عبـــــــدالله خلــــــــيفة : خليجُ الأرواحِ الضائعةِ

ـ فصول من الرواية

للأرواحِ نفثاتُها على هذه المياهِ المشتعلةِ ولهمامِ جسدهُ الصلبُ المنغرس في الخشبِ والأرضِ، سفنٌ كثيرةٌ نزلتْ إلى الأعماق، أجسادٌ كثيرةٌ لم تُكفن وهي تُحاصرُ بين الأشياءِ المحطمةِ والأشلاءِ، أجسامُهم صارتْ جزءً من الأعشابِ والأسماكِ والمحار والقواقع.

سألتهُ القوقعةُ وقروشُ البحر من أكثر خلوداً أنا أم أنت؟ الموجُ يدقُ الخشبَ، ظلمةٌ كاويةٌ وهو يرى خرزَ النور، الحمولةُ ثقيلةٌ والأخطارُ شديدةٌ، والبحارةُ أغرابٌ، والأنصالُ قريبة.

الرجالُ السمرُ الذين وحدَّوا النورَ والظلامَ في أجسادِهم، والمياهَ المالحةَ والمياهَ الحلوةَ، أصداءَ السحرةِ والموتِ وحريةِ الحقولِ والعصافير.

السفينةُ في ظلمةٍ شديدةٍ، والذهولُ يخيم على البحارة، ومنظارهُ يمسحُ الوجودَ، والنجومُ خيوطُ الضوءِ التي يعرفُها ويمشي على هدبِها، ثمة بقعٌ صغيرةٌ من السوادِ الجامد المُنتظر، الأمواجُ تُرقصُ الخشبَ والحديدَ ولا تحركهُ، امتدتْ يداهُ خريطةً من العروقِ ممتدةً من النخيلِ المترامي الحضورِ في الأرضِ حتى جريد المصائد الكثيفة المحبةِ للسمك.

يعودُ همامٌ بذاكرتهِ للوراء.

في بيتهِ في دارين، في غابةِ القواربِ والسفنِ والأكواخِ والبيوت الصغيرةِ والسعفِ المشاكسِ والحجرِ شقيقِ البحر، جاءهُ رجالٌ كبارٌ ومضوا بهِ إلى الوالي التركي، لم تكن العيونُ والسيوفُ والبنادقُ والمبنى الهائلُ في جوفِ الصحراءِ وغابةُ الحيواناتِ الذائبةِ في الرمال ، بقادرةٍ على هزِ شعرةٍ من روحه.

الوالي متوترٌ، والمبنى المهيمنُ على الجبالِ والأرواحِ والظلال يرتعشُ خوفاً، امرأتهُ الحريريةُ البيضاءُ كالقشدةِ عاصفةٌ من الحركةِ والآهات، تضمُ طفلَها بحنانِها الحار، وتنزل من الطوابقِ العليا إلى التربةِ الصفراء ورمالها المتحركة، تقتربُ من الجِمال اللامبالية التي تمضغُ بقايا العشب بمحبة، تمشي بقربهِ وصوتُها يختنقُ وهي تقتربُ من البوابةِ والصحارى بأشداقها المفتوحة.

يقتربُ همام من قلبِ العاصفة، من المجلسِ الكبيرِ الذي لم يدخلهُ أبداً وصارَ مشاعاً، أناسٌ تحملُ الكراسيَّ الضخمةَ الخشبيةَ المنقوشة بفسيسفاءٍ زجاجيةٍ عميقةِ الألوانِ الخافتةِ المضيئة، الصورُ الكبرى للسادةِ العظامِ التي لم تنزلْ للسجادِ المغبرِ أبداً، هي الآن مكومةٌ على بعضِها البعض، تبدو شظايا من وجوهِها، وشواربُها مقطوعةٌ ، وعيونُها وحيدة.

الوالي ناظم بك يتكلم بتوترٍ مع حراس.

لمحهُ وهو يدخلُ في طوفانِ المتاعِ المتحرك، شيءٌ يبدو منهُ ويغيب، الأشياءُ تبدو ثمينةً، ذاتُ روائحٍ غريبةٍ مفعمة بالأناقةِ والأصالةِ والجدة، الوحيدةُ التي لا تلامسُ الغبار، حراكُها من المبنى الهائلِ القوي نحو رمالِ الصحراءِ المتحركةِ يبلبلهُ ويؤلمه، أشارَ عليه المسئولُ بالاقتراب، دخلَ همام شيئاً من الزوبعة، تكادُ الصناديقُ السائرةُ نحو المجهول أن تضربه، والخدمُ يؤشرون ويهمسون كأنهم مُلصَقون بهذه الأشياء، وهم يُخدشون ويَسقطون فلا يتذمرون، وتُسلم الصناديق، نهرٌ من الكتلِ يمضي نحو الشمال ، هو الهربُ الواسعُ المجهول.

يتطلع ناظم فيه. الآن يتمكنُ من إلتقاطِ ملامحهِ بوضوحٍ بارق، الوجهُ الأبيضُ المُحَّمر، الوسيم، ذو الشاربِ الكثيفِ وخطا الحاجبين الدقيقين اللامعين، والوجه العريض الهادئ ذو البروق النابضة من الأسى والتساؤل والحيرة، والفم الصغير المطبق، تجعله يتناغمُ بقوةٍ بهذه الشخصية النائية العالية البعيدة لسنين.

يتكلمُ بثقة وقوة:

– سيد همام أمامك مهمة كبيرة وخطيرة، عليك أن تنقلَ بضاعةً ثمينةً فلا تحاولْ أن تفتحَ الصناديق وأن تعرف ما فيها، أرحلْ بها سريعاً إلى الشمال حيث ميناء الكوت، هناك سوف يتسلمها منك مسئولٌ من قبلنا. هل تقدر على ذلك؟

أبصارُ الرجالِ الكبارِ تحدقُ فيه، وجوُهُهم المنتفخةُ من النِعم، وشواربُهم الكثيفة، وطرابيشُهم وعماماتُهم كلها ترسلُ إشعاعاتِها نحوه، كأن الإمبراطوريةَ كلها تتوقفُ على كلمةٍ منه.

