبأ و الهاشمية، ولكن في الزمن التالي حين صعد الشمال الزراعي غدت المغامرات الفردية ظاهرات اجتماعية، فأصبحت الإسماعيلية من جنون في القرن الثاني الهجري إلى ظاهرة واسعة (عاقلة) في القرون التالية.

ولهذا فإن الظاهر يرتبط عامة بالرعاة وعالمهم الاجتماعي، والباطن يرتبط بالفلاحين وعالمهم، ولكن بشكل عام، لأن التداخل يجري بين العالمين كذلك، وما يحدد التداخل والصراع والتباين العملية التاريخية المعقدة المركبة بين الطبقات والشعوب والأمم. لكون لا الرعاة ولا الفلاحون هم الذين ينتجون المفاهيم ويقودون الصراعات والاتجاهات، بل الجماعات الفكرية والسياسية، في ارتباطها بهم.

ولهذا نلاحظ كيف أن الثورة المحمدية راعت ظروف الرعاة وعاداتهم وقوانين العقاب لديهم ودرجات سيطرة الرجال على النساء وأنواع العلاقات الاقتصادية، ولكن بهدف نقلهم إلى مستوى أرقى من العلاقات الاجتماعية، يتيحه الفضاء المفتوح لوجودهم الاجتماعي وعدم وجود تشكيلة محددة ودولة عتيقة الخ..

ولكن التيارات الفكرية والسياسية التالية وجدت نفسها في زمن دولة الإقطاع المركزية، وتباينت اتجاهاتهم بين الحفاظ على هذه الدولة الإقطاعية المركزية وإجراء إصلاحات فيها، وبين هدم هذه الدولة وإقامة دول الخ..ولهذا كان اعتمادهم على الفلاحين، الطبقة المنتجة الرئيسية. ومن هنا كانت تفسيراتهم الباطنية تأخذ من موروثاتها لتشكل حركة سياسية جديدة، ولكن إلى أي حد يعبرون عن مصالح الطبقة؟ إن هذا يعتمد على أهداف حركاتهم وسيرورتها. ولكن الانتقال من دولة الإقطاع المركزية إلى دول الإقطاع اللامركزية هو حركة نمو وتقدم، تؤدي إلى ازدهار الدول المستقلة إلى حين. أي إلى زمن يبدأ فيه الإقطاع اللامركزي بدخول عصر الأزمة. وهنا يأخذ التطور التاريخي الإقليمي دورة التطور التاريخي العام السابق وقوانينه، في حيز جغرافي أصغر، ومع الصراعات السياسية المركبة المحلية والمناطقية.

ولهذا لا بد أن تــُؤخذ هذه الظاهرات بشكل ملموس، وسوف نراها في تتبعنا للعمليات الفكرية الجديدة من وعي الفرق والفلاسفة والاتجاهات الفكرية.

كما أن الوعي الظاهري للدين يتعدد فقد تعدد كذلك الوعي الباطني، وغدا في درجات ومستويات، ولهذا تداخلت الفلسفة الدينية والفرق الفكرية السياسية، وصارت أنماطاً لوعي باطني متعدد.

ولكن لم تتداخل أنواع هذا الوعي الباطني في هذه المرحلة، ونأت أنواع الوعي الظاهري عنها مؤقتاً، أي لم تصبها العدوى الشاملة بالاهتمام بالباطن؟

إن ذلك يعود في البدء إلى المناطق الاجتماعية المشتركة التي نما عليها كلا النوعين، فهي المناطق التي قلنا عنها، انها مناطق الشمال الزراعي، ويمكن إضافة ا لآن بدرجة محدودة وتالياً بصورة واسعة، المناطق الزراعية في القسم الجنوبي من العالم الإسلامي والعربي كاليمن والبحرين وأقسام من الهند، فهذه المناطق أخذت تستعيد استقلالها وحركتها الفكرية والسياسية الخاصة عبر التفسير المختلف، عبر الحفر تحت النصوص.

إن هذه العملية من التأويل الباطني، سوف تتمسك بالثوابت الدينية الظاهرية شكلاً، وتعيد النظر فيها مضموناً، على درجات وتباينات شديدة من إعادة النظر هذه.

إن هذه الأعادة ستغدو أدوات الحركات السياسية الجديدة وهي تحصل على نفوذها بين الناس وعلى الأرض. وقد استطاعت ا لاتصال بالناس والنمو بينهم بسبب أزمة ومن ثم انهيار الإقطاع المركزي وظهور الأقطاع اللامركزي وشظاياه السياسية المختلفة، أي عجز مركز السلطة في بغداد ثم المراكز الإقليمية على السيطرة وعلى تكوين وحدات بدوية عسكرية كبرى موالية، فقدت الأجسام الريفية، بشكل دول ومناطق، في الاستجابة لحركات التمرد والثورة والفوضى.

من هنا كانت ما سميت بالحركات الباطنية تحصل على نفوذ سريع وقوي في هذا العصر، فالأمر لا يعود إلى قدرات هؤلاء الدعاة على التعبئة والتحريض بل أيضاً في وجود أرضية موضوعية مؤاتية. فالمركز في بغداد كان غير قادر في بعض الأزمنة على ضبط حتى سواد العراق، مما يعبر عن تلاشي السطوة، وبالتالي ظهرت ظروف يستطيع فيها الفلاحون رفع رؤوسهم والبحث عن أنظمة جديدة، أي توظيف فوائضهم الاقتصادية في تطوير حياتهم ومناطقهم.

