الجزء الرابع من فصل ” القلفة” من روايتي نوكيا

كان داني وحيد والديه، مع أختين؛ تكبره واحدة، وتصغره أخرى، لقد تزوجتا، أخته الكبيرة جعلته خالاً منذ ثلاث سنوات، والصغيرة يبدو أنّ لديها انتفاخاً في بطنها كان يُفترض أن يكون منّي، لكن كنّا كبيرين كفاية لنتفادى معمعة الزواج من دين مختلف.
عندما قالتْ لي: (إنّ هناك عريساً محتملاً)، لم أستطع تحديد مشاعري بالضبط! لربما شعرتُ بالارتياح، وحتى هي لم يبدُ عليها الانزعاج، صمتنا لثوان معدودة، ومن ثمّ دفعتُ ثمن فنجاني قهوةٍ، وغادرنا الطاولة التي اعتدنا الجلوس عليها، وداعًا للقبل الخاطفة واللمسات العابرة.
داني ينتظر مسابقة التوظيف مثلي، يقضي جلّ وقته في تعلّم اللغة الفرنسية، يبحث عن أجانب عبر الماسنجر، ويجري معهم محادثة ليتقن اللغة أكثر. أحياناً يسأل بماذا أفكر، كلما مررنا من الميناء حيث يبيعون السمك، فأجيب:
ببساطة، أن أكون صياد سمك، ليس كمسيحك! أشعر أن لي زعنفة لا قدمين، سأعكس الأسطورة، سأبحث عن شيخ يبحث عن انتعاظٍ لعضوه، سأعطيه صوتي وقدميّ وعضوي على أن يعطيني تعويذة تمنحني زعنفة بدلًا من تلك الساقين، سأعكس نظرية داروين، أليس الإنسان هو رأس الهرم التطوري؟! لقد حان وقت الهبوط، وسأختار الرتبة بمحض إرادتي.
– لكنك تحتاج لأن تغرم بحورية حتى تكتمل الأسطورة.
– ليس من ضرر أن أتصرّف بالقصة كما أرغب، وأنت تعرف، لقد بدّل المنتصِر بالتاريخ كما يريد، وكمتلقٍ يحق لي عندما أقصّ على نفسي الحكاية أن أقدّم وأؤخر وأحذف.
********* ******
نادراً ما يذهب داني إلى الكنيسة، ولربما السبب يكمن في أنه لم يستطع أن يفهم معنى تضحية المسيح، فإنْ كان عليه أنْ يفتدي البشرية بهذه التضحية، فلماذا أجّلها إلى ما بعد الموت لنحصل على النتائج؟ ما هي الصفقة التي عقدها مع الشيطان عندما قال له: “لا تجرب الرب إلهك![1]” الأمر واضح، فقد قال للشيطان: جرّب الإنسان، فهو ساحة لمعركتنا.
الحرارة مرتفعة في ليالي الصيف في طرطوس، تبدو المراوح عاجزة كسارق ليس على يساره من مسيحٍ. الساعة الثانية صباحًا كان داني يتقلّب في فراشه ويفكر: لربما لدى رغدة مكيّف، وتتمتع الآن بالنوم هانئة في أحضان مَن سيضع لها تحت وسادتها ما يعادل أول راتب لي-إنْ توظفت- قبل الحسومات. في دولة غربية، نسيت اسمها، هناك صندوق تقاعد للمومسات، هل تخبّئ رغدة قرشها الأسود ليومها الأبيض؟
تحسّس داني صدره، ثمّ أطفأ السيجارة التي مجّ عقبها حتى النهاية بجانب حرف الشباك من الخارج والذي يراقبه من الشارع كلما غادر صباحًا. يرفع رأسه، وينظر ليجد تلك البقعة السوداء من أثر انطفاء السجائر، تتوسع رويدًا رويدًا في الدهان الأبيض.
يقول داني: عندما أُصابُ بالسرطان سأحتاج إلى معجزةٍ، وقدّيسين مختصين بتلك المعجزات التي تترك دومًا إشارة استفهام خلفها، كمشلول قام، ومشى، وترك كرسيه المدولب الذي تبرعت به إحدى الجمعيات الخيرية لمشلول لم ينفعه اللقاح الذي تعدّه الأمم المتحدة، لكنّني لم أرَ رجلاً كــــ(جون سيلفر) في جزيرة الكنز قد نمتْ ساقه كذنب ضبٍّ بعدما قُطعتْ بمعجزةٍ إلّا في فيلم (xmen). حتماً إنّ أصحاب الأرجل المقطوعة لا تنفع معهم معجزات تترك علامات استفهام، (ها نحن ذا على دروب كنزنا….).
يُغلق الضوء، وفي الظلمة يتمتم: (ربنا لتكن مشيئتك كما في السماء…، ونجنا من الشرير).
********* *****
يرنّ منبه موبايله بأغنية، (عايشة وحدا بلاك)، وتتكرّر الأغنية حتى يملّ النائم قبل المستيقظ، فتدخل أمّه: داني ما هذه العادة، كل صباح نفس القصة!
يستيقظ داني، يسرع في ارتداء ملابسه، لا يعير كلام أمّه عن الفطور أدنى اهتمام، ويخرج مسرعًا، ليقطع شارع الثورة، يركب السرفيس، يهمس لنفسه: لقد تأخرتُ!
عندما وصل إلى عمله، قال له المعلم سركيس ومن دون مقدمات: امسكْ ورق الحفّ، وابدأ بهذا الباب الذي على يمينك.
تنبّه إلى أنّه لم يُحضر ثياباً باليةً للعمل، لكنّه بدأ بالحفّ، ومن ثمّ تصاعد الغبار في فضاء المكان. هذا الغبار يشبه نظيره المتصاعد من كتب التاريخ عندما ينفّضها التأويل، وعلم التاريخ المقارن. يتأمل الباب الذي من خشب (السوّاد[2]) ويسأل نفسه: إذن، مما يتألّف باب العالم الآخر! هل هو فقط هذه الحفرة أم تلك الغرفة التي يمدد فيها الميت انتظاراً لقيامته؟ متى تحدث القيامة؟ ليس في اليوم الثالث، إذن متى!؟
يؤنبه صوت المعلم سركيس: حفْ من الأعلى إلى الأسفل، وليس في مكان واحد فقط. يا رجل، الحفّ لا يحتاج إلى جامعة!
بعد وقت قصير يناديه المعلم سركيس لتناول كأس من الشاي. يشعل داني سيجارة، وينفخ دخانها، فتلعب به الريح الحارّة. اختصر سركيس الطريق وبدأ العمل منذ أن طرّ شاربه، فهو متزوج منذ سنين، وأكبر منه سناً، يزيده بعامين على أقل تقدير، ويملك مالاً في جيبه من عرق جبينه. مسح داني بقماشة قميصه جبهته المتعرّقة، فتركتْ بقعاً بنيةً عليه، نظر سركيس إلى القميص: إنّه لون الحياة.
مضى الوقت بطيئاً، وتبدلتْ الأبواب. كان العمل اليوم، أن يكون الحفّ بالورق الخشن، غداً بالناعم، وبعده بالأنعم، على عكس الحياة التي تبدأ بالأنعم وصولاً إلى الأخشن… يقاطعه سركيس تداعيات أفكاره: غداً، تعال باكراً، يا دلوع أمّك.
يعود للبيت، يأكل كبغلٍ، يستحم، ويغرق في النوم. ********* *****
[1] – جملة من الأنجيل
[2] – نوع من الخشب يستخدم في النجارة
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