– سوف تواجهكَ صعوباتٌ كبيرةٌ خطيرة، المياهُ الملبدةُ بالاحتمالاتِ والغيومِ والألغامِ والسفن، البحرُ كلهُ في غليانٍ ، فهل تقدر؟

– نعم.

بهدوءٍ وكبرياء قالها رغم وشوشة الحذر داخله، ومرآى سفينة ابيه الراحلة في الغمر، وأخوه المتمرد عن ظل الأب، ورؤاهُ الحلميةُ المغمورةُ بالأشباحِ والجنيات وبالصحارى الملأى بالأطيافِ والقبائلِ الهاجعةِ الجائعةِ، وبدا له إنه سيدُ البحر لا أحدَ ينازعهُ على سفنهِ الخشبيةِ المسكونة بالرياحِ وقوى الأسلاف.

لهم أن يتطلعوا إلى بعضِهم البعض بشكٍ ودهشة، وتتدلى أطيافُ إبتساماتِهم من وجوههِم، وينظروا إلى ثوبهِ المغزول من طينِ الترابِ وسعفِ الحقول وريشِ الطيورِ بإحتقارٍ، وإلى هيكلهِ النحيف ولخريطةِ عظامهِ الناتئة في خيمةِ القماشِ الأرضي الملوثة، بمشاعر من الهزء والذهول.

     – أتعرف يا سيد همام لم أجدْ غيرَك في هذه اللحظةِ الرهيبة، توجهتُ لأبيك فكان قد غادر اليابسة، عائلتكم كانت دائماً ملاذي في مهماتِ البحر، تلمستُ رباناً آخر من هؤلاء الصناديدِ الذين أمتلأتْ أجسامُهم بالنوى وأخاديد سيوفِ قروشِ البحر وبآثارِ الرصاصِ فكلهم تهربوا! يا إلهي لم أظن إن حالةَ الرعب وصلتْ إلى هذه الذروة، وكلمني أحدُ موظفي بإن ثمة شخصاً من عائلة جبر قد يقدر على القيام بهذه المهمة. ودهشتُ أن ثمة رجلا آخر من هذه العائلة التي لا تنفد من الرجال الشجعان، وكان الأبُ العملاق يحجب كلَ شيء! ولم تتأخر يا رجل!

 كانت الثلةُ تهمسُ لبعضها:

– هل هو أخرس؟

– لا بد من إرسالِ مجموعةٍ معه، ربما ذهبَ بوديعتنا إلى جهةٍ مجهولة!

– إنه محل ثقة، أطمئنوا.

في تلك اللحظةِ دخلتْ المرأة، حجابُها الخفيفُ لم يمنعْ ثورةَ شعرِها، وجهُها براقٌ، ألقتْ عليه نظراتٌ ساحرة، إندفعتْ إلى ناظم، تطلعتْ إلى ناظم المغمور بنورِها، أشارتْ إليه، لم يسمعْ كلماتِها لكن صوت الوالي كان جهيراً:

– لا، ليس هو الذي سوف يأخذكم.

الهواءُ الحارُ، الغبارُ الكثيفُ الانتشار، السماءُ الممحيةُ الألوان، الطرقُ المفتوحةُ على كلِ إحتمال، والمرأةُ تدخلُ وابنُها الصغيرُ جوفَ العربة، وحراسُها على صهواتِ خيولِهم، وبنادقُهم جاثمةٌ وراءَ ظهورِهم، وهو يضعُ الصناديقَ على ظهورِ الجمال، والبريةُ

الواسعةُ الضاريةُ تراقبُ الجميعَ ، وتفتحُ أذرعَها المتوهجةَ لاحتضانِهم، ويندفعُ متأخراً وراء تلك القافلة القوية التي تهز الأرض.

بدا له أن يمضي في دربٍ آخر، أقصر وأسرع للشرق، لكن طريق المرأة سلبَ حسَهُ، الرجالُ الحراسُ، الدليلُ البدوي ذو النظرات القلقة، أيقظتْ شكوكاً غريزيةً مبهمة، وراح يغذُ السيرَ بسرعةٍ كافية وراء خطى الجماعة، ورجاله المشككون لم يكن لديه وقت لنقل الأسئلة إلى رؤوسهم.

اللحمُ البشري السائرُ بين التلال، مضاربُ القبائلِ المتناثرةِ قرب الأوديةِ، الأراضي المقفرةُ إلا من أشجارٍ قليلة، ثم تتراءى البقعُ الرماديةُ لقماشِ الخيامِ المفتوحةِ على الهواءِ، وتومضُ بضعةُ آبارٍ، وتتدفقُ أراضٍ بها بعضُ النبات، وتسرحُ قطعانُ النوقِ في الأرض الواسعة، والطريقُ الترابي لا نهايةَ له، وقافلةُ السيدة تصلُ إلى مصيدةٍ حجرية واسعة، وتتراءى نقاطٌ سوداءُ في القمم، وتنزلُ أحجارٌ كثيفةٌ على طليعةِ القافلةِ المذعورةِ التي تصهلُ خيولُها بعنف، ويتساقطُ رجالٌ بين سنابكِها، وتثورُ الرمالُ بينها، وينزل ملثمون من بين الشعابِ مثل الذئاب والثعالب، ويسمعون طلقاتِ نارٍ كثيفة وآهات مروعة، وهو يجري مستطلعاً يزيحُ طبقاتِ الترابِ المتعالي الثائر، وينصتُ للكلماتِ النادرةِ المنفجرة، ويرى اللصوصَ يقتربون من جوهرةِ القافلة ومن الصناديق الثمينة، وبضعةُ حراس يقاومون ويُجندِلون بعضاً من المهاجمين الكثار الممطرين سيول النار، والمنهارين من بين الأحجار، والمتسللين قرب العربة والإبل الصائحة المروعة.

