لا لغُلول الكتب.. شذرات من تاريخ وآداب إعارة الكتاب- مقالي في ضفة ثالثة

باسم سليمان 11 أغسطس 2021

جاء تأسيس بغداد على يد أبي جعفر المنصور، وتألّقها في عصري الرشيد والمأمون، معلنًا بدء عصر ذهبي للكتاب، حيث حوى سوق الوراقين في بغداد على أكثر من مئة حانوت(1) تنسخ، وتباع فيها الكتب، وتؤجّر، وتستعار! وإن كان لدينا الكثير من الشواهد على نسخ، وبيع الكتب، وتأسيس المكتبات العامة والخاصة، والشغف باقتناء الكتب، إلّا أنّ المرويّات عن تأجير واستعارة الكتب لم تكن كثيرة، ولم يبق منها سوى بعض الحوادث، والنوادر، والأشعار التي تحضّ على إعارة وكراء الكتب؛ إفشاء للعلم والمعرفة، أو تحذّر منها خوفًا على الكتاب، أو ضنّا به على الراغب. وقد ذهب البعض إلى وضع الرهون التي تكفل إعادة الكتاب إلى صاحبه من قبل المستعير. لقد أفرد الخطيب البغدادي في كتابه؛ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، بابًا بعنوان: الترغيب بإعارة كتب السماع وذم من سلك في ذلك طريق البخل والامتناع. وقد أنشأ السيوطي رسالة من ورقة واحدة في السماح بإعارة محتوى المكتبة المحمودية في مصر، اسماها: بذل المجهود في خزانة محمود. وكان الحافظ أبو بكر بن مهيار اليزدي، قد أنشأ جزءًا تناول فيه عارية الكتب(2).

وإن كان لنا أن نضع كراء واستعارة الكتب بين قوسين؛ نستجلي من تنصيصهما رؤية تساعدنا في تصوّر ما كان يحدث، فلنبدأ بالمقارنة بين ما كان يفعله الجاحظ في سوق الكتب في بغداد، فقد كان يكتري حوانيت الكتب، ويبيت فيها للنظر(3) وما كان يفعله إسحاق بن نصير العبادي الذي كان فقيرًا معدمًا في بداياته، فقد كان يأتي ورّاقًا في بغداد يستعير منه الكتب، لأنّه لم يكن قادرًا على شرائها أو استئجارها، فإذا طالبه الورّاق بأجرة، قال له: اصبر عليّ حتى تتيسّر حالي. ودارت الأيام وأصبح إسحاق كاتب الرسائل في ديوان أبي الجيش خمارويه بن طولون في مصر، وبلغ راتبه في الشهر ألف دينار. وحدث أنّ صديقًا لإسحاق سافر إلى بغداد، فأرسل معه ثلاثة آلاف دينار: ألف لثعلب، وألف للمبرد، وألف للورّاق الذي كان يستعير منه الكتب، إيمانًا منه بأفضالهم عليه(4).  

لقد كانت عادة استعارة وتأجير الكتب من العادات الراسخة في تاريخ مجتمعنا العربي، فعندما احترق سوق الوراقين في دمشق، طالت النيران دكان الفاشوشة الكتبي، فاحترق له خمسة آلاف مجلد. ولم يبق له غير الكتب التي كانت معارة، أو في العرض عند الناس(5).

غُلول الكتب:

نشأت إعارة الكتب من السماع، فقد كان الاستملاء في المساجد أول عهدها؛ وذلك بأن يجلس الفقيه، أو الخطيب، أو العالم ويتحلق حوله طلبة العلم والراغبون في المعرفة يدوّنون ما تجود به قريحته في دفاترهم من أحاديث، وأحكام شرعية، وفقه، ولغة، وما شاكل ذلك. وإن حدث وامتنع أحد المدونين الذين كتبوا السماع، من إعارة دفتره، عِيب عليه ذلك. لقد شجّع الخطيب البغدادي على إعارة السماع، لأنّ في ذلك نشر للعلم واكتساب للمثوبة والأجر.

 تدخّل القضاء أكثر من مرّة في إقرار إعارة السماع، فقد ذكر البغدادي بأنّ قاضي الكوفة حفص بن غياث قد تحاكم إليه رجلان يدعي أحدهما على الآخر سماعًا منعه إياه، فأمر القاضي المدعى عليه بأن يخرج ما دوّنه من سماع في كتبه، وقال: “فما كان من سماع هذا الرجل بخطّ يدك ألزمناك، وما كان بخطّه أعفيناك منه”. وروي عن الفضيل بن عياض أنّه قال: “ليس من فعل أهل الورع، ولا من أفعال العلماء، أن تأخذ سماع رجل وكتابه فتحبسه عليه، ومن فعل ذلك فقد ظلم(6)”.

