سرقة الأفكار كسرقة الصفراء والبيضاء … الملكية الفكرية في التراث العربي – مقالي في ضفة ثالثة
سرقة الأفكار كسرقة الصفراء والبيضاء … الملكية الفكرية في التراث العربي
إنّ إجالة النظر بواقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، يكشف مقدار تردّيها على الرغم من كثرة القوانين والمؤتمرات التي أقرّت هذه الحقوق. وكأنّ واقعنا هو استمرار لنظرة تاريخية كانت تزدري تلك الحقوق، ولم تكن ترى فيها إلّا مشاعًا يغفل حقّ المؤلف، الذي تُرك لأهواء الملوك والخلفاء في مكافأته أو معاقبته على تلك الإبداعات!
عُقد المؤتمر الأدبي العالمي في باريس1 في عام 1878. وقد ألقى فيكتور هوغو خطابًا كان له تأثير كبير على التنظيم القانوني لحقوق المؤلف الفكرية على صعيد فرنسا والعالم. كان هوغو يعتقد بأنّ الأعمال الأدبية تصلح لأن تكون لها حقوق ملكية كغيرها من الأشياء التي تملك وتورّث. لم تكن الأعمال الأدبية والفنية عبر التاريخ محلًّا للملكية، رغم أنّ الإنسان قد وعى دوره في إنتاجها. وقد تجلّى هذا الأمر بالنظرية التي كانت تفسّر كيفيّة خلق هذه الأعمال. لقد أرجعوا مصدريتها إلى الميتافيزيق، كربّات الإلهام عند الإغريق، أو جنّ وادي عبقر عند العرب، لا إلى عبقرية المبدع. وهذا دليل على المنحى التشريعي الذي حكم على الإبداعات الفكرية بإخراجها من حقوق الملكية. إنّ ما يتم إلهامك به من هذه القوى، ليس ملكك كالأشياء التي تحوزها بالعمل العضلي، أو التجاري، أو غنائم الحروب، فلذلك لا يحقّ لك حيازتها وتملّكها. إنّ سخرية الأقدار تجاه المبدعين كانت قد أقرّت تلك الحقوق قبل المؤتمر الذي خاطب به هوغو المجتمع الأدبي. فقد احتجّ سقراط2 على محاكميه، بأن قال: إنّ وحيًا أمره أن يفعل ما رتب له تلك المحاكمة، وكأنّه يومئ لقضاته أن يحاكموا ربات الإبداع! لم يلتفت محاكموه لقرينة سقراط التي تؤيّدها الأعراف والتقاليد، بل جرّعوه الشوكران ثمنًا لكلماته. هذا الثمن المهول مازال يطال كلّ مبدع تخرج كلماته عن قطيع الرقابة. لقد كان الشوكران بمثابة الموت الرحيم مقابل ما يتعرّض له المبدعون من إعدامات جسدية وفكرية عبر الأزمنة. إنّها سخرية سوداء عندما نجد أنّ حقوق الملكية كانت قد أقرّت للمبدع من قبل الأنظمة الديكتاتورية، لكي تدينه، لا لتكافئه.
حلّل هوغو في خطابه البنية القانونية التي تعتبر الملكية الفكرية ملكية عامة، وليست ملكية خاصة، ورأى أنّ هذا المنحى القانوني يهدف إلى السيطرة على الكاتب، فمصادرة ملكيته يعني أن تصادر استقلاله. إنّ القول بأنّ التفكير ملكية عامة، وهو لا يصلح لأن يكون محلًا للملكية الخاصة، ماهو إلّا نتاج للخلط بين التفكير كميزة بشرية، والفكرة المنتجة عنه، والتي هي ملكية شخصية يجب أن تصان، وإن عدم النظر إليها كملكية خاصة ينقض قوانين الملكية، فالكلمة تتحوّل إلى كتاب، والكتاب يباع ويشترى.
لقد جادل هوغو بقوٍّة دفاعًا عن حقوق الملكية الفكرية. و قد نال تصفيقًا حارًا، وكان لخطابه أثرٌ في إقرار اتفاقية برن لحماية المصنّفات الفنية والأدبية عام 1886.
لم يكن كلام هوغو آتيًّا من فراغ، فقد سبق ذلك محاولات عديدة لإقرار حقوق الملكية الفكرية، كقانون الملكة آن 3 الذي أعطى للكتّاب الحق الحصري بطباعة مؤلفاتهم، في حين كان الأمر قبل ذلك متروكًا لمنحة من الملك بأن يصدر مرسومًا يقضي بالحقّ الحصري للمؤلِّف بطباعة أعماله. هذه القوانين على الرغم من أهميتها، لم تكن ترى فعليًّا في حقوق المؤلف، ملكية ترقى إلى طبيعة الملكيات المادية، كأن تورّث. وقد أشار هوغو في خطابه إلى هذه النقطة الحاسمة.
