أمسية حبر أبيض: قراءة في شعر رنيم ضاهر ورينيه زوين نصار

يصعب أن تكون موضوعيًّا وحياديًّا مع الشعر؛ فالشعر يشكّل تحديًّا قاهرًا للأكاديميا، لمنطقها الرصين، ولأناقتها الفاخرة.فكيف يمكن لنا أن نعقد هدنةً بينهما؟ وهل نقدر؟ وهل من الضرورة حدوث ذلك؟يتأزم هذا الوضع مع الكلام المنبري؛ فالمنبر يحتاج إلى عبارات واضحة، مكتملة، من دون الحاجة إلى لائحةٍ من الإحالات والمراجع... وفوق ذلك، تسقطُ مع المنبر، سيادةُ الورقة، ويتحولُ الحبرُ إلى نبرة، نبرة تعرف متى تعلو، ومتى تهبط، ومتى تسير في دربٍ مستقيم... من هنا أسعى إلى الوقوفِ في المنتصف، بين قراءتين: موضوعية وذاتية، علّني بذلك أقدر على تقديم قراءةٍ خاصة في نصوصِ الشاعرتين رينيه زوين نصّار، ورنيم ضاهر، قراءة مواربة حينًا، ومباشرة حينًا.

*بدايةً، وبعد قراءة أولية لنصوص الشاعرتين، يجدُ المرءُ نفسَه، أمام مزاجين لا يجمعهما شيء حتى الشعر؛ ففيما رينيه تهاب الاقتراب من جحيم المعنى، وتشاء الجلوس أمام مشهد الغابة، متكئة على تركيب لغوي آحادي الاتجاه من الأنا إلى الهو، ترمي رنيم كلَّها في نار الغابة المشتعلة، من دون اكتراثٍ لتشظيات التأويل، وحدودِ الصمت، وحدود الموت، فيفضحُها نواحُها الداخلي، وتفضحُها انكساراتُها التي تنمو كالصبّارِ على ضفتي نهرٍ لا يسير إلى بحره ولا يعود إلى منبعِه. في تلك اللحظة، في تلك الحَيرة القاتلة، يتلاشى صوتُ الماضي والحاضر والمستقبل لتكتملَ العبارة الناقصة عبر لغةٍ دائرية؛ نقطةُ الارتكازِ فيها "أنا" شاعرة تحرقُ كلَّ وسائلِ النجاة، وتشاء أن تكون كطائرِ الكوتيزال أو طائر الحرية الذي يقتل نفسَه إذا وقع في الأسر.*بدا ثمة إمكانية لوضع خطٍّ فاصلٍ بين التجربتين الشعريتين، وضمن حقلين معجمين دالين:- أولاً: تجربة رنيميمكن وضع هذه التجربة تحت عناوين: الأنا النازفة، وما يتفرع منها من لغة البوح الداخلي الذي يرتقي إلى مستوى الصراخ من دون صوت، والبكاء من دون دموع. لذا تسيطر على موضوعات النصوص حالات الفقد، والموت، والنقصان، والنهايات... وما قد يبدو لافتًا للانتباه في هذا الخصوص، هو تمجيد الألم، والخسائرِ على المستويات كافة، وكأن كيانَ الحالةِ الشعريةِ لا يكون إلا بالسيرِ على دربِ الجلجة، وجلد الذات.يمكن للمرء أن يتمثلَ في هذه الحالة، نماذجَ من شعر رنيم، تقول:
عوائي تأمل في الأشياء / صوتي يموت معي / الذئب بخير / أنبح بمئات الأحلام / يدك تقبلني كعبارة ناقصة /
أخشى أن ألده/ يومًا ما سيسألني عن رماد والده/ يومًا ما لن يجد أبًا ليقتله.
تصب القهوة في صوت جدتها/ تحلم فقط بنبش العظام من أرض محسوسة / يسير إلى ختام الغابة / عوت في هواء مجعد / وديان قاحلة / أتلهى بمد حبال الغسيل / الذاكرة موضوع إنشاء / عباراتي طينية.
ثم يمكن للمرء أن يلحظ، أن كل ما ورد أعلاه، يخضع للدائرة الكلية المحيطة لكل "أنا" رنيم، تلك الدائرة التي تمتلك المفتاح، لكن لا تجد الباب. فلنلحظ العبارات الآتية:قبيحة كأرملة / الشعر أرملة أبدية /
يُودع أرملتَه في البئر/ ويمضي كفيلسوف شاحب /
لكلبة تشيخ عند قدمي صاحبتها الأرملة / ... إلخ
يا رجل روحي كن إله قلبي
يبرز في هذه المشهدية، الفعلُ الأنثوي الآمر، جليًا وواضحًا، وفي الوقت نفسِه يرتسم النداء، والنداء يفضح البعد، إذ يكشف للمتلقي، عن وجود مسافة بين طرفين.لا تكتفي رينيه بهذه اللغة العالية الآمرة، بل تُغرق بعض نصوصها في أفعال الأمر الموجهة إلى الهو الرجل، ومن ذلك:حارب / اقطع / استأنس / لا تتنازل...
فرينيه تريد رجلاً من صنعها، تشكل هي طينتَه، وتحدد هي سماتِه وخصائصَه، وردودَ أفعاله. إنها تستعيد الدور الأول للمرأة الإلهة، لذا لا يعنيها الموعد أي اللقاء بهذا الرجل، بقدر ما يعنيها العشق لانتظاره، أي لانتظار أن يصبحَ كما هي تريد وتشاء، ليكون إلهًا مثلها. تقول:وأنا في انتظارِ موعدنا عشقتُ الانتظارَ لا الموعد
وتقول:عندما تحبني تكون إلهًا كاملاً
ما همّني فليكفنوك / ما دمتُ مقبرتَك أنا... / ما دمتُ قيامتَك أنا
كامل فرحان صالح - Kamel Farhan Saleh
Published on August 08, 2021 12:26
No comments have been added yet.
Kamel Farhan Saleh's blog
هذه مدونة كامل فرحان صالح
وهو شاعر وناقد وأكاديمي لبناني
وهو شاعر وناقد وأكاديمي لبناني
- كامل فرحان صالح's profile
- 33 followers
