رثاء المدن عمارة في الأمل – مقالي في ضفة ثالثة

إنّ هشاشة الوجود الزمكاني الإنساني، دعت الكائن البشري إلى افتراض زمان ذهبي، كان خالدًا فيه ومنيعًا ضد الحدثان. نجد هذه الثيمة في دلمون السومريين، والعصر الذهبي في ثيوغونيا الآلهة(1) عند هزيود في اليونان، وأوفيد  في كتابه؛ مسخ الكائنات، عند الرومان. ولم تخرج الديانات التوحيدية عن تصوّر جنّة كان الكائن البشري يتنعّم فيها بالخلود. إنّ المقارنة بين المثال الأفلاطوني والمحاكاة، يبيّن هشاشة المحاكاة وانعدام دواميتها، فيما يتمتّع المثال بالحصانة تجاه نهر هيراقليتس وسرير بروكست(2) المكاني، وما يعتورهما من نقصٍ.

كان الموت هو المعضلة الأكثر إشكالية التي واجهت الإنسان منذ وعى كينونته، والتي دفعته كي يترك أثرًا بعد عين. وإنّ التدقيق بالمخيال الفردوسي للبشرية يلاحظ خلوّها من العمل والعمران، على عكس تواجده الأرضي الذي امتلأ بتشييد الآثار. يذكر ريجيس دوبريه(3) أنّ الأصول الإيتمولوجية لكلمة “Signe/ علامة” والمشتقّة من كلمة Séna” ” والتي تعني شاهدة قبر، أو يشيد قبرًا وفق هوميروس. يقودنا هذا التحليل الاشتقاقي لكلمة “علامة” إلى جوهر فكرة الرثاء التي تشتغل ضدّ المحو الوجودي الذي يمارسه الموت على الكائن البشري، عن طريق إقامة نصب تذكاري، أكان ذلك عبر شاهدة القبر أو بالرثاء: الفن، الأدب، النحت…          يشرح دوبريه كيف أنّ الفن انبثق من القبر، فأول جامع تحف فنية كان القبر. وأول لوحة فنيّة كانت الكفن، وما ذلك إلّا لإحياء الذِكر.

إنّ الوقوف على الأطلال الافتتاحية الخالدة للشعر الجاهلي، والتي سخر منها أبو النواس ابن المدينة: “قل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس”؛ تعبّر بوضوح عن المأزق الوجودي الذي كان يقضّ مضجع الشاعر الجاهلي المهدّد دومًا بالرحيل، فهو لا يقرّ على حالٍ كحصان المتنبي. أمّا أبو النواس ابن المدينة المطمئن لاستقراره، فلم يكن يعنيه الرسم الدارس بشيء، فقلقه الوجودي يتمظهر بأشياء آخرى ألطف من النؤى والصمّ الخوالد.

تقدّم لنا التوراة في مخيالها عن بابل، ليس كأول مدينة اجتمع البشر على بنائها، بل كملّخص فحوى الوجود البشري القائم على الزوال والفناء. لم تكتف التوراة بإبراز هذه الثيمة، بل تعدّت بها إلى البلبلة اللسانية التي أصابت البشر، جرّاء توحدهم وهاجسهم الملحّ بإقامة الأثر. تعدّ مراثي النبي أرميا التي كتبت بعد السبي من أشهر ما كتب عن دمار المدن، إلّا أنّ هذه الثيمة على ما يبدو مستعارة من حضارة ما بين النهرين. اشتهرت بلاد ما بين النهرين بأدب الرثاء، ومن رثاء المدن إلى جانب رثاء وبكاء ديموزي (4)؛ حيث ينقل الغانمي عن كريمر قصائد عديدة عن رثاء المدن؛ رثاء أور – رثاء بلاد سومر وأكاد، والقصيدة البابلية المشهورة؛ لعنة أكادة. تعرض هذه القصائد دمار المدن وإحراقها ونهبها وزوال أثرها وتحولها إلى أطلال وأوابد.

ينبّه الغانمي إلى أنّ كريمر أشار إلى أنّ رثاء المدن لم يصدر عن الحقبة ذاتها التي تم فيها التدمير، بل عن حقبة تالية تستعيد لحظة الدمار من أجل إعادة البناء. هكذا نستخلص لبّ جوهر رثاء المدن، فهو وإن كان يأسف على مآل الحال إلّا أنّه يتطلع قدمًا نحوالمستقبل. وهذه ما نجده في المقدمة الطللية للقصيدة العربية التي تبتدأ بمشهدية مأساوية للارتحال والبين، ومن ثم تنفتح على الحياة بعد ذلك.

احتفت الشعرية العربية بالرثاء كغرض شعري، تعدّدت غاياته؛ من رثاء الذات مع مالك بن الريب. إلى رثاء الأخ مع الخنساء. ورثاء الديار مع الملك الضلّيل، وصولًا إلى رثاء المدن لتُؤخذ العبرة ويُستكمل الاعتبار.