نوّهنا ببداية هذا المقال إلى تردّي واقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، قياسًا إلى ما وصلت إليه في بلاد العالم الأخرى، لكن النظرة الموضوعية إلى تراثنا تناقض حالنا الآن! فالإرهاصات النظرية والعملية لنشأة حقوق الملكية الفكرية كانت من الوضوح بمكان في تراثنا الثقافي.
عندما التفت العرب إلى تدوين أشعارهم التي قيلت في جاهليتهم، كانت إحدى الجوانب التي تنبّهوا لها تكمن في أسبقية القول. وقد كان عنترة في بيته المشهور -هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ/. أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ – لسان حال الجاحظ في سؤال ممضّ عن مَن سبق إلى القول، لذلك علّل الجاحظ بأنّ: “المعاني ملقاة في الطريق يعرفها العربي والعجمي” وهو يمهد بذلك إلى أنّ الشعر صناعة تقوم بأشياء أخر يتفوّق فيها شاعر على شاعر، فتنسب إليه: “وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وجودة السبك، فإنّما الشعر صناعة”. والجاحظ في ذلك ينتصر للصنعة والفنّ. هذا المنحى في التفكير يفسّره خبر جاء في الأغاني بأنّ بشار بن برد غضب على تلميذه سلم الخاسر بعد أن انتحل بيته التالي: مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ/ وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ. قال سلم: مَن راقَبَ الناسَ ماتَ غَمّاً/ وَفازَ بِاللّذَّةِ الجَسورُ.
وقد جاء في الأغاني حواريّة قد جرت بين بشار وسلم تظهر مقدار الوعي تجاه حقوق الملكية الفكرية. يقول بشار: “أفتأخذ معانيّ التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظًا أخفّ من ألفاظي، حتى يروى ما تقول ويذهب شعري”.
إنّ تأملًا في قصّة بشار بن برد يذكّرنا بخطبة فيكتور هوغو عن أنّ ملكة التفكير عامة بين البشر، أمّا الفكرة، فهي ملك خاص لصاحبها، لا يحقّ لأحد أن يستولي عليها وينسبها لنفسه.
لقد ذمّ العرب السرقات الأدبية، أكانت بالمعنى أو باللفظ. وهذا ما نجده ظاهرًا بوضوح في المقامة الشعرية للحريري، التي نستطيع أن نعدّها بيانًا رائعًا عن الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية4: “واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء. أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء. وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ. كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ”. إنّ المماثلة بين استراق الشعر الذي هو صنعة فكرية وسرقة المال من ذهب وفضة، دليل واضح على تجذّر المفهوم الذي يعدّ الفكرة ملكية كغيرها من الملكيّات.
تعود عناية العرب إلى هذا الجانب الفكري من الملكية إلى الصراعات السياسية، فأصبح الاستشهاد بخبر أو حديث قرينة تثبت حقًّا أو تنفيه، فكان من الضرورة التأكّد من صدق الشاهد الناقل للخبر أو الحديث. إنّ نظام العنعنة أو المنهج النقلي في إيراد الخبر كان له ضوابطه التي تقوم على ضبط الإسناد متنًا وهامشًا. وما تقسيم الأحاديث بين متواتر ومشهور وآحاد إلّا من باب التدقيق المنهجي على صحّة الخبر. وعندما شاعت الوراقة ظهر ما يسمى الاستملاء، حيث يجلس الفقيه ويلقي بعلومه على مجموعة من الكتبة لا يجوز لهم تداول ما استنسخوا قبل أن يقرأه الوراق على معلّمه ويجيزه. قد يكون نظام الإجازة من أهم الخطوات نحو تأكيد الملكية الفكرية، فلم يكن يحقّ للناسخ أن يباشر بنسخ كتاب ما وبيعه قبل أن يجيزه مؤلف الكتاب بوثيقة مكتوبة، تسمح له بالنسخ والإتجار.