إقتربتْ جماعةُ همام منه، وجوهُهم إمتلأتْ كرهاً وقلقاً، وتحفزتْ أجسادُهم، لكنه رفعَ يدَهُ، راحَ يفكرُ هل يحيدُ عن مهمته؟ وجه السيدة يقلقُ مشاعرَهُ، طفلها يبكي في قلبه، والجِمال وراءه عليها الصناديق الثمينة، ذات الأسرار، لن تأتي لحظة أفضل من ذلك لُينقذَ أثمنَ الأشياء عند الوالي. لكن من هو الوالي حقيقة؟

وبدا أن الرصاصَ قد نفدَ من المدافعين، ويبدو أن لغةَ النارِ الكثيفةِ المجلجلةِ دوتْ في البرية، وأن القبائلَ السارحةَ، ومجالسَ الكلامِ والحكايا والرباباتِ العازفةَ على أوتارِ القلوبِ الممزقة، والرعاةَ الجاثمين على الصخورِ يغزلون الشعرَ وآهاتِ النايات وحتى النسوة جامعات الحطب والأعشاب اليابسة، كلهم سيندفعون للغنائمِ المتبقيةِ من الأتراكِ المثقلينِ من المكوسِ والضرائب والجزى، سيجدون بضعةَ خواتم يقطعونها من الأصابعِ المتمسكةِ بها حتى والجثث تتحشرجُ، أو يعثرون على قلادةٍ ما نزفتْ على التراب، أو قطعاً من الليراتِ الذهبيةِ تاهتْ من الأكياسِ القابضةِ بقوةٍ على أنفاسها.

ليكن ما يكون!

تلك المرأة وذلك الطفل أثمن لديه من كل الكنوز والعطايا والمكانة الرفيعة في الشمال!

حين خمدتْ لعلعةُ الرصاصِ وتحولَ البارودُ إلى بقايا دخانٍ يتموجُ في الفضاء، وجاءتْ الحشرجاتُ الأخيرةُ لضحايا الغدرِ والنداءاتِ المستجيرةِ لمرتكبي العدوان، وبدأتْ الصناديقُ تسقطُ من فوقِ ظهورِ الجمال، والمطارقُ تضربُ الأقفالَ بحدةٍ مسعورةٍ، وسُمعتْ اللغةُ الرقيقةُ المنزعجةُ الباكيةُ للمرأة، هجموا على الذين فتحوا الصناديقَ بفرحٍ صبياني مبهور، وغرفوا من أكداسِ الليرات الذهبية بأيديهِم الملوثةِ بالدم لا تزال يرفعونها في الضوءِ بجنون المُعدَّمين الذين يشارفون على الثروةِ فجأة، كانت الرصاصاتُ تنتزعُ آخرَ لحظاتِ السعادةِ في حياتِهم، ويترنحون بأسىً وألمٍ مَذهولين من إنطفاء الأحلام والحياة معاً.

وهم ينتفضون برمقِِ أعضائِهم الأخيرةِ ويهزون التربةَ وآخرون يولولون ويطلقون بغضبٍ وفوضى النارَ، تتقدمُ بينهم النعالُ الصلدةُ وكعوبُ البنادقِ القاسيةِ وتُطلقُ عليهم رصاصاتُ الرحمةِ فيسكنون على الترابِ كلياً بعد حراكٍ طويل، كانت ثلةٌ قد أحتازتْ العربةَ وراحتْ تحركُها بخللٍ بَينٍ، العجلاتُ تدوي وتحفرُ الترابَ، ويدُ المرأةِ تضعُ بصمتَها المرتعبةَ على الزجاج، وهمام وجماعته يتقدمون بحذرٍ من السائق والخاطفين الذين وضعوا أسلحتَهم على ذلك اللحم الرقيق الباكي مهددين، وإندفعتْ العربة وهزتْ الأرضَ الصحراوية بعنف، والخيل تجري وراءها ثم تثقب إطاراتها وتقف بقوة.

2

هي دارين التي خرجَ منها. نقطةٌ صغيرةٌ تضاءلتْ وغطستْ وراءَ البحر، هو الربانُ الكبيرُ أحمد بن جبر خرجَ بسفينتين كأنهما أسطول، البحرُ الأزرقُ الواسع يفتحُ ذراعيَهِ، وبدتْ الصحارى الترابيةُ اللامتناهيةُ وراء تاروت متجهمةً تدورُ فيها دوائرٌ كريهةٌ من الغبار، الجزيرةُ تلويحةٌ خضراءُ بين الصخور، تشمخُ النخيلُ ورأسُ القلعةِ ينزل لقعر المياه.

النوارسُ تعرفه، تمشي مع زبدهِ الكثيفِ نهرِ البياضِ السائرِ في البحر، تلتقطُ السمكاتِ الصغيرةَ الهاربةَ من قبضاتِ شباكهِ، تحطُ قربَ رجالهِ، المشغولين بنسجِ الحديدِ وتحويل الأقفاص إلى مصائد مشبعةٍ بطزاجةِ الحشائش، إزاراتُهم الكالحةُ فقدتْ ألوانَها، وأيديهم وأرجلُهم تتغلغلُ بين الخشبِ والحديدِ والنوى، يبدون طيوراً تلتصقُ بالصاريين والشراعين وتغوصُ في المياهِ بين الأحجارِ والسلاحفِ والأسماكِ والشعابِ المرجانية والحياة السرية الخالدة الساحرة في الأعماق، الإزاراتُ أجنحةٌ أخرى تبدو في القعرِ والأجسامُ شبهُ عاريةٍ ملتحمةٍ بالحديدِ النازلِ على التربة.

الحشائشُ تطفو أبسطةً خضراءَ يدغدغُها الموجُ نحو الشواطئ، وقناديلُ البحرِ تمشي نحو هلاكِها على التراب تتحول إلى جمرٍ في إيدي الصبية.