ومن هنا احتاج هذا التململ والكفاح إلى أفكار باطنية جماهيرية، أي إلى صياغات للتمرد بشكل مفهوم لجماعات واسعة، ومن هنا اشتغل الإماميون والإسماعيليون والقرامطة بشكل دعائي واسع، أي عبر صياغة أفكارهم بلغة شعارية مفهومة للسواد الأعظم، فعلى الرغم من انبثاقها من مواد المسلمين المقدسة، فإنها تقوم بإعادة النظر فيما عد ثابتاً وأبدياً.

إنها تؤكد ان هذا الظاهر خلفه باطن عميق، ويقال ذلك لأن التطبيق المستمر والطويل للظاهر لم يؤد إلى تحسين أحوال هذا الجمهور المستعبد الفقير، فأين يكمن الخلل؟ هل هو في الدين وشعائره أم في أنه لم يطبق تماماً، وقامت القوى المسيطرة على فهمه وإعادة إنتاجه بتحريفه، والعمل بالظاهر فقط وترك الباطن وهو مستودع الاسرار.

(وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله على عباده وسنها نبيُّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة فأمثال مضروبة، وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل، وفيها النجاة).

لقد قالت قوى الظاهر: إن التمسك بالظاهر هو المنجى من كل الشرور ولكن مآل الحياة لا يدل على ذلك. ولكن من يستطيع كشف الباطن وكيف؟ هنا أخذ الباطن والمستور يتحول إلى سلطة، مثلما ان الظاهر صار سلطة مستغلة مستمرة، وكما وجد في أساسيات الإسلام أداته الفكرية ليكون مقبولاً، وهذا أمر لا بد أن يتشكل عبر فئة المثقفين، فإنه لا بد له أن يجد مظلة اجتماعية قائدة في أسر الأشراف، ولهذا كان العلويون وسلالتهم هم هذه القيادة الاجتماعية.

إن تناسج قوى المثقفين والأشراف في هذه الحركة، الباطنية، يعيد إنتاج سيرورة التفاعل بين الوعي والإقطاع. فعلى الرغم من أن مادة الثورة البشرية هم الفلاحون في المناطق الأولى، وهم المستهدفون زعماً بتحويل أوضاعهم، فإن القيادة تكمن لدى أسر الأشراف، أي في الإقطاع الكامن. فهي حركة لا تستهدف زوال الإقطاع بل تعددية سلطاته، أو تغيير اسم الاسرة الإقطاعية الحاكمة.

وقيام هؤلاء المثقفين بجعل الحركة في أيدي الآئمة المستورين يرينا جسم القيادة اللامنظور، وهي توضع في رأس الأسرة الإقطاعية المطلقة التصرف، حيث الولاء المطلق للاتباع في المناطق المقهورة، وحيث يقسم التابع يمين الولاء، وتغدو الحركة الاجتماعية تابعة لمركز غير منظور، هو فرد مطلق مهيمن، سيقوم بالاستيلاء على اشتراكات ثم أرض وخراج هؤلاء الفلاحين، فيعيد إنتاج النظام الإقطاعي تحت اسم أسرة مختلفة. أي أن الحركة الباطنية هنا لا تعتمد على النظر في الأرض الزراعية وتقسيمها وتمليكها للفلاحين، وإطلاق الحريات الفردية والجماعية في مجتمع حر، بل تبقي تلك الظروف السابقة وتعتمد على جعل الموارد في خدمة الإمام اللامنظور.

 إنها في المناطق التي اعتمدت على تجارب ثورية سابقة كثيرة في التعاون، كسواد العراق، تقيم مشاركة لكن هذه المشاركة لا تبدل علاقات الإنتاج، فتقوم بتوزيع الأراضي، بل هي تجعلها في خدمة سلطة جديدة فيها حلم التغيير والعدل، لكن السلطة الجديدة حينما تأتي توظف هذه المداخيل والثروة في استمرار الوضع الراهن ولمشاريعها السياسية والبذخية. أي تعيد إنتاج الإقطاع المذهبي بصورة أخرى.

إن عجز الفلاحين من التحول إلى قوة ثورية تعمل لمصلحتهم بشكل عميق، كما حدث مثلاً في الثورة البابكية الإيرانية، يعود لطابع الوعي الديني المنشور في هذا الفضاء، حيث يتشكل عبر هيمنة الإمام اللامنظور وشبكته السياسية، التي تخضع حركة الفلاحين لمصلحتها ولتكتيكاتها السياسية، فلا تجعلهم يلغون السلطات الأبوية والعشائرية والذكورية والاستغلالية، كما جرى في ثورة الفلاحين الإيرانية سابقة الذكر، بل تجعلهم يحافظون عليها، أي يحافظون على بنية الإقطاع بمستوياتها الاجتماعية، فلا يحدث التغيير إلا في المستويين السياسي والإيديولوجي.

إن الفلاحين هنا يقومون بإعادة إنتاج استعبادهم، عبر الانتقال من مالك إلى آخر، عوضاً عن أن يقاوموا بنية التبعية للمالكين السياسيين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 04, 2022 13:27
No comments have been added yet.