هذا الأمر الواقع في التحقّق والإسناد، امتد ظلّه إلى الآداب والعلوم والصناعات. ولقد ذكرت الباحثة صباح الشخيلي5، بأنّ الحرفيين والصناعيين لجؤوا إلى إعادة مبتدأ الصناعات من حرف وزراعة إلى الأنبياء والأئمة. وإذا استقرأنا هذا الخبر نجد بأنّه ليس إلّا دفعًا للخلافات بين المشتغلين بتلك الحرف، وذلك بجعل مبادئ تلك الحرفة مشاعية تتحدّر من مصدر مقدّس، فلا يحقّ لأحد احتكارها، لكن النظر في عملية تنسيب الصنائعي لأحد المهن والحرف التي تقتضي منه الالتزام بآدابها وأسرارها يكشف لنا تنبّها للملكية. لقد ضاعت أسرار الكثير من تقاليد تلك الصناعات في تراثنا لعدم إفشائها للعامة. أمّا النتيجة التي نخلص إليها، بأنّهم وإن أظهروا مشاعية مبتدأ أصول الصناعات والحرف، إلّا أنّهم حافظوا على ابتداعاتهم الخاصة، وجعلوها في موقع الأسرار التي لا يجب إفشاؤها أبدًا. لقد كانوا بشكل مضمر يقرّون بالملكية الفكرية، لكن أمام عدم القدرة على حمايتها مهروها بالسرّية.
تظلّ الملكية في الصناعات والحرف مادية أكثر منها معنوية، لكن عندما نسمع صرخة العلماء بأنّ: “آفة العلم خيانة الوراقين” وهم النسّاخ الذين لا يتقيّدون بأصول النسخ حرفًا ومعنى، نفهم سبب ظهور الكتب التي تناولت السرقات الأدبية. ألم يكتب السيوطي كتابًا يفرّق فيه بين المصنِّف والسارق. وها هو المسعودي يوجه رسالة في مقدمة كتابه؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، للحفاظ على حقوق الملكية الفكرية ممّن ينتسخ كتابه أو يستعمله: “فمن حَرَّف شيئًا من معناه، أو أزال ركنًا من مبناه، أو طمس واضحة من معالمه، أو لبَّسَ شاهدة من تراجمه، أو غيره، أو بَدَّله، أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، فوافاه من غضب اللهّ وسرعة نقمته وفوادح بلاياه ما يَعْجَزُ عنه صبره، ويَحَار له فكره، وجعله اللّه مُثْلَةً للعالمين، وعبرة للمعتبرين، وآية للمُتَوسِّمين”.
إنّ وعي حقّ الملكية جعله أساسًا للدعاوي القضائية، فقد ذكر الخطيب البغدادي العديد من الدعاوي، حيث يتنازع الناسخون على مخطوطة ما بأنّها بخطّ فلان، فيحكم القاضي وفق قرينة مضاهاة الخطوط، أو يتنازع مؤلفان على الأسبقية في تأليف مخطوط ما، فيلجآن إلى القاضي ليحقّ الحقوق، فقد ذكر البغدادي بأنّ قاضي الكوفة حفص بن غياث قد تحاكم إليه رجلان يدعي أحدهما على الآخر سماعًا منعه إياه، فأمر القاضي المدعى عليه بأن يُخرج ما دوّنه من سماع في كتبه، وقال: “فما كان من سماع هذا الرجل بخطّ يدك ألزمناك، وما كان بخطّه أعفيناك منه”. وأمام هذا الوعي الجلي بحقّ الملكية الفكرية لن نستغرب أن نجد في مقدمة كتاب البيروني؛ الجماهر في معرفة الجواهر، هذا التوضيح الذي يرفع عنه السرقة ويؤكّد حرصه على حقوق الملكية: “ولم يقع لي من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه”.
لم يصل العرب في تراثهم إلى مرحلة حقوق الملكية كما نعرفها الآن. ولم يتبادر إلى ذهنهم بوضوح، الفكرة التي طرحها هوغو عن حقّ المؤلف بتوريث حقوقه الفكرية إلى ورثته والاستفادة منها ماديّا، لكنّ التطبيقات العملية التي أوردنا بعضها في المقال تشي بوعي مهمّ لمفهوم حقوق الملكية الفكرية.
المصادر:
خطاب الروائي الفرنسي فيكتور هوجو حول الملكية الفكرية 1878. ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري مجلة فكر الثقافية العدد 26 لعام 2019.المحاورات، أفلاطون، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1994.https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%D9%D9%D9%8A%D8%A9_%D9%D9%D8%B1%D9%8A%D8%A9مقامات الحريري، دار بيروت للطباعة والنشر.الأصناف والمهن في العصر العباسي، نشأتها وتطورها. د. صباح الشخيلي -بيت الوراق للطباعة والنشر.باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
