عبـــــــدالله خلــــــــيفة ـــ الحـــــــيُّ والميـــــتُ

رأيتهُ عندَ الشجرةِ الصفراء مرمياً.
هناك في أحشاءِ القرية المنثورة ، في إمتدادِ أصابعِها وتلالها ، في لحظةِ إستيقظاتِها وصياحِ أولادها ، في زمنِ العمل الصيفي ، في تلك الشاحناتِ التي تقذفُ الرملَ والطفولة.

الشاعر الشهيد


لم يزلْ حسن باقياً بقصائدهِ ، تلك القصائدُ القليلة ، المغسولةُ بالعرق والدموع ، المتناثرةُ في أيامِ القيظ ، حين يأتي من بلدِ النهر ، ليجدَ القريةَ الراكدة ، ويقدمُ لشبابِها بضعَ كتبٍ من حشودٍ تصطفُ عند جدارنٍ مهترئةٍ متعكزة على حشائشِ النهرِ الكثيفة ، الخضراء العميقة ، يتأملُ كلَ شيءٍ بهدوء ، يمشي بتثاقلٍ في الشوارع ، خاصةً في شارعِ السوق ، الذي تنمو على ضفافهِ المقاهي الهادئةُ التي تزرعُ الضوءَ والشايَّ الأحمرَ والشعر.
لم أكن أعلم إنني عند الشجرة تلك سوف أستلمهُ من الجيش لأدفنهُ هناك.
كانت دموعُ صديقه ، ضيفُ زقاقهِ : عمران ، رفيقُ تربتهِ الخضراء ، هي الأغزرُ . كانا يركضان بين السنابل ، وأوراقِ الكتبِ والموز ، لا يصطادان العصافير ، يفرشان أجنحتَهما ويطيران ، سوف يطيرُ حسن بعيداً ، سيرقى في السماء السابعة ، ويقطفُ خدودَ الصبايا وقلائدَ الكلام ، وصديقهُ عمران سيحفرُ في الكراجاتِ والحفرِ والسمائد والمدارس ، سينتقلُ عمران من حظيرةِ البيتِ في قلبِ المدينة ليمضي عند بيتٍ حديثٍ في أخاديد وجهِ قريةٍ عجوز . سيملأُ البيتَ والسيارةَ الصغيرةَ الصفراء بالزجاجاتِ والعلب الفارغةِ والأشياءِ الضائعة والكتبِ ومسودات الشعر المُلتبسةِ بخطوط الإطارات الهاربة في شوارع المدن.
صديقهُ عمران سيعيشُ ، سيعيشُ كثيراً في هواتِ السكارى ، قربَ الحفرِ والنخيلِ الميت وأجسادِ البلابل اليابسة والأغصان التي تحيطُ بالقيعان ، وستتصاعدُ روائحُ المأكولاتِ وضجيجُ النظرياتِ المقبورة البطون ، والعُلب ، العُلب الكثيرة النائمة على مدى النظر ، مليئة بالكلام المتخثر والحشرات المتجهة لقضم الشجر.
رأيتهُ هناك عند الشجرة الصفراء حياً.
كلما قتلوهُ ظهرَ في عباءاتِ النساء ، لأنهُ لم يؤذِ طيراً أو زجاجة ، كان شفافاً يحبُ الريشَ والزجاجَ والضوء الصباحي وأزقة القرية ، كلما أخفوهُ ظهرَ في الإسطواناتِ مثل نبي قُتل خطأً ، براءتهُ تحضرُ في كلِ مكان ، رقتهُ تحرضُ النساءَ على الحبل.
صديقهُ عمران يقول : ماتَ لأنه جبان ، كان يرتعدُ رعباً من الأزياءِ الصفراء ، ومن الإيدي القاسية ، لم يتعاركْ مرة ، لم يهجمْ على كلب ، قلبهُ قفزَ من جسدهِ خوفاً.
من تلك الخربشات راحَ عمران يكتبُ ملوثاتِ سيرتهِ ، سيمزقُ جلدَهُ ليصنعَ سطوراً تهربُ منه دائماً للحُفر ، يملأُ صدرَهُ بدخانِ السجائرِ ليظهرَ بمظهرِ مخبزٍ أهلي لصنعِ الحلويات ، ويضعُ رأسَ فيلسوفٍ على جسمِ حيةٍ هاربةٍ في الحقول ، سيركضُ من ملعبٍ لحلبةِ مصارعة ، لمكتبةٍ يسرقُ منها كتاباً ، سيُعلَّم الأولادَ في المدرسةِ التدخينَ والعراكَ ، سيصعدُ إلى الحفلاتِ وهاماتِ المسارحِ ليقول إنه صديق حسن ، عاشا معاً في القرية ، أتراباً ، التقيا بالصدفةِ بين قمامةِ مدينةٍ وعرسِ قرية ، ستظهرُ في عيونهِ علاماتُ البريقِ والكبرياءِ ، سيستمدُ من جثةِ صديقهِ بعضَ السماد والجذور والعصافير التي لم تزلْ حيةً ، سيطيرُ قليلاً ، سوف يصنعُ بعضَ المسامير ، وهو يموتُ كلَ يوم ، سيحرقُ غابةً من اللفائفِ والورق الأخضر ليشوي بلبلاً مبللاً بالندى ، سيصلُ البيتَ بعد أن داسَ الكثيرَ من السلاحفِ والعظاياتِ والبراميل قرب الفجر وهو يَسبحُ بالدخان وشظايا الكيروسين والرغوة الحامضة.