وقد جاء في كتاب الجامع عن يونس بن يزيد قال: قال لي الزهري: إياك وغُلول الكتب! قلت: وما غُلول الكتب؟ قال: حبسُها على أصحابها.

طبائع معيري الكتب ومستعيريها:

إنّ الموقف من إعارة الكتب، يكشف لنا أنفس الكتّاب، والورّاقين، والقرّاء، ومستعيري الكتب. كان صاحب الكِتاب ينطلق من أسس شرعية، وأخلاقية، ومعرفية في بذله كتبه لمن يطلبها. قال وكيع الكوفي: “أول بركة الحديث إعارة الكتب”. وروي عن سفيان الثوري بأنّه قال: ” من بخل بعلمه ابتلى بثلاث: أن ينسى علمه، أو يموت ولا يُنتفع به، أو تذهب كتبه. يدرج ألبرتو مانغويل في كتابه؛ المكتبة في الليل، قصة يتندّر بها سكان واحة أودان المشهورة بمخطوطاتها في أفريقيا بأنّ أحد الأشخاص قد وصل المدينة بأسمال بالية وقد أنهكه السفر. وبعد أن أكرمه أهل أودان التجأ إلى مكتبتها وبدأ بالقراءة، ولم يفلح أحد بأن يجعله يتكلّم. وبعد أن فقد إمام المسجد صبره على هذا الزائر الغريب خاطبه: “لقد كُتب بأنّ من يحفظ المعرفة لنفسه لا يدخل السماوات. كلّ قارئ ما هو إلّا فصل واحد في كتاب الحياة. وما لم ينقل معرفته إلى الآخرين، كأنّه حكم على الكتاب بالدفن حيًّا. هل تتمنّى هذا المصير للكتب التي أفادتك بأحسن ما يكون؟” وهنا، أجاب الرجل، الذي كان عالمًا شهيرًا بأنه أخذ وعدًا على نفسه، ألّا يفتح فاه إلّا حيث تبجّل المعرفة والثقافة.                                                                                    إنّ إعارة الكتب تنطلق من فلسفة تشاركية للمعرفة. هكذا نجد الكثير من أصحاب العلم يصدرون عن كرم وسماحة في إعارة كتبهم، فقد ذكر السخاوي عن أستاذه العسقلاني قصص وأخبار في إعارة الكتب تنم عن عطاء كبير، فقد كان يعير كتبه حتى لمن يسافر فيها. ومن طبائع بعض أصحاب الكتب أن يمنعوا إعارة ما لديهم حتى يوقظهم من غفلتهم طالب الكتاب، فقد جاء في كتاب الجامع بأن أبا العتاهية قصد بعض إخوانه يطلب كتبًا، فردّه صاحب له، لأنّه يكره أن تعار كتبه، فما كان من أبي العتاهية إلّا أن قال له: أما علمت أن المكارم موصلة بالمكاره؟ فدفع إليه الكتاب. وهناك من لا يعير كتبه إلا لصاحب ثقة أو بشرط القراءة، أو برهن من مال أو غيره، ويضاف إليه أن يكون المستعير ثقة ويوثق بأيمان مغلظة.  وذكر الخطيب البغدادي أبياتًا بينة في طلب الرهن والعهود: أعِرِ الدفتر للصا/حب بالرهن الوثيق                                                        إنه ليس قبيحًا أخذ رهن من صديق.

وعلى الرغم من ذلك كان صاحب الكتاب يعاني في استرجاع كتابه. وهاهو الجاحظ يقول:                                                                                    أيها المستعيرُ مني كتابًا/ ارضَ لي فيه ما لنفسِكَ ترضى                                         لا ترى ردّ ما أعرتُك نفلًا/وترى ردّ ما استعرتُك فرضًا(7).

مخاطر الإعارة:

بين المحبذ للإعارة والرافض لها، قد تكون الإعارة سببًا في انتحال البعض تصانيف وكتب الآخرين. وقد تؤدي إلى ضياع الكتب؛ وخاصة عند من يتهاون في حفظ الكتاب، وحتى أنّ هناك من يمتنع عن ردّه. وجاء في كتاب إنباء الرواة للقفطي، بأن ياقوت الحموي قد استعار جزءًا من مسودّة كتاب؛ المحصّل في شرح المصنّف، للنحوي أبي الفتح الديباجي المروزي ومن ثم جاء به إلى حلب، ممّا أدى إلى نقصان الجزء الذي جاء به ياقوت من الكتاب. والغريب بأنّ ياقوت قد أورد في مقدمة كتابه معجم البلدان بأنّه قد أقسم إلّا يعير مسودّة كتابه.