يجثمُ وراءَ الدفة، البحرُ كله في صحنِ نظره، ثوبٌ أبيضُ وكوفيةٌ ملفوفةٌ على الرأس، ويدان من حبالٍ وخرائطُ عروقٍ وهواءٌ منعشٌ يلتحمُ بجسده.

منذ متى عرفَ هذه المياه؟

في تلك الجزيرةِ الرابضةِ كسفينةٍ كبيرة ألقتْ مرساتَها في البحرِ وتفجرتْ في المياهِ الحلوةِ وسرحتْ غاباتُ النخيلِ وأشجارُ اللوز والتين والعنب، وجدَ نفسَهُ في بلدةٍ جافة ذات بيوتٍ حجرية وطينية ويجلبُ الأهلُ المياهَ من الآبار والرجال يجثمون في المجالس الواسعة بثيابِهم الملونةِ حسب الطقس الحار اللهيب والرَطبِ والشتاء البارد القارس، لم تعطهم الأجواءُ خياراتٍ كثيرةً فهي تشعلُهم وترطبهم صيفاً وتجمدهم كقوالب الثلج شتاءً.

كانت مخداتُ نومِهم قرب البحر تسمعُ وشوشاته، ومنذ الطفولة قُذفوا فيه فصاروا أسماكاً، أجسادُهُم تلتصقُ بالحراشفِ والقواقعِ وأفاعي البحر والنوى، وروائحُ الزفرِ والسفطِ واليود تخيمُ عليهم، يتجمدون في المجالس بصمتٍ مطبقٍ ثم يُـقذفون للمهماتِ العسيرة، لا يمكن أن يحصلوا على فسحةٍ صغيرة للألعابِ والسرحان في القرى القريبة حيث المزارع الواسعة والعيون إلا بإنشغالاتِ الأهل الكبيرة.

والبلدةُ لا تنفكُ تتسع ، وتزدهرُ بيوتُها الكبيرةُ بنساءٍ جديداتٍ ويتدفقُ العيال ، وتمتلئُ القدورُ الكبيرةُ بالأرزِ ويُشوى السمك ، ويجلس الرجالُ في المجالس أو في الأحواشِ على الأبسطةِ ويتحلقون على السفراتِ يهجمون على جبالِ العيش ولحومِ الأسماكِ الطازجةِ التي كانت تتقلب قبل قليل في الأقفاص الحديدية وعلى الأرض ، وحشود من القطط تنتظر الأمعاء وتتقاتل بضراوة وراء الجدران.

أرضٌ وبحرٌ لامتناه ، وخشبٌ يتغلغلُ فيه ، وسفنٌ كبيرةٌ تأتي إليه ، كلُ سفينةٍ لحظةُ حياةٍ كبرى للجزيرة ، حالما تبندرُ يهجمُ جيشٌ من الأيدي على بطنِها الهائلِ المنتفخ ، أو يظهرُ صناديدٌ من جوفِها ، وتُوضعُ خشبةٌ طويلةٌ بين الخشب والأرض ، ويركضُ عليها رجالٌ أشداءُ مهرةٌ يحملون أشياءَ ثقيلة ، وظهورُهم محنية ، ربما وضعوا قطعةَ قماشٍ على رؤوسِهم ، أو إكتفوا بغترِهم الصلبةِ من دبقِ الوسخِ والعرق ، وتفجرُ السفينةُ حياةً في البلدة ، والأكياسُ والخيشُ تجري في الدروبِ تثيرُ حياةً وإهتماماً وحسداً وفرحاً ، تتوجه لمخازنَ معتمةٍ ، تُفتحُ بحذر ، وتتكدسُ البضاعةُ الثمينة ، فيما تتوجهُ بضائعٌ رائعةٌ إلى دروبٍ حاشدةٍ وتغزو دكاكينَ العطارين والحواجين وتفجرُ روائحَ عطرةً في السوق ، وتتدفقُ أسرابُ النسوةِ الملتفاتِ بالعباءاتِ يجربنَّ تلكَ العطورَ القادمةَ من وراءِ البحارِ والمحيطات ، والأولادُ يحملون الأغراضَ أو يقطعون الأسماك ويجمعور القشور.

منذ كم سنة كانت البلدةُ تعيشُ في عروقهِ ، كأنهُ الأمس! منذ أن رعاه عمهُ وكان أبوه ومضاً خاطفاً في حياته ، رآه في الدار مراراً وسمعه يسعل ، ثم أخذوه في ليلةٍ مدلهمةٍ إلى ما وراء الصحراء ، وذهبَ إلى ذلك الغموضِ المتوترِ الحزين عمهُ ، وبعدها إنقطعت أخبار أبيه ، كان معه أخوته وأخواته ، كم من اللحم ومن فراخ يصرخ من أجلِ لقمةٍ ولحافٍ وهو أكبر تلك العصافير ، تبدو له الآن مروعة مأساوية بثيابِها التالفةِ الباهتة الرقيقة وأحاطتها به فصار أباً وأماً لها.