أحضروا جثةَ حسن في الليل ووقفوا على رؤوسنا ونحن نواريها التراب ، لم تُغسل ، لم نلمْ قطعَها جيداً ، لم نغسلْها من الدماء . منذ ذاك ذهبتْ البراءةُ من القرية ، وشيوخُ الدينِ غادروا للجبالِ ولمدنِ الذئاب ، خطيبتُهُ إحتفظتْ بعقلِها وبقصائدهِ وهي تنزفُ أشلاءَها وذكرياتها ليحصدها طلابُ الإجازاتِ الجامعية وينشروها في الكون.
هدوءٌ رهيبٌ على الأزقة ، تناسلتْ سيرتُهُ في الأغاني ، وحفرتْ الأصابعُ الترابَ والخشبَ من أجلِ وريقاتهِ ، وما زال هناك على الجدران يبتسم ، وخطيبته كبر أطفالها وهم يرددون اسمه.
كل مرةٍ يأتيني عمران يبحثُ عن شيءٍ له ، يحاولُ الحصولَ على قطعةِ ورق ، نتفةِ أثرٍ ، يعلقُها في جسمهِ الهاربِ منه ، يقول إن حسن يكبرُ كل يوم ؛ فرقةٌ موسيقية بعيدةٌ تغني كلماته ، مسرحٌ صيني يمثلُ مسرحيتَهُ الوحيدة ، وهو يجري من أرضٍ لنقعة ، من قاعةِ مسرحٍ لمقبرةٍ ، دون أن يعرفَهُ أحدٌ ، يتضاءلُ وجودُهُ كلَ لحظة ، يدخلُ عملياتٍ ويتقزم ، يقتربُ من الأرض دون أن يحبها ، والدخانُ أمتصَّ صدرَهُ ويتشبثُ بالحياةِ بكلِ خليةٍ مليئةٍ بالصراخ والبصاقِِ المعجونِ بالتبغ والدم ، يخرجُ من مشرحةٍ إلى مسجد ، يعودُ للدخانِ الأزلي السماوي ، إلى أضرحةِ الأئمة ، ويستلفُ من المفسرين خناجرَ للقتل ، يمزقُ جلدَهُ غاضباً على شعرِ حسن الكافر ، الأخضر المغسول بالندى ، يأتي بثلةٍ تنبشُ بيتَ حسن ، علها تجدُ أشرطةً لا تزالُ تبثُ الغضبَ من تحت النخلة ، تحفرُ الأرضَ المحفورة عقوداً ، يصرخُ عمران : أنا أحتضر! حسنٌ يهاجمُهُ في كلِ حلم ، لا يتركهُ ، كلَ ليلةٍ يعوي في أذنيه ، إنه لم يمتْ ، لم يُدفن ، ثمة جندي يقولُ ذلك ، الجندُ لم يلقوهُ في حفرةِ الثلجِ في تلك الليلة الباردة ، ولم يطلقوا عليه الكلاب ، ثمة شبحٌ هناك ، شبحٌ رآهُ يهربُ ، وراء السياج الحديدي.
يمسكني عمران من ذراعي ، يشدني إلى الأرض ، أنا العجوزُ التعبُ ، يعوي: أريدُ أن أراه ، أنتَ خبأتهُ في الجذور ، في الإسطواناتِ التي لم تزلْ تدورُ وتبعثُ الفوضى وأسربةَ الطيور في الفضاء . يضيف: أنا أحتضرُ وهو يحيا ، أريدُ أن أدفنه حقاً ، أقضي عليه في موته ، أنا أتقيحُ ، جلدي يذبل ، لم تعدْ لدي كلمات ، قشورُ موزٍ صارت ، عظاياتٌ تمشي في الآذان ، أنا صرتُ حفرةً وهو طائر.
عمران ما زال يعيش ، يأكلُ الخبزَ الساخنَ الطالعَ من التنور ، يرى أولادَهُ يكبرون ، يفرحُ قليلاً ، يتلقصُ كلَ لحظة.
حسن لا يزال ظلاً ، لم يدخلْ القرية ، لم يلمسْ الخبز ، لم ير العرس ، الدموعُ تملأ عيني كلما تذكرته وهو لا يموت ، كنتُ أريدهُ أن يموتَ كهلاً مثلي ، في كل ذكرى آخذه قليلاً للحياة ، ألحنُ قصيدةً له ، أدعهُ يتزوجُ امرأةً ، يرى ولداً.
يناير 2010
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنطولوجيا الحمير
«قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير – عمران – على أجنحة الرماد – خيمةٌ في الجوار – ناشرٌ ومنشورٌ – شهوة الأرض – إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح – طائرٌ في الدخان – الحيُّ والميت – الأعزلُ في الشركِ – الرادود – تحقيقٌ – المطرُ يموتُ متسولاً – بدون ساقين – عودة الشيخ لرباه – بيت الرماد – صلاةُ الجائع – في غابات الريف – القائدُ مجنونٌ – الحية – العـَلـَم – دموعُ البقرة – في الثلاجة – مقامات الشيخ معيوف».

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 09, 2021 19:16
No comments have been added yet.