وأورد الحافظ أبو بكر بن مهيار اليزدي في رسالته المذكورة أعلاه بأن قبيصة الكوفي قد قال: ” كنّا نعد عاريّة الرجل أصل كتبه هُجنة”.

وهناك من ينتحل الكتاب، وينسبه إلى نفسه. وقد ذكر السيوطي في كتابه؛ البارق في قطع السارق، بأنّ ابن حجر قد أعار بعض تلامذته  نسخة من الطبقات الوسطى للسبكي، وعليها حواش بخطّه استدركها من التواريخ، فأخذ المستعير يؤلف طبقات، وأدخل فيها تلك التواريخ من دون أن يذكر بأنه أخذها من ابن حجر، فخاطبه معاتبًا ومؤنبًا: “…أما سمعت قول العلماء: بركة العلم عزوه إلى قائله”. وأمام هذه الحالة اضطر السيوطي في مقالته؛ الفارق بين المصنف والسارق، لأن يذكر أنّه أبهم نقولًا عن أئمة، فأوردها السارق على إبهامها، ولو سئل السارق في أي كتاب هي، لم يدر خنصرها من إبهامها. أمام هذه المخاطر كان البعض يرفض الإعارة مطلقًا. وجاء في كتاب المسارعة إلى قيد الأوابد بأن محمد بن مصطفى أنشد: كم من كتابٍ شريف ضاع عارية/ فصرتُ من بعده في الناس حيرانًا.

فقه الإعارة:

هذا الواقع الجديد الذي فرضه انتشار الكتاب وقيام المكتبات، أدّى إلى ظهور القواعد القانونية والعرفية لضبط حالات الإعارة، ومن ثمّ الاجتهادات الفقهية التي تغطي المستجدات الطارئة، وخاصة مع ظهور المكتبات في كافة البلاد الإسلامية في بغداد، ودمشق، والقاهرة، والأندلس.

ذكر تاج الدين السبكي في الواجبات التي تقع على خازن الكتب (أمين المكتبة): أنّه حقّ عليه الاحتفاظ بها، وترميمها، وحبكها، والضِّنّة بها على من ليس من أهلها. وأن يقدّم في العارية الفقراء على الأغنياء. وأن يشترط ألّا يخرج منها كتاب إلّا برهن. ومع ذلك لم يخلُ الأمر من خازنين فاسدين، ففي المكتبة المحمودية في مصر، والتي كان خازنها السراج عمر، فقدت المكتبة 130 مجلدًا، خلال إدارته لها، وبناء على ذلك، تم عزله(8).

يورد ألبرتو ما نغويل في كتابه المكتبة في الليل بأنّ موسوعة تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد تحمل ابتهالًا لعشتار: ” لتحل بركة عشتار على القارئ الذي لا يغيّر شيئًا في الألواح، ولا ينقلها إلى مكان آخر في المكتبة. وليحل سخطها على من يجرؤ على اختلاسها من المبنى”.

إنّ المقارنة بين زمننا والزمن الماضي في إعارة واستعارة الكتب، يكاد أن يكون طبق الأصل، فشروط الاستعارة من المكتبات العامة تكاد تكون كما ذكر السبكي، فيما تطلب المكتبات الخاصة رهنًا ماديّا أو معنويّا، أمّا ما بين الأفراد، فكثيرًا ما نسمع الشكوى من أصحاب الكتب من التصرفات السيئة التي يقوم بها مستعيري الكتب، أسواء كانت في حبس الكتاب وعدم ردّه، أم تضييعه، وتخزيقه. وعلى الرغم من ذلك، مازالت عادات إعارة الكتب واستئجارها موجودة بقوة، مادام خير جليس في الأنام كتاب كما قال المتنبي.

المصادر:

موسوعة الوراقة والورقين في الحضارة العربية الإسلامية، د. خيرالله سعيد، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2011.آداب إعارة الكتب في التراث الإسلامي، محمد خير رمضان يوسف – دار ابن حزم – 2005.الفهرست، ابن النديم.كتاب المكافأة وحسن العقبى، ابن الداية، حققه محمود محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت.   مجلة الخزانة الفصلية، العدد السابع، آذار- 2020.6-    كتاب الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع، الخطيب البغدادي – الناشر مكتبة المعارف 2009المصدر السابق.آداب إعارة الكتب في التراث الإسلامي، محمد خير رمضان يوسف – دار ابن حزم – 2005.

خاص ضفة ثالثة

باسم سلي

مان

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 11, 2021 09:53
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.