بدتْ لهُ الدنيا حفرةً هائلةً وهو صبيٌّ مرهفٌ سيُـلقى بها ، والبيتُ الكبيرُ ساحةٌ كبيرة ، وعمهُ مشغولٌ بأسرتهِ وعمله ولا يكاد يظهر في ذلك البيت .  لا تزال تلك المشاعرُ الرهيبةُ ومضٌ في روحهِ كأنها لمعاتُ الأنصالِ ، فعلى أي شيء يتعكز؟ حينئذ كانت الصلواتُ المتهدجةُ ، وحفظُ الآياتِ ، وحملُ أولئك الصغار وتنظيفهم وجلب الأكل لهم . لكن عمَهُ لم يتركه وحيداً ، ذلك الرجلُ الممتدُ مع الموجِ والخشب والسفر للبلدان البعيدة إحتضنه ، وضعه بين البحارة وغذا أسرتَهُ الصغيرةَ ، كانت زوجتاه تحتضنانهم وهو يقف ضد أيديهن الغاضبة عليهم ، فرحل ذلك الحزنُ الخاطفُ ورأى أخوته وأخواته يكبرون لا فرق بينهم وبين ابناء عمه ، صحيح إنهم يحتشدون في غرفة صغيرة لكن الحوش والسفرة الواسعة والمياه والرحلات للشواطىء والبساتين لهم جميعاً . كانوا يخرجون مثل أسراب العصافير نحو العين ، ولا يستطيعون النزول إليها لمرأى الدواب العديدة الغاطسة فيها ، والتي يقوم أصحابُها بغسلِها ، ثم بعد أن يذهبوا وتتحرك البقايا ببطء في (الساب) وتتجدد المياهُ يسبحون مع جيشٍ من الأولاد والبنات.

مثلما هو الآن هادىءٌ في سفينتهِ يرمقُ ابنَهُ يقودُ سفينةً أخرى ، وحشدٌ من القراقير يملأها كأنها حديقة من معدنٍ في محيطٍ من الزرقة ، مضى الزمنُ هادئاً رتيباً ، الأقفاصُ تنزلُ وتطفحُ علاماتُها الملونة ، والحشائش تُحصد من البحر ومن الأرض التي ينسحب منها الماء ، والأولاد يكبرون ، وتلك العشش والمصطبات الخشبية في الأحواش تزول ، وتتوسع الحجراتُ وتنمو كأنها نباتٌ من الحصى المتآلفِ مع الأعراسِ والصرخاتِ والضحكاتِ والولادات ، والأحجارُ تأتي في نهرٍ لا يتوقف من البحر ، وكأن البحرَ يُستنزف ويُغرفُ ولا يتوقف عن العطاء ، البحرُ شبهُ إلهٍ هائل هادىء في لحظاتِ طويلةٍ رحيم بالناس ، ثم يغضبُ ويتفجرُ ويلعنُ الخلقَ ولا ينفع ترابُ مزاراتِ النجفِ التي تُلقى فيه ولا التمائمُ ولا القراءاتُ القرآنية السريعة.

البيوتُ تتغذى عليه ، الكائناتُ الفضيةُ والماسيةُ هذه التي تخرجُ من بطونهِ وتتمردُ على الشباك وتنتفضُ فوق الخشب وتُعبأ في المراحل السعفيةِ الكبيرةِ لا تعودُ إليه ، كأنها أطفالٌ تُنتزعُ من أحضانِ أمهاتِها ، تطحنها أسنانُ الناس وتستحيل إلى ورد في الخدود وأجنةً في البطون ، وأعضاء مرهفة لجيوش الأطفال التي تقطف اللوز في غفلة من حراس البساتين!

ثمة بروقٌ غريبةٌ في سماء الحياة الهادئة هذه ، الصحراء تحمل دائماً في كل بضعة سنين مفاجأتها ، إنها تتغلغل في المياه وتعبر المخاضات والخورَ وتدخلُ البلدات ، تبيعُ ما لديها من غنمٍ وإبل ، وما صنعته من يقطٍ وحُصرٍ وسجاد.

للصحراءِ وحشةٌ وهدوءٌ قدسي وفرحٌ خفي ، أمطارُ الأنبياءِ أخصبتها ، رصاصاتُ الأخوة حمتها ، وقوافلُ الجمالِ والقصائدِ الطوالِ وأرواحُ شيوخِ القبائل والملائكة والنساء أخوات الرجال الولادات الخصبات.

البروقُ الآن تتفجرُ وينزلُ مطرٌ وامض ، كائناتٌ من الأشباحِ والقبائلِ وتجار السلاح والخطباء والوعاظ الغرباء وأهل الجهاد والسفن الحديدية العملاقة ، كلها تتجمع في البراري وعلى المياه ، ونسيبه في القبيلة يزوره أكثر مما إعتاد ، يظعنُ من بلدتهِ البعيدة وينزلُ بقافلةٍ من أبلٍ ضامرةٍ تلتهمُ الكثيرَ مما جمعه من برسيم الحقول.

قريبه سلمان يحدثه بأشياء غريبة ، يثير شكوكاً ، وقبل بضعة أيام كان رأسه قرب الجدار يتطلع إليه بعينين مفتوحتين على آخرهما ، وهو ينصتُ له بإهتمام ولا يقطعُ كلامَهُ بسنان.

أيقظَ الكثيرَ من الشكوك ، أطلقَ طيوراً في الظلام ، راحتْ تضربُ بأجنحتِها ذلك الهدوءَ الطويل السعيد.

– كيف سيتزوج عبدالمحسن من تلك القرى؟ أردعه يا نوخذة ، لا تدع هذا الولد يعصي أمرك ويلطخ سمعتنا.

يحبُ كثيراً أن يعودَ للبريةِ وأن يرى الطعوس ويمشي فوقها يتحسسُ خُطى المرسلين ، وأن يجثمَ في خيام المضافاتِ يتحسسُ فراءات الثعالبِ تحته ويلتمُّ بثوبهِ الصوفي ويداه قرب النار ، وأذنهُ تلتقطُ الحكايات المتدفقةَ للشيوخ الحكماء ، وفناجينُ القهوةِ تحددُ الضيوفَ والأعداءَ ودورات الزمان.

يمضي مع سلمان وأخوتهِ وعيالهِ في الصحراء يمتطون الخيولَ ويسرعون جرياً مع كلابهم مطاردين الغزالات المسرعة كالبروق ألوان أجسامها تتموه في الحشائش والتُرب.