يرى سعيد الغانمي في اعتذاريات زيد بن عدي العبادي رثاء للمدن والثقافات ويعارض ما ذهب إليه أبو الفرج الأصفهاني بأن العبادي وجّه هذه القصائد الاعتذارية من سجنه إلى النعمان، لأنّ المخاطب بها كان ابنه عمرو. ولنا أن نرى في ما ذهب إليه الأصفهاني والغانمي، بأنّه ليس من تعارض بينهما، بل تكامل، فالعبادي يريد من النعمان أن يعتبر، وأن لا يرى ملكه محصنًا تجاه الحدثان والدهر، وفي الوقت ذاته يوجه رسالة إلى ابنه كي لا تغرّه الدنيا. وأخيرًا إلى الشامت من المصير الذي انتهى إليه الشاعر، فيضرب لهم أمثالًا بما حلّ بمملكة الحضر التي غزاها سابور، وصنعاء التي دمرها مرازبة فارس. مع عدي ابتدأ عهد رثاء المدن، ولعلّ أبرز ما جاء فيه كان عن الأندلس، لكن بغداد ودمشق اللتين سقطتا بيد المغول كان لهما نصيب من ذلك الرثاء. وقبل ذلك، كانت الواقعة بين الأمين والمأمون في بغداد. وكنّا نعتقد أنّ القدس عروس عروبتنا، كما قال النوّاب آخر رثاءتنا، لكن هيهات، فهناك عواصم عربية، ومدن، وحارات، وبيوت يتنازعها الأثر والعين.

“لكلّ شيء إذا ماتمّ نقصانُ”:

هكذا افتتح أبو البقاء الرنْدي قصيدته التي رثى بها الأندلس كاملة تعبيرًا عن الزوال الكلي للحضارة الإسلامية في إسبانيا. وهو إذ يتصبّر على مآلات الأمور، إلّا أنّه يريد من القصيدة شاهدة قبر/ علامة/ ذاكرة أدبية، وأبدية، وكأنّ لسانه لسان أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن استشهاد عمر المختار: “رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ/ يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ”. يقول أبو البقاء:                                                دهى الجزيرةَ أمرٌ لاعزاء له /هوى له أحدٌ وانهد ثهلانُ.                                                                               فاسألْ بلنْسية, ما شأن مُرْسية/ وأين شاطِبَة , أم أين جيّانُ.                                                                                 وأين قرْطبة دار العلوم فكم/ من عالم قد سما فيها له شانُ.                                                                                قواعدٌ كنّ أركان البلاد فما /عسى البقاء اذا لم تبق أركانُ.                                            يعدّد الرندي المدن العظيمة في الأندلس، لكنّه يمهد لهذا التعداد بذكر الممالك والدول السابقة التي زالت عبر نفس ظاهرها مستسلم إلى واقع الحال، أمّا باطنها، فيدعو إلى استرجاع الأندلس: “هَلْ لِلجَهادِ بها مِن طَالب فَلَقَدْ / تَزَخْرَفَتْ جَنَّةُ الْمأْوَى” وبذلك يعيد الثيمة التي رأها الغانمي في ملاحظة كريمر عن أدب رثاء المدن الذي يستعيد حقبة الدمار من أجل الشروع بالعمار.

الديستوبيا رثاء آخر:

يعتبر أدب الخيال العلمي الذي ابتدأ مع هـ. ج. ويلز، مرورًا بإسحاق عظيموف مع مبادئه الأخلاقية الثلاثة التي تخضع لها الروبوتات؛ قراءة طللية لمستقبل الإنسانية إن لم تعتبِر من ماضيها، لذلك نجد أكثر الخيال العلمي؛ هو ديستوبيا. يتوقّف جوناثان غوتشل في كتابه؛ الحيوان الحكّاء عند رواية الطريق، لكورماك مكارثي التي تقصّ حكاية رجل وابنه في عالم ميت تدمّر نتيجة الحروب وجشع الإنسان. في المقطع الأخير الذي يصف فيه كورماك- من خلال الذاكرة/ الرثاء- سمك تروات النهري الذي يعني سمك قوس قزح، يعيد لنا كورماك فكرة الرثاء في بلاد ما بين النهرين. إنّ اختيار كورماك لسمك قوس قزح، إحالة ضمنية لمخيال طوفان نوح الذي أباد البشرية، لكن رؤية قوس قزح من قبل النبي نوح كان علامة على وعد جديد من الإله، بأنّ لا فناء للبشرية بعد الآن. يتساءل غوتشل ولا يستطيع أن يحسم إن كان ذكر سمك قوس قزح، هو تأبين أخير، أم أمل جديد! لا غرابة في حالة غوتشل! ونحن مثله نسأل: هل سيبقى للرثاء من آخر يسمعه ويعتبِر به، والكرة الأرضية لم تخرج من عنق زجاجة الكورونا والحروب والتداعي المناخي؟

المصادر:          

أصول وأنساب الآلهة – قصيدة كتبها هزيود عام 700 قبل الميلاد.بروكست شخصية من المثيولوجيا اليونانية، حيث كان قاطع طريق وحدادًا، يهاجم الناس ويقوم بمطّ اجسادهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوالهم مع سريره الحديدي.حياة وموت الصورة –ريجيس دوبريه، ترجمة فريد الزاهي – أفريقيا الشرق.ينابيع اللغة العربية، سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث – 2009.

باسم سليمان خاص ضفة ثالثةhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2021/9/28/%D8%B1%D8%AB%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%D9%D8%AF%D9-%D8%B9%D9%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9

[image error]
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2021 07:58
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.