سلمان يتساءل:

– كيف لعبدالمحسن أن يتزوج من أناس من غير مذهبنا؟ هل غيرته بعض الدروس التي أخذها من هنا وهناك؟

لم ينزعجْ لتوتراتِ ولدهِ ومغامراته مثلما تمعنَ في هدوءِ همام وحكمته ، لم يضجْ من نارِ هذا ولا من ثلجِ ذاك ، ومشى على رأسِ الجماعةِ يتغلغلُ في قرية البديع ، الآن القريةُ مظلاتٌ من شجر ، بها برودة منعشة ، وأجواء ساحرة ، ويذهل مراراً من كون عيونها القليلة تروي كل هذه الغابة ، ومن كون تربتها تحول القطرات القليلة للمياه إلى جنان بسرعة مذهلة.

الآن يلتف عليه الناس ، ويتدفق نهرٌ إلى البيوتِ والساحات وترتعش الأشياء بالمشاعر والقناديل والنيران والطبول والطارات والأصوات الصادحة ، وتصيحُ النسوةُ وتزغردُ في مكانٍ ملاصق ، ويحتضنُ الرجالُ بعضَهم البعض ويشربون القهوةَ وتتدفقُ السلاماتُ وأسئلةُ الحالِ والتعارف ويتذكرون بعضَهم في سفنِ الغوصِ والتصاقاتِهم الحميمةَ فيها ، وذهابَهم للموانئ البعيدة يتداخلون مع كوماتِ الأخشاب وأكياس الأرز والليمون وأقفاص القرود المجلوبة لحديقة ما وتتفجرُ قصصٌ صغيرة ، ويتذكرون القرد الذي هرب وغرق وهم يركضون ويسبحون لإنقاذه! ويودعون بعضهم البعض ليتواجدوا في الأفراح والمآسي مراراً وفي ومضات خاطفة ، كأن أقدامَهم التي تسيرُ في المقابرِ وعند جمرِ القدور وقربِ أسرة المواليد تنسجُ قماشاً غير مرئي.

3

عبدالمحسن جبر ينطلقُ بسفينتهِ صاخباً مدوياً في روحه ، (إلى متى نحن مأسورون بهذا الحديد الرقيق التافه؟ بهذه السمكات اللزجة الزفرة؟ وهذه القيعان غير المكتشفة؟) ، (خامدٌ كلُ شيءٍ في هذا العالم الغافي ، بلداتُ تلالِ الموتى تجاورُ الأحياءَ وسِيفُ المطلق وحدهُ يحومُ في البرية الواسعة مع إتباعهِ يقرضُ جسدَ دولةٍ تعاركت عليه الذئابُ من كل صوب . متى تأتينا فرصنا؟).

عمهُ سلمان كان يدب حوله . للجلساتِ هناك في الصحراء شحناتها المتفجرة ، لوجوهِ البدو سحناتُ المنتظرين الأبديين لعطاءِ السماءِ فيما هم يدبون على الأرضِ سالبين القوافلَ والحجاجَ والمارة أو محاربين بعضهم البعض.

يتطلع إليه العمُ بأعجابٍ:

– من يستطيع أن يغوصَ في أغوارِ الماء ويدخلُ جوفَ السفينة الغارقة ساحباً صناديقَها وسحاراتها رافعاً إياها فوق كتفيه؟ خسارة فيك يا عبدالمحسن أن تعيش على هذا البحر الغدار منتظراً الكوارث والمواسم الغادرة!

كلُ خبرٍ عن كارثةٍ مدلهمةٍ على الخليج يصلُ أذنيه المتسعتين ، والمصائبُ التي عمتْ العالمَ البعيدَ تحولتْ إلى ذهبٍ ورؤى وخبرة متألقة ، أنطلقَ بومهُ نحو الشرق البعيد ، تغلغلَّ بين كتلِ المياهِ المتراكبة المتراقصة ، حيث اليم بلا حدود ، وحيث الآفاق ضائعة لولا النجوم ودوائر حساسة من المعدن المرهف للجهات ، والأجسام الحديدية المليئة بالنار جاثمة قليلة الحراك في هذه المجاهيل ، ويشعر في الخشبِ بحاجتهِ المضنيةِ للمرأة ، أية امرأة ، أي جسد ، وأسواق المدن المقتربة لا تعد ألواحاً وفضة مخبأة فقط بل نساءً وحانات وموسيقى وحياة متفجرة حتى الفجر أيضاً ، وفي الصباح يقوم بسحبِ رجالهِ من الغيران ومن تحت الطاولات ، ومن الأسرة التي تحتضنهم عراة ، مسلوبين مياه الظهور وروبيات الجيوب ، ويضعهم على سطح السفينة كأولاده ويغسلهم بمياه البحر ، ويفجر القدور برعب السراطانات وإستغاثات اللخم ، ويرتفعُ الشراعُ ويمزقُ جدرانَ الهواء الساكن.

عمهُ يأخذهُ بعيداً إلى مداراتٍ رهيبة:

– ضعْ تحت الألواح وأسياخ الحديد تلك البنادق الجديدة ، خبأها في السحارات القوية ، أمزجها بالقماش والحشائش ، دعها تنام هناك ، لتظهر هنا.

قبيلتُهم مشتتة ، منذ زمن بعيد وهي تحت جزم الغرباء ، بعض رجالها يعملون في سفنهم ويبحثون عن موطأ قدم في ديرة ليست مخنوقة بالبحر من كل الجهات ، في بلدة وحيدة أمام دائرة من المزارع المخيفة.

الآن يسحبون الأقفاصَ من القيعان ، تضجُ بالحركةِ الحيويةِ المتدفقة كأن الأسماكَ وهي تموتُ تبعثُ الحياةَ في جسمه ، كلُ قفصٍ يهتزُ ويرشُ الماءَ كمطر ، الرجالُ الملطخون بالسوائلِ والأعشابِ والتراب الممسكون بكتلةِ الحديدِ الكبيرة يصرخون على بعضهم البعض ويتحركون في إيقاعاتٍ منتظمةٍ مدوية ، ثم ينزلُ الخصبُ السمكي ، فيضُ البحرِ ذو الحنان ، حصادُ القيعانِ والأعشابِ وتلالِ المرجان ، يتدفقُ في أحواضٍ حاملاً بعضَ مائهِ ومتعاركاً على بوصاتٍ من الوجود وهو يسحبُ آخرَ الهواء المعبأ بالماء ، ولا بأس أن يُرشَ ببعضِ الماء المالح ويُوضع قالب من الثلج ليبقى تحت عيون باعة الأسماك حياً عنيفاً.

الليلُ يهبطُ ولا تعودُ السفنُ سوى ثلةِ أضواءٍ متراقصةٍ في الظلام ، وهذا الكائن الجبار المتخم بالسمك ومعاندة الهواء وإنتفاخ الشراع يمضي لدربهِ المعلوم ، تلتقطُ عيونُهُ الخرزيةُ نقاطَ السواحل من بين العتمة الدامسة ، تتجنبُ الصخورَ الفشوت البحرية ، لم يعدْ فيها سوى نزيف الصدور التعبة ، وحشرجات البلغم والتبغ ، وأصابع التراب الصحراوي التي وصلت للقيعان الداخلية.

4

سيفُ المطلق ينصتُ في مجلس أبيه غانم ، في بيتٍ واسع الحوش يجثمُ بعيداً عن عزِ القصور والأملاك الواسعة النائية القديمة.

أبوه شيخٌ تعبٌ منهكٌ من الأمراضِ والهجرةِ وخيباتِ الكفاح . المكان حار لولا نسمات الشمال التي تتسللُ من فتحات البناء ، القهوة تمشي بين الجمعِ والحكاياتُ تتألق والأبطال القدامى الذين اندفعوا في وجوه الحصون والقلاع وسقطوا من رصاصٍ جبانٍ لا تزالُ صيحاتُهم تدوي باسم الإله ، الكتائبُ الساريةُ في العتماتِ تلمعُ سيوفُها وامضةً على ضوءِ النجوم اتحدتْ بالتلالِ الجرداءِ وزحفتْ والضببةُ تهربُ من هياكلِها الضامرةِ وحين يقتربُ الفجرُ تصلي وهي جاثمةٌ على الرمالِ الباردة ، وحين ينفجرُ التكبيرُ تندفعُ مثل السيلِ وسيوفُها تجندلُ الرؤوسَ وتحيلُ المعسكرَ الشاكي السلاح إلى ساحةٍ تتناثرُ فيه الخيامُ والأرديةُ والأشياء.

في كلِ مكانٍ لسيفٍ خطواتٌ وظلالٌ وحكاياتٌ وأشباح . قبائلُ جاثمةٌ في وديانِها تصحو على مروره قربها . بلداتٌ يخترقُها في عزِ الظهيرةِ وهي راقدةٌ في قيلولاتِها الساخنة . أوديةٌ ينزلُ فيها ويناوشُ أصحابَها ويأسرُ ويجندُ منها.

لا أحد يعرف الآن هل سيف صاح أم غاف؟ يسمعُ السوالفَ ويرهفُ للربابةِ الغاضبةِ الشجاعة وأنينُها يرسمُ خطواتِ الأخوةِ وهم يخترقون الأسلاكَ الشائكةَ والشوكَ ، ورؤاهُ تحومُ على بلدةٍ ما أثخنتْ جنودَهُ بالقتل وهاجمتهم وهم سائرون لمكان آخر.

تنزلُ الشمسُ ويصطفُ الرجالُ للصلاةِ وتنتشرُ العتمةُ وتُجلبُ الصواني ويسمون باسم الله وتمتد أذرعُهم من ثيابهم وتبدو معروقةً صلدةً وتعتدلُ عقالاتهم وغترهم لتغدو الوجوه في مواجهة صواني الأرز واللحم وتحفر بقوة وتصنع اللقم وثمة همس خفيف وكلمات قليلة تنتشر والأسى لا يسد الشهيات المفتوحة دائماً على الحياة ، والغسلُ من الأباريقِ يجري ويصبُ الخدمُ الماءَ على أيدي السادة ، وتجثمُ الأجسادُ على السجاجيد البسيطةِ في الحجر وفي الحوشِ وقد خفتْ الحرارةُ الملتهبةُ فغفتْ أجسادٌ مثقلةٌ حتى بدتْ البلدةُ كلها نائمةً ولم يبقْ في البيتِ صاح سواهُ ومساعداه سلطان وفيصل اللذان منعتهم عيناه من الغفو.

في إشارةٍ منه راحَ مساعداهُ يهزان الأجسادَ النائمةَ بحركةٍ خفيفةٍ فتصحو بسرعةٍ وتقفزُ إلى سلاحِها ، وإذ بالحوشِ شبه الميت يتحولُ إلى كتيبةٍ جاهزة ، ولم يذهبْ أحدٌ لبيتِ الراحة ، ولم يلبسْ أحدٌ لباساً جديداً ، وظهرتْ السيوفُ من أمكنةٍ لا مرئية ، ووُضعتْ الأقدامُ الحجرية في نعالِها الصلدةِ وأحذيتِها وتسرب نهرٌ من العظام والحديد من البيت الغافي على الرمل ، وسيفٌ في مقدمتهِ وقد تبدلتْ هيئتهُ ولم يعدْ ذلك الرجلُ العملاقُ الساكنُ الذي لا ينبسُ ببنتِ شفة ، المغمورُ بالدعةِ والرقةِ ، وسارت الكتيبةُ في طرقِ الظلامِ المجهولة ، وتطلعتْ بضعُ عيونٍ في البلدةِ إلى هذا الجحفلِ الغريبِ ، الساري ، الذي ذاب بعد بضعِ لحظاتٍ وكأنهُ لم يظهرْ أو كأن العيونَ رأتْ أطيافاً.

إختفى من المدارِ المرئي وتفتحتْ أمامهُ دروبُ العتمةِ كأنه يقرأها ، وخيوط النجوم والقمر والتلال والأحجار والأدلاء المتراكضون في شعيرات الأرض بكلابهم السلوقية يرمون في آذانه معلوماتهم ليعودوا يجرون بخفة الغزلان.

تبدو بلدة القبيلة المعادية غافية ، أطفأتْ قناديلَها ، وسحبتْ دوابَها من المراعي وها ها هي تثغو مؤكدةً صحو القوم ، فلماذا هذا الظلام الدامس في البلدة؟

يزحف سلطان نحوه والجماعة سجادة من الثياب عانقت الأرض عناقاً شديداً ، والنجوم سقف من القناديل التي تهديهم بصيصاً من النور ، ويهمسُ مساعدهُ بتوتر:

– يا شيخ جلستنا هنا بلا معنى ، لا بد أن ننزل ونفني هذه البلدة الظالم أهلها!

– أنتظر . .

جسمهُ كله حواسٌ ، آذانهُ المرهفةُ تسمعُ الإبلَ المتخمةَ بالبرسيم ، والصبية اللاهون الذين تطبق على أفواههم الأيدي ، وكلُ شيءٍ يتحركُ نحو عسكره ، للأرضِ دبيب . أيقن الآن إنه وقع في كمين وسوف يفنى وصحبه لو أطاع نصيحة مساعده اللجوج.

قال بقلق:

– أعملوا دائرة وأجهزوا.

بثوانٍ كان الجسدُ الجماعيُّ المحدقُ في البلدةِ ينتشرُ حول التلال ، وفجأة إنطلقَ الرصاصُ نحوهم بغزارة ، ظهرتْ أشباحٌ فوق رؤوس الصخور ، وتتالى تساقطُ جندهِ ، الذين انبطحوا وزحفوا نحو مواقعَ آمنةٍ غيرِ كثيرة ، زحفَ بينهم ، هذا الجسدُ العملاقُ كيف صار خفيفاً ، يحركُ الصخورَ لتحمي رؤوس صحبه ، ويرمي ناراً تصبحُ بروقاً تزحزحُ أؤلئكَ المتشبثين بالشقوقِ والهوات التي راحوا يتساقطون فيها ، ورجالهُ الأشداءُ المميزون يركضون نحوهم غير خائفين من النار ، والبنادقُ تبردُ زمناً وامضاً وفي إثنائهِ يُـقطع رأس أو ذراع ، والبدوي ينتفضُ مذعوراً ودمهُ يتدفق نافورةً حارةً ، وآخرون يُـقفزُ عليهم من أمكنةٍ مباغتةٍ ومذهلة ، وأؤلئك المحاصرون كانوا يزحفون نحو قمم التلال التي نسوها في تقدمهم.

يتذكر سيف وقعة أُحد بألم ، يضعُ يدَهُ على بطنهِ المثقوب ، كان المقاتلون في أُحد قد نزلوا للغنائم بسرعة ، الآن يدرك بأن الفتحَ معجزةٌ إلهية ، وهو الذي شمخَ بأنفه ، وتوهم أشياء كثيرة ، وهؤلاء الرجال الفقراء يطمحون لقطعةٍ من الفضةِ ولحافٍ قوي ، سوف يرحل عما قريب ، الدم يتدفق بغزارة ، لابد من السيف يطهر الصحراء من الرجس ، إنتزعَ غترته وربطها بوسط جسمه ، ثلة تحيط به ، والهمس ينتشر:

– الشيخُ أُصيب!

جسدهُ على التراب ، وفوقهُ النجومُ تنثرُ ضوءً بلا حساب ، أمعاؤه خرجتْ من جسمه ، والرصاصةُ لا تزال باقية ، تتقلقلُ بين لحمه ، والمعركةُ تلفظُ أنفاسَها الأخيرة والعدو ترك المكان لكنه ظل يحاصرهم مثل الذئاب الجائعة التي تشم دماً.

ازدادت الرؤوسُ التي تحيط به وأدلتْ بنصائحٍ متكسرة ، الشخوصُ التي إنتصرتْ وأغتسلتْ بالدماء والتراب ، أهتزتْ مروعةً ، كأن النبوةَ إنطفتْ ، والجبالَ زُلزلتْ ، والقمرَ إنكسر وتشظى عليهم ، تتناثرُ كلماتُهم ممزقة:

– نحمله إلى بلدة الكوت.

– أغلب الإبل فرت أو ذُبحت..

– حتى الخيول . . لم تبق واحدة . .

– وزادنا قليل.

لن يموتَ هنا ، جسمهُ يستعيدُ بعضَ هدوءه ، يكفُ عن الزلزال ، ترتعشُ نفسهُ وهو يبصرُ امرأةً ذاتَ بسائل من الياسمين ، وسريرُها واسعٌ للطِرادِ ، ثم يسمعُ الزغاريدَ حية تهز أذنيه ، يقول:

– أريد أن أعرس الآن!

يجري على الصحراء يقبل كل بلدة مهدمة وينهضها ، يدخل المضارب ويضع يده في يد الشيخ ويخطب ابنته ، ويزف بالزغاريد ويلقى الريحان في طريقه.

المقاتلون المخضبون ، الحراس الساهرون المبصرون كل دابة ، يبتسمون وكلهم يقول (الشيخ يهلوس!) ، فيصل يتساءل بغلظة:

– أيش هذا الهرج يا طويل العمر؟ أنت وين والعرس وين؟

– ليذهب أسرع رجل للبلدات القريبة ، ليركب فرساً تطوي الأرض طياً ، وأنتم زغردوا حتى بألسنتكم الغليظة! أريد فرحاً وربما يكتب لي العرس والنصر!

دهش المحاصرون من النيران المشتعلة ، والطبول الصادحة ، وتسللوا إلى بلدتهم يائسين.

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-621051539246d', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', onClick: function() { window.__tcfapi && window.__tcfapi( 'showUi' ); }, } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 18, 2022 18:09
No comments have been